سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بعد 95 سنة من تأسيس هنري فورد لفكرة "رأسمالية الرفاه الاجتماعي"
خبير أمريكي: زيادة أجور العمالة الآسيوية يدعم الطلب العالمي ويعمل بنهاية الركود الاقتصادي
لقد كان هنري فورد أسداً أمريكيا من أسود الابتكار الصناعي مثلما كان أيضا بطلا للرجال من أبناء مهنته. ففي عام 1914 آثار الرجل كثيرا من الكدر في نفوس أبناء النخبة الأمريكية من ذوي النظرة الأحادية عندما قرر زيادة أجور عماله في مصانع ميتشجان إلي أكثر من الضعف ليصبح أجر العامل منهم خمسة دولارات يوميا ليدشن بذلك ما اسماه "أكثر سياسات العمل تقدما في العالم".. وتقول مجلة "نيوزويك" إن هنري فورد كان له أسبابه الوجيهة في اتباع هذه السياسة حيث كان يعتقد أنه من الأفضل جعل 20 ألف رجل في حالة من الرضا، والرضا بدلا من اتباع السياسات التقليدية التي توجد قلة من السائقين العبيد. وفي العقود التالية لهذه الثورة التي أحدثها هنري فورد كان آلاف الناس يشعرون بالعرفان لهذا المنطق وهم يشترون المنازل ويبنون الأسر ويرسلون أطفالهم إلي المدارس والكليات وحتي وهم يتجولون في المدينة راكبين سياراتهم الجديدة من طراز فورد. والأمر المؤكد أن "رأسمالية الرفاهية الاجتماعية" التي بشر بها هنري فورد هي التي أدت إلي ظهور طبقة متوسطة من ذوي "الياقات الزرقاء" في الاقتصاد الأمريكي وهي الطبقة التي حملت علي كاهلها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتي سبعينيات القرن العشرين تحقيق النمو المستقر لاقتصاد البلاد.. ولكن هذه السياسة فيما بعد صارت غير صالحة للعمل أو بمعني آخر أسيئ استخدامها حتي أن جزءا كبيرا من الأزمة التي تعاني منها شركات السيارات الأمريكية الكبري الثلاث يرجع إلي مبالغة النقابات في فرض الحقوق العمالية. ومع ذلك فإن الانخفاض الشديد لأجور عمال المصانع في آسيا يعد جزءا مهما من مشكلة الاقتصاد العالمي الراهنة التي تجمع بين طاقة الإنتاج الزائدة وبين نقص الطلب.. إن العمال الآسيويين ليس في مقدورهم شراء المزيد وأجورهم التي لا تزيد علي 120 دولارا في الشهر لا تمكنهم من إيجاد طلب يكفي لعلاج الاحتلال الراهن بين الفائض التجاري الصيني والمديونية الأمريكية. وكلنا نذكر أن المحلل المالي ريتشارد دونكان عالج هذه المشكلة في كتابه "أزمة الدولار" الصادر عام 2003. وفي هذا الكتاب تنبأ الرجل مبكرا بالأزمة المالية الأمريكية الناجمة عن انهيار سوق الرهن العقاري قائلا إن حسن أداء الاقتصاد العالمي في مثل هذه الحالة سوف يتوقف بدرجة كبيرة علي زيادة الاستهلاك الآسيوي، آي تمكن الآسيويين من استهلاك جزء أكبر من الإنتاج الذي يصنعونه بدلا من تصديره إلي الخارج. وقال إن الشركات التي انتقلت إلي الإنتاج في آسيا للاستفادة من انخفاض أجور العمالة هناك ستصاب بالانهيار ولمنع هذا الانهيار لابد من وضع حد أدني لأجور العمال الآسيويين لا يقل عن 5 دولارات يوميا، أي 150 دولارا في الشهر، وهذا الأجر آنذاك "عام صدور الكتاب 2003" كان يزيد بشكل واضح علي أجر العامل المستجد في جنوب الصين ويزيد علي ضعف أجر العامل في مصانع النسيج والملابس في بنجلاديش.. وأكثر من ذلك اقترح دونكان زيادة هذا الحد الأدني بمقدار دولار واحد يوميا كل عام وقال إن هذا سيؤدي إلي زيادة استهلاك الطبقة العاملة الآسيوية بنسبة 300% في غضون عقد واحد من الزمان. ويعتقد دونكان الذي يعمل حاليا شريكا في صندوق إدارة الأصول "بلاك هورس" في سنغافورة أن هذا النوع من التدخل الحكومي أصبح ضروريا حدوثه في آسيا من أجل تخفيف حدة الركود العالمي والمساعدة علي سرعة التعافي منه أو أن تفرضه أمريكا من جانبها عن طريق سن تعريفة جمركية عالمية علي الواردات القادمة من البلدان التي لا تأخذ بفكرة الحد الأدني للأجور.. ويقول الرجل إن وفرة العمالة الآسيوية تحد من قدرة السوق علي زيادة الأجور من تلقاء نفسها وأن التدخل الحكومي أمر واجب.. وأن التركيز علي زيادة طلب العمال الآسيويين سيؤدي بمنطق العدوي إلي زيادة في الاستهلاك العالمي تنقذ التجارة الحرة من الانهيار. وتقول "نيوزويك" إن دعوة دونكان كانت تبدو راديكالية عام 2003 ولكنها الآن ليست كذلك. فصناع السياسة في الصين والهند يكافحون الآن من أجل زيادة الطلب الداخلي. كما أن الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما تعهد أثناء حملته الانتخابية بإعادة النظر في الاتفاقيات التجارية القائمة علي نحو يؤدي إلي زيادة أجور العمال علي المستوي العالمي كله. ولا شك، كما يقول دونكان، إن ترك أجور العمال عند مستوياتها المتدنية الراهنة سيؤدي إلي كارثة وأن عودة التدخل الحكومي كسياسة غير مرفوضة يجعل زيادة هذه الأجور مسألة سهلة. ويحذر دونكان من التنفيذ الحرفي لمقترحاته قائلا: "إن جعل أجر العامل أو الموظف 5 دولارات يوميا في كل فرص العمل والوظائف القائمة سيعود بنا بالكاد إلي ما كنا عليه في منتصف القرن التاسع عشر إلي عام 1850 وهي تمثل الحقبة الأولي للثورة الصناعية عندما كان الإنتاج وفيرا ولكنه لا يجد من يشتريه ولذلك فإن العبرة ليست بالأرقام وإنما بالهدف وهو زيادة القدرة علي الاستهلاك. ونحن نعرف أن رفع الأجور بقرارات حكومية كوسيلة لوقف الهبوط الاقتصادي في آسيا هو أمر يناقض الفكرة الشائعة عن القارة الآسيوية باعتبار أن ميزتها التنافسية الرئيسية هي العمالة ذات التكاليف المنخفضة. ولكن يجب أن نعرف أيضا أن وضع حد أدني للأجور هو فكرة لا تعمل علي نطاق بلد واحد دائما علي نطاق العالم بأسره. كما انها فكرة تسلم بحقيقة أنه حتي في بلد متقدم مثل أمريكا لن يستطيع الأمريكيون أن يواصلوا الاستهلاك بما يفوق دخولهم إلي الأبد. بل إن الأمريكيين قد تعلموا الدرس وسيحاولون تحميل عبء معالجة عجزهم التجاري البالغ حجمه 800 مليار دولار علي تلك الدول ذات الفائض التجاري الأكبر. بقي أن نقول إنه في مثل هذا الشهر "يناير" منذ 95 سنة اختار هنري فورد سياسات تتيح لعماله المشاركة فيما تصنعه شركته من رفاء. وأن هذه كانت البداية التي خرج من رحمها "مجتمع الاستهلاك الحديث" الآخذ في الانتشار عالميا. وإذا بعث هنري فورد حيا الآن فإنه سوف يسأل نفس السؤال القديم: لماذا لا نرفع سلم الأجور؟ وسيري أن رفع سلم الأجور هو جزء جوهري من الحل الآمن لمعضلة الركود الراهنة.