مرت الذكرى السابعة عشر لإقامة اتحاد المغرب العربي في 17 فبراير الجاري دون ضجيج يُذكر، وبهدوء محزن لا للذكرى بقدر ما هو من مرارة الفشل والإخفاق لدول المغرب العربي التي لم تتذكر مشروع الاتحاد إلا بعدد من البرقيات والتهاني في صحف بلدان المغرب العربي... ولعل الواجب على الفاعلين السياسيين من العرب والمسلمين أن يقفوا ملياً لدراسة وتَتبّع مسار التجربة المغاربية لاستيعاب العبر والدروس وتجاوز الخلاف من أجل بناء الكيانات العربية والإسلامية بشكل فعّال، لمواجهة تجبر وقوة التكتلات الدولية التي باتت عنوان المرحلة..ومن ثم تأتي تلك الإطلالة على تاريخ وعوائق عمل الاتحاد المغاربي ومستقبله .. تعود الإرهاصات الأولى لإنشاء "اتحاد المغرب العربي" إلى مؤتمر عقدته الأحزاب المغاربية بمدينة طنجة بالمغرب في أواخر شهر أبريل عام 1958، بمشاركة ممثلين لعدد من الأحزاب من المغرب وتونسوالجزائر، وخلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي طُرحت عدة مبادرات لتوحيد دول المغرب العربي في شكل معاهدات ثنائية، والبعض الآخر في شكل اتفاقيات تشمل كل أو معظم دول المغرب العربي، وتمثلت أول مبادرة جادة لتأسيس هذا الاتحاد في "إعلان زرالدة" الذي صدر عن قادة كل من الجزائر وموريتانيا والمغرب وتونس وليبيا، خلال لقائهم على هامش القمة العربية التي استضافتها الجزائر في يونيو عام 1988، وهو الإعلان الذي أوصى بتشكيل لجنة تبحث في إيجاد وسائل تحقيق وحدة المغرب العربي، وفي السابع عشر من شهر فبراير عام 1989 أعلن قادة الدول الخمس خلال اجتماع لهم بمراكش في المملكة المغربية عن تأسيس اتحاد إقليمي تحت اسم "اتحاد المغرب العربي". وتبنى ميثاق الاتحاد عدة أهداف، منها؛ تعزيز أواصر الأخوة بين الدول والشعوب الأعضاء في الاتحاد، وتحقيق الرفاهية لتلك المجتمعات، والمساهمة في صيانة السلام القائم على العدل والإنصاف، وانتهاج سياسة مشتركة بين الدول الأعضاء في مختلف الميادين، والعمل بشكل تدريجي على تحقيق حرية تنقل الأشخاص والبضائع والخدمات ورؤوس الأموال بين هذه الدول. وتوقّع الخبراء وقتها حدوث وحدة كاملة بين دول الاتحاد. وجاءت نشأة الاتحاد في نهاية الثمانينيات متزامنة مع مرحلة مخاض دوليّ وقارّي، أهم معالمه انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، مع ما جره ذلك التحوّل من تحريك لبعض الأنظمة العربية والمغاربية التي كانت تسير على النمط الاشتراكي، فبدأت تميل تدريجياً ناحية اقتصاد السوق وخصخصة القطاع العام، وترافق ذلك مع بزوغ رغبة أمريكية في الهيمنة على مقاليد الأوضاع في العالم وفرض القطبية الأُحادية، وبروز القناعة لدى عدد من البلدان العربية والإفريقية بأن العصر الجديد سيكون عصر التكتلات، مسترشدين آنذاك بالنقاش الذي فُتح داخل المجموعة الأوروبية حول التمدّد شرقاً والتحول إلى الاتحاد الأوروبي، وظهور النقاش بشأن العملة الأوروبية الموحدة التي أصبحت في بداية القرن الحادي والعشرين واقعاً ملموساً. وفي واقع الأمر فإن الاتحاد المغاربي قد انتهى عملياً في بداية التسعينيّات من القرن الماضي، أي بعد أقل من ثلاث سنوات على إطلاقه. فالأزمة الجزائرية التي اندلعت في عام 1991 والدخول في دوّامة الحرب الداخلية وانتشار العنف، بعد انقلاب الجيش الجزائري على الانتخابات البلدية والتشريعية التي شهدتها البلاد وفازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أوقفت محرك الاتحاد عن الاشتغال، وأدخلته غرفة المراقبة – وأحيانا العناية المركزة - التي استمرت طويلاً بفعل التحوّلات السياسية السريعة في الجزائر ، وظهور المؤسسة العسكرية كفاعل رئيس في إدارة الصراع السياسي في الداخل والخارج. ومجدداً كانت قضية الصحراء الغربية هي الورقة المركزية في كل هذه التحولات، بحيث لم تخضع لقانون التحوّل هذا في السياسات الجزائرية المتقلبة، فقد نشأ الصراع في الأصل كمحاولة من الجيش الجزائري للحيلولة دون تمدّد المغرب جنوباً ، وكان هدف الجزائر في عهد بومدين ألاّ يتحول المغرب إلى لاعب رئيس في المنطقة، في الوقت الذي كان النظام الجزائري يرى أنه داعية الاشتراكية في المنطقة وعدو الأنظمة الملكية، ومناصر حركات التحرّر العالمية الاشتراكية في تلك المرحلة. وقد ظل اتحاد المغرب العربي منذ اندلاع الأزمة الجزائرية مجرّد مشروع على الورق ، بانتظار أن تتجاوز الجزائر أوضاعها الداخلية، إلى أن جاء عام 1994 عندما طلب المغرب رسميا تجميد مؤسسات الاتحاد احتجاجاً على المواقف الجزائرية من قضية الصحراء الغربية، وكانت تلك بمثابة الضربة القاضية لما تبقى من هياكل ومؤسسات الاتحاد ! تحديات في طريق الاتحاد ولعل حالة الجمود التي يشهدها الاتحاد المغاربي منذ ذلك التاريخ تدعو للشعور بالمرارة والحزن ، في ضوء العوامل المشتركة التي تجمع بين المغاربة؛ من وحدة الدين، والتاريخ، والثقافة، واللغة، والتي تعد كلها مقومات تكامل وتوحد لبلدان المنطقة على طريق تفعيل جوانب التعاون المختلفة (سياسية اقتصادية اجتماعية ) . ولكن على الرغم من كل ذلك بقيت التوترات البينية هي السمة التي تطبع العلاقات المغاربية في أكثر أوقاتها، مما انعكس سلباً على مجمل الأداء المغاربي؛ الشيء الذي ترجمه بوضوح تجميد مؤسسات الاتحاد منذ عام 1994 بطلب مغربي ، وفي لحظة توتر في العلاقات مع الجزائر، مما أعاد المشروع برمته إلى درجة تقترب من الصفر هبوطاً...ولعل تلك الحالة تستدعي التوقف عند أسبابها والتي تمثل تحديات ومعوقات في الطريق نحو الوحدة والتقارب...أهمها. المطامع الخارجية وبجانب التحديات والعراقيل الداخلية تقف المصالح الخارجية والمشروعات الأوروبية والأمريكية الهادفة لإعادة صياغة المغرب العربي حسب مصالحها، خاصة بعد مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001، أي مرحلة الانخراط في منظومة إقليمية ودولية تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية لمحاربة الإرهاب بمفهومه الأمريكي، وتسعى الولاياتالمتحدة من خلالها إلى هندسة المنطقة بحسب الأولويات الأمنية، وتريد لبلدان المنطقة أن تنخرط فيها أسوة بما يجري في مختلف بقاع العالم. وتصارع المنطقة عدة مشاريع بهدف السيطرة عليها، فمن جهة هناك محاولات من حلف الناتو للتمدّد والانتشار في المنطقة القريبة من المتوسط، والتي يرى أنها تمثل تهديداً مفترضاً لمصالحه، بحسب التعريف الجديد الذي وضعه الحلف للتهديد الأمني خلال قمة هلسنكي، وقد أصبح المغرب حليفاً له من خارج أعضائه في السنة الماضية برغبة أمريكية واضحة، ويجري في الوقت الحالي التباحث مع الجزائر وموريتانيا بشأن إيجاد صيغة محدّدة للتعاون الأمني معها ، كل ذلك في إطار الحوار الذي يقوده الحلف مع بلدان غرب المتوسط تخوفاً من انبعاث تهديدات أمنية من المنطقة المتوسطية أو من منطقة الساحل والصحراء. وإلى جانب هذا يوجد أيضاً تحدي الشراكة الأوروبية المغاربية التي انطلقت عام 1995 في مؤتمر برشلونة الأورو متوسطي، والذي يركز على فتح أجندة جديدة له تركز على البعد الأمني، وكذا تحدي الشراكة الأمريكية المغاربية التي بدأت عام 1998 بالمشروع الذي أُطلق عليه اسم"مشروع إيزنستات"، نسبة إلى نائب وزير التجارة الأمريكي الأسبق. ومن ضمن التحدّيات التي تعرقل عمل اتحاد المغرب العربي ملف التطبيع مع الكيان الصهيوني، فبلدان المغرب العربي يبدو أنها أصبحت في الآونة الأخيرة ضمن دائرة الاستدراج نحو التطبيع بتوصيات أمريكية، بغية فتح الطريق نحو إفريقيا التي لا يخفى أنّ للكيان الصهيوني مصالح متعددة فيها، سياسياً واقتصادياً وثقافياً؛ إذ إن بلدان المنطقة المغاربية الخمس جميعها دخلت بشكل أو بآخر في نسج علاقات مع الدولة العبرية، و كانت المغرب وتونس وموريتانيا قد وصلت إلى حد فتح مكاتب لها في تل أبيب إبان التسعينيات من القرن الماضي، كما أن الجزائر وليبيا قد بدأتا في رفع أي تحفظات بشأن هذا الموضوع. وهذه التحدّيات كلها علاوة على التحدّيات الأصلية التي كانت في صلب إنشاء الاتحاد قبل عقد ونصف، وتخص النهوض بأوضاع المنطقة اقتصادياً وصناعياً وإيجاد قنوات لتبادل المنافع وفتح الحدود، هي التحدّيات المطروحة اليوم في أجندة الاتحاد، ويستلزم حلها في سبيل إحياء دور الاتحاد المغاربي. آمال مستقبلية وعلى الرغم من حجم التحديات إلا أن أجواء جديدة من الحماس لتنشيط الاتحاد وبعث الروح فيه بدأت تلوح في الأفق، تترجمها الاجتماعات والتحركات الأخيرة على مستوى المسؤولين والدبلوماسيين المغاربة ، مما يدفع إلى التفاؤل بإعادة بعث الاتحاد ، وإعادة مشروعه إلى دائرة التداول السياسي والإعلامي ، بعد أن تحوّل إلى ذكريات وأصبح نسْياً منسياً. الأمل الجديد ليس مبعثه أن المشاكل السياسية بين الأنظمة المغاربية قد تم تجاوزها، رغم التحسن الملحوظ في العلاقات الثنائية يبين البلدان الخمس ، وخاصة على محور طرابلس انواكشوط بعد الإطاحة بنظام الرئيس الموريتاني السابق معاوية ، ولكن الأمر يبدو في جوهره استجابة لأوضاع وظروف لا يمكن إغفالها ، وتعاطياً مع ظروف خارجية لا تمكن مغالبتها، ضغوط يمكن أن نعدّها إلى حد ما من النوع الإيجابي تمت ممارستها على هذه الأنظمة ، وتستهدف تفعيل الاتحاد وتنشيط هياكله الميتة، وذلك في حد ذاته إيجابي. ولعل القوى الاقتصادية الأجنبية هي التي تدفع اليوم نحو تعاون مغاربي، فأوروبا التي فضلت في السابق المدخل الثنائي في مفاوضاتها مع دول المغرب العربي الذي لا تعدّه -اقتصادياً- كتلة واحدة ، فأبرمت اتفاقات شراكة مع كل من تونس والمغرب والجزائر في إطار الشراكة الأوربية المتوسطية، لكنها بدأت تدرك اليوم أن مشاكل الدول المغاربية لا يمكن حلها من خلال مدخل ثنائي، فالهجرة عموماً - والسرية منها خصوصاً - باتت تشكل هاجس أوروبا التي بدأت تؤمن بحل إقليمي لهذه الظاهرة ،من خلال تنمية منطقة جنوب المتوسط بأكملها، وبدأت تضغط في ذلك الاتجاه، كما يطالب الأوروبيون المغاربة المنخرطين معهم في الشراكة الأوروبية المتوسطية بتحرير التجارة فيما بينهم وعقد شراكة على نمط الشراكة مع الأوروبيين. أما الأمريكيون فمحتاجون لتفاهم مغاربي يتجاوز حل بعض المشاكل العالقة بين بعض دول الاتحاد إلى خدمة التوجهات الأمريكية نحو شمال إفريقية ككل، وهي توجهات متعددة الرهانات والأبعاد (الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية) وبأهداف تشمل نشر قواعد عسكرية جديدة، ودمج أكبر في مشروع الشراكة الشرق أوسطية ...ولعل التخوّف الذي يبدو في الأفق أن يكون تطوير الاتحاد المغاربي بشكل مضادّ لتوجهات شعوب المنطقة، وخدمة لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يشكل أساس المخططات الغربيةوالأمريكية .. كل ذلك على حساب تطلعات الشعوب المغاربية في التنمية والتكامل والوحدة ! المصدر الاسلام اليوم