مع بداية ظهور ما بدا تفككاً للشرق الأوسط، تركز معظم الجدل في واشنطن، خلال الأسبوع الماضي، على ما إنْ كان يتعين على أوباما أن يبقي على قوة من الجنود الأميركيين في العراق بعد 2011. وهذا سؤال مهم، ولكنه جزء من جدل أكبر بكثير – وينطوي على تداعيات مخيفة بالنسبة للأميركيين. فطيلة ولاية أوباما الأولى، انقسم مستشارو الرئيس الأميركي إلى فريقين بخصوص كيفية محاربة إرهاب الحركات الإسلامية المتطرفة هما: فريق القائلين بضرورة الانخراط، وكانوا مدعومين من قبل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، وفريق القائلين بفكرة الحد الأدنى، وكانوا مدعومين من قبل نائب الرئيس جو بايدن. القائلون بضرورة الانخراط فازوا في بعض الجولات الأولى، وخاصة فيما يتعلق بإقناع أوباما بالاستثمار بشكل كبير في مساعدة أفغانستان على تطوير نفسها، ولكن مع مرور الوقت، انحاز أوباما إلى صف القائلين بفكرة الحد الأدنى، وشكّل خلال ولايته الثانية فريقاً لا يطعن في قراره. ولا غرو في ذلك، لأن العقل والمنطق كانا في كثير من الأحيان إلى جانب القائلين بفكرة الحد الأدنى، فالمستقبل يوجد في شرق آسيا، كما يقولون، وفي العقود المقبلة، ستصبح الصين أكثر أهمية بكثير، خلافاً لليمن وأفغانستان والصومال، كما أنه من غير المعقول أن تترك الولاياتالمتحدة نفسها تعلق في صراعات بين السُنة والشيعة عمرها أكثر من ألف عام. ثم إنه حتى إذا أردنا الانحياز إلى طرف ما، ومساعدة اليمن على أن يصبح دولة حديثة مثلاً، يقول أصحاب فكرة الحد الأدنى، فإننا لا نعرف حقاً كيف، ذلك أننا لا نجيد بناء الأمم، وعليه، فلنتركهم يحلون مشاكلهم بينهم، على أنه في حال هدد المتشددون الإسلاميون الولاياتالمتحدة، نستطيع التصدي لهم من بعد – بوساطة طائرات من دون طيار، ومن خلال «الشراكات» مع السكان المحليين الذين سيقومون بالمهمات القتالية نيابة عنا. كلام معقول، وملائم سياسياً أيضاً، فالناخبون الأميركيون كانوا سعداء بمعرفة أن التهديد الذي بلغهم بشكل صادم في 2001 قد تم إبطاله. وسيكون من الجيد أكثر إذا كفت الولاياتالمتحدة عن إرسال الجنود والأموال إلى مناطق من العالم لا يعبأ بها الأميركيون كثيراً. أوباما صاغ سياساته على هذا الأساس، بدءاً بانسحاب كامل من العراق. ولئن كان البعض يجادل بأنه لم يكن لديه خيار آخر، لأن العراق كان يرفض منح الجنود الأميركيين حصانة قانونية، فإنني أعتقد أنه لو أن أوباما كان يريد اتفاقاً حقاً، وكان مستعدا لتقديم أكثر من بضعة آلاف جندي، فإنه كان سيستطيع التوصل لاتفاق مع العراقيين بهذا الشأن، فما لا يستطيع أحد نفيه، هو أن أوباما كان راضياً ب «خيار الصفر» (سحب كل الجنود) ومتفائلاً بشأن مستقبل العراق حتى دون قوة أميركية. فكرة «الحد الأدنى» فازت مرة أخرى، عندما رفض أوباما، بعد انضمامه إلى حملة قصف لإسقاط ديكتاتور ليبيا، مساعدة الحكومة الجديدة على حفظ السلام. ثم مرة أخرى، عندما رفض نصيحة مساعدين كبار بدعم الثوار المعتدلين في سوريا. ومؤخرا، عندما أعلن عن سياسة مماثلة بالنسبة لأفغانستان تشبه السياسة الأميركية تجاه العراق: أي انسحاب جميع الجنود في غضون عامين، مع الإبقاء على وجود داخل السفارة الأميركية. والحق أنني كنت أتمنى لو أن هذه السياسات نجحت، فمن منا لا يفضل صرف الأموال التي كانت ستُنفق على إعمار الدول في مشاريع داخل الولاياتالمتحدة، مثلما وعد أوباما؟ ولكن يتبين أن الانفصال وفك الارتباط لا يجديان نفعاً للأسف، فالسياسة القائمة على استعمال الطائرات من دون طيار أججت المشاعر المعادية للولايات المتحدة من باكستان إلى اليمن؛ وسوريا أضحت «أكثر أزمة إنسانية كارثية نراها منذ جيل»، كما قالت سفيرة أوباما إلى الأممالمتحدة. اليوم، أخذ العراق يتفكك. وبالطبع، ومثلما كتب العديد من المعلقين، فإن الساسة العراقيين هم من يتحملون مسؤولية ذلك، غير أنه لو أن الولاياتالمتحدة حافظت على وجود عسكري هناك، لربما استطاعت توجيه السياسة العراقية في اتجاه بنّاء أكثر. ولو أن ليبيا وسورياوالعراق كانت تمثل كوارث لحقوق الإنسان فقط – وكل واحدة منها هي كذلك بكل تأكيد – لتشبث القائلون بفكرة الحد الأدنى بفكرتهم؛ ولقالوا إن أشياء فظيعة تحدث في أماكن كثيرة، والأميركيون لا يمكنهم تصويبها كلها. بيد أن تفكك العراق يهدد الولاياتالمتحدة أيضاً، ذلك أن ديكتاتورية عديمة الرحمة من القرون الوسطى تسيطر على منطقة من سوريا إلى العراق تقوم حاليا باستقطاب وتدريب متطرفين إسلاميين من بلدان مختلفة، من بينها أميركا وأوروبا، متطرفين «يمكن أن يشكّلوا تهديداً حقيقياً لوطننا لاحقاً»، مثلما اعترف بذلك أوباما يوم الخميس الماضي. وهكذا، اضطر للعودة إلى العراق، حيث لا يواجه سوى خيارات مرة. ولكن، إذا كانت فكرة الحد الأدنى غير مجدية، فما هو البديل؟ الواقع أن الجواب سيكون مختلفا في كل حالة، وهو لا يكمن عموما في إرسال جنود المارينز؛ غير أنه سيعتمد على الدروس التي تعلمتها البلاد بعد 2001: أن المناطق غير المحكومة، والتي لا دولة فيها يمكن أن تكون خطيرة بالنسبة للولايات المتحدة. فتجاهل الأخطار لا يؤدي إلى زوالها، وإذا كنا نريد من البلدان أن تساعدنا في محاربة الإرهابيين مثلاً، فعلينا أن نساعدهم أيضا، من خلال التدريب والمساعدات التي تحسّن حياة الناس. صحيح أن مساعدة البلدان على تطوير قدراتها على الحكم صعب ويستغرق وقتاً، ولا يكلل بالنجاح دائماً؛ غير أنه على مر السنين، ساعدت الولاياتالمتحدة عدداً أكبر من البلدان مما يعتقده العديد من الأميركيين– ومن ذلك أفغانستان، بفضل التزام أوباما، والأكيد أن الانخراط صعب جداً، ولكن مع مرور الوقت يمكنه أن ينجح! نوع المقال: العراق الولاياتالمتحدة الامريكية