ويبدو أنه ليس في الولاياتالمتحدة أحد يتذكر الصيحات التي حيّت قرار شركات صناعة السيارات اليابانية في السبعينيات والثمانينيات ببناء مصانع في ولايتين أميركيتين هما كنتاكي وألاباما. وليس هناك أيضاً من يجري تذكيره بأن إغلاق المصانع بحثاً عن عمالة صناعية أرخص هو أمر له تاريخ أطول. ففي عام 1954، طالب اتحاد عمال النسيج الأميركي بزيادة أجور العمال في شركة ألكساندر سميث لصناعة السجاد، التي أغلقت مصانعها في نيويورك ووسعت مصنعها في ولاية المسيسيبي. وليست حالة هذه الشركة سوى واحدة من حالات كثيرة مماثلة اقتضت نقل الوظائف من الولايات الشمالية الشرقية ذات التاريخ الصناعي الطويل إلى الولايات الجنوبية التي ما تزال زراعية بوجه عام. \r\n \r\n وقد هاجمت اتحادات العمال الأميركية عملية الاستعانة بالعمالة غير المحلية ونقل الوظائف، ليس من بلد إلى بلد آخر، بل من منطقة إلى أخرى. بل كانت تلك الاتحادات تصف مصانع الجنوب بأنها ورشات هاربة. \r\n \r\n لكن الفرق في الأجور بين الشمال والجنوب كان أكبر من أن تتجاهله الشركات المدفوعة بالضغوط التنافسية، فانتقلت مصانع النسيج والألبسة والمنتجات الخشبية إلى الجنوب بسرعة كبيرة. \r\n \r\n ويركّز معظم المعلّقين اليوم على الأرقام المتعلقة بالتوظيف، ناسين أو متناسين تلك التغيرات القوية الاجتماعية والثقافية والسياسية- الإيجابية منها والسلبية- المصاحبة لنقل المصانع والاستعانة بالعمالة غير المحلية. \r\n \r\n وتتميز هذه التغيرات بدراماتيكية خاصة في الجنوب الأميركي. فحتى بعد مضي قرن على نهاية العبودية، كان الجنوب في الخمسينيات يعاني من الفصل العنصري. لكن المعارك حول الحقوق المدنية انطلقت مع بدء انتشار المصانع على أرض الجنوب. \r\n \r\n وفي عقد الستينيات، بلغ الصراع الأكبر في سبيل المساواة العرقية ذروته بإلغاء الفصل العنصري في المدارس والأماكن العامة الأخرى، وبحماية حق السود في التصويت، وفوق ذلك كله تم إلغاء المحاصصة (استغلال الأرض لمصلحة المالك مقابل جزء من المحصول) وغير ذلك من آثار الماضي الذي سبق الفورة الصناعية. وبدأ ارتفاع الأجور الذي كان في الجنوب أسرع منه في الشمال، فبدأت الأجور في الجنوب تلحق بنظيراتها في الشمال. \r\n \r\n ولذلك كان ما شهدناه في الجنوب تحولاً إقليمياً مناطقياً- من الاقتصاد الزراعي المتخلف في الموجة الأولى إلى منطقة ذات قاعدة صناعية قوية في الموجة الثانية. وترافق ذلك مع تحسن هائل في مستويات المعيشة، التعليم، الصحة والإسكان، وهكذا وُلد مصطلح \"الجنوب الجديد\". \r\n \r\n لكن عقد الستينيات شهد جولة أخرى من الاستعانة بالعمالة غير المحلية، إذ أدى البحث عن العمالة الأرخص إلى انتقال مصانع النسيج والألبسة من الجنوب إلى أميركا الوسطى وجزر الكاريبي. \r\n \r\n ومن الجائز للمرء أن يتصور أن هجرة الوظائف إلى الخارج أعادت الجنوب إلى سابق عهد الفقر والبؤس. لكن ذلك لم يحدث في الحقيقة. فالجنوب الآن يفخر بأن فيه 15 من أصل 60 مدينة كمبيوتر وتكنولوجيا. وتتباهى ولاية نورث كارولينا بأن فيها ما يدعى بمثلت الأبحاث. أما تكساس فتفخر بمركز هيوستن الفضائي وبمصانع شركات مثل Dell Coputers و AMD.أما مصانع شركة لوكهيد مارتن فموجودة في جورجيا وفلوريدا. وتوخياً للاختصار أقول إن الجنوب قد انتقل من الزراعة المتأخرة المنهِكَة في الموجة الأولى إلى الفورة الصناعية في الموجة الثانية، وهو الآن يركب الموجة الثالثة في سياق التغيير إلى مزيد من التحول إلى اقتصاد مؤسس على المعرفة. \r\n \r\n على مدى نصف قرن، دأب الاقتصاديون التنمويون على إخبار البلدان الفقيرة بأن سبيلها الوحيد إلى الخروج من دائرة الفقر تسلسلي ويقتضي ركوب الموجة الأولى ثم الثانية. وهناك اليوم بلدان، كالصين والهند، لا تشعر بالرضا حيال إتمام الموجة الثانية (التصنيع) قبل بدء الموجة الثالثة (التنمية والتطوير) \r\n \r\n ويدرك الزعماء الآسيويون، أكثر من نظرائهم في أميركا اللاتينية وغيرها، أن التصنيع في الموجة الثانية وحده لا يكفي، وأنه سيترك أممهم متخلفة؛ وعلى أساس هذا الاعتقاد تصرّف ويتصرف كل زعيم منهم كان لنا معه حديث. \r\n \r\n وقد قام لي كوان يو مؤسس سنغافورة بدفع الميناء الخامل ليصبح مركزاً ريادياً عالمياً في مجال التكنولوجيا والخدمات. وأصبحت سنغافورة في عام 2002 أول مستثمر آسيوي في مجال التكنولوجيا الحيوية، حيث تضم مدينة البيولوجيا Biopolis العشرات من الشركات الرائدة في ميدان التطوير والبحث الطبي. \r\n \r\n وحدد مهاتير محمد الأهداف المعنية بالتكنولوجيا المتقدمة من أجل ماليزيا عام 2020، وحاول -ولو بنجاح محدود- أن يستحدث سوبر كوريدور أو رواق عملاق للوسائط المتعددة. لكن الأهم من ذلك أنه ناضل في سبيل دفع المدارس الإسلامية إلى تخصيص وقت أطول لتدريس مواد الرياضيات والعلوم. وأطلق رئيس كوريا الجنوبية الأسبق كيم داي يونغ حملة ناجحة لدفع بلده إلى مكان الريادة في تطبيق تكنولوجيا المعلومات واتصالات النطاق العريض. \r\n \r\n ويدرك الرئيس الهندي عبد الكلام دور التكنولوجيا من الداخل، إذ كان كبير العلماء والمهندسين في البرنامج الفضائي الهندي. \r\n \r\n ويتضح من خلال أحاديثنا مع هؤلاء الزعماء الآسيويين أن الوظائف الصناعية المنخفضة الأجور في الموجة الثانية- بل وحتى الوظائف الروتينية التي انتقلت من الولاياتالمتحدة إلى الهند- ليست إلاّ خطوات صغيرة في الطريق إلى شيء أكبر أهمية، وهو القفزة إلى الموجة الثالثة حيث المجتمع والاقتصاد مؤسسان على المعرفة. \r\n \r\n وذلك ما دفع الصين إلى دخول عصر الفضاء، وما جعلها عازمة على التحول إلى قوة عظمى في ميدان التكنولوجيا الحيوية، وهو أيضاً ما جعلها تضع 200 مليون هاتف نقّال قيد الاستخدام في غضون سنوات قليلة. وذلك أيضاً ما دفع الهند إلى بذل كل الجهود لاجتذاب وظائف قطاع المعرفة من وادي السيليكون الأميركي. \r\n \r\n إن ما تفعله آسيا الآن يتعاظم إلى درجة التحول إلى تجربة اجتماعية واقتصادية عملاقة تلعب فيها الاستعانة بالعمالة غير المحلية دوراً رئيسياً. ولذا تبنت كل من الصين والهند استراتيجيات مؤسسة على التنمية المتزامنة، وليس التسلسلية، لقطاعات الموجة الثانية والثالثة، وهو ما يعني الاندفاع بأقصى سرعة إلى التكنولوجيا المتقدمة والإنتاج المؤسس على المعرفة. \r\n \r\n فهل يستطيع الآسيويون أن يتجاوزوا مرحلة، كما قالوا، أو يختصرونها على الأقل؟ \r\n \r\n فما هو مستقبل الاستعانة بالعمالة غير المحلية؟ \r\n \r\n ليس في آسيا والغرب عصا سحرية للانتقال إلى مستقبل الموجة الثالثة. لكن ذلك لا يعني عدم إمكانية اتخاذ بعض الخطوات، حتى قبل إتمام الموجة الثانية. فمن الممكن تجاوز التكنولوجيات؛ والصين مثلا ً لم تجد مبرراً لبناء شبكات هاتفية سلكية بوجود إمكانية الانتقال المباشر إلى الاتصالات اللاسلكية. \r\n \r\n لكن ما لا يمكن تجاوزه بسهولة هو التعليم الذي يتطلبه الاقتصاد الذي تكون فيه أهمية المعرفة في أقصى درجاتها. فليس هناك أمل لأي بلد في بناء اقتصاد الموجة الثالثة دون وجود التعليم الكافي الملائم والحوافز القوية للابتكار. ولا يستطيع أي بلد أن يبني اقتصاد الموجة الثالثة دون السماح بحدوث التغيرات الداعمة في الحياة الاجتماعية وبنية الأسرة والثقافة والسياسات. \r\n \r\n ولا تستطيع الصين ولا الهند الاعتماد على مواصلة اجتذاب العمالة من الولاياتالمتحدة وغيرها بالمعدلات الحالية. فحكومات الأمم التي تستقطب العمالة الخارجية ستجد طرقاً إلى إبطاء العملية بتهديد مختلف أشكال الحمائية، وهذا ما تفعله الآن. \r\n \r\n في الحقيقة أنه سيتم إلغاء الكثير من الوظائف الروتينية التي انتقلت إلى الهند والصين، بسبب الاتصالات والكمبيوترات والتكنولوجيات الجديدة التي تزداد رخصاً وتنفي ضرورة هذه الوظائف، لكن بعضها سيهاجر إلى بلدان العمالة الأرخص، ربما الأفريقية. إلا أن ارتفاع تكاليف القوانين البيئية والأعمال يعني أن نسبة العمالة ستتقلص، وهو ما يعني بدوره أن العمالة الرخيصة بحد ذاتها ستلعب دوراً في قرارات الشركات. \r\n \r\n ويضاف إلى ذلك أن التطور السريع في كل مكان سيؤدي إلى توليد الضغوط والتوترات الاجتماعية المصاحبة. \r\n \r\n أما \"الصراعات الموجية\" فتنشأ بين الأمم التي تعتمد في قوتها ونفوذها على صيانة الاقتصاد القديم، والأمم التي تسعى إلى الاقتصاد الجديد. \r\n \r\n فكيف يمكن أن تنتهي نزاعات كهذه في البلدان المنطلقة في الموجتين معاً؟ \r\n \r\n إنه واحد من جملة التساؤلات العميقة التي لن تسمعوا على الأرجح مناقشتها من قِبل الاقتصاديين التقليديين ومرشدي الإعلام والسياسيين المتعطشين إلى أصوات الناخبين في الجدل الدائر حول الاعتماد على العمالة الخارجية. إن موقف هؤلاء يحوّل الانتباه عن التحديات الحقيقية الطويلة الأمد التي تواجه كل بلدان العالم مع انطلاق موجة التغيير الثالثة التي تكتسح العالم كله. \r\n \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز\"