لقد تطرّق سؤال سيتش إلى صلب الموضوع مباشرةً. فما حصل ببساطة هو أن الأوكرانيين بغالبيتهم استشاطوا غضباً إزاء لعبة فُرضَت عليهم و تقضي بأن يكون دورهم ثانوياً ضمن دائرة نفوذ بوتين، كي يتسنّى لروسيا أن تواصل الشعور بأنّها قوّة عظمى، فيصبحون مضطرّين إلى تقبّل النظام الموالي لروسيا في كييف، والمعروف بالفساد المستشري في أوساطه. وفي أعقاب ثورة انطلقت من القاعدة الشعبية في الميدان، الساحة المركزية في كييف، وأودت بحياة مائة شخص أو أكثر تُطلَق عليهم تسمية «المائة السماوية» - يؤكد الأوكرانيون على دائرة نفوذ خاصة بهم، تتمثّل برغبتهم في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكنهم من خلال إقدامهم على ذلك، يفرضون على روسيا بوتين - وكذلك على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة - تحدياً فلسفياً وسياسياً عميقاً. كيف ذلك؟ في حال خسر بوتين، وتحررت أوكرانيا وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي، فستهدد بذلك الهوية الروسية الأساسية بحد ذاتها، وهي هويّة طوّرها بوتين ويحاول توسيع نطاقها وتتمثل بروسيا التقليدية، تسيطر الدولة فيها على الفرد، فتستنبط أمّنا روسيا عظمتها من الأراضي الخاضعة لنفوذها، والنفط والغاز اللذين تستخرجهما، والدول المجاورة التي تسيطر عليها، وعدد الصواريخ التي تمتلكها، والدور الجيوسياسي الذي تؤديه في العالم بدلاً من أن تفعل ذلك من خلال تمكين شعبها وتطوير مواهبه. وفي حال فاز بوتين ومنع أوكرانيا من إجراء انتخابات حرّة وعادلة في 25 مايو القادم، فمن المؤكد أن تأثيره الخبيث في جيرانه سيتزايد ليس إلا، فنرى مزيداً من الأمور التي تحاكي ما حصل الأسبوع الماضي، عندما قصد جو كايزر، الرئيس التنفيذي لمجموعة »سيمنز» الألمانية العملاقة، مدينة موسكو، فأظهر تلهّفه لبوتين، وطمأنه بأن الاتفاقيات بين الدولتين ستبقى قائمة على الرغم مما اعتبره كايزر «أوقاتاً صعبة على الصعيد السياسي» تشير من وجهة نظر ألمانيّة إلى مساعي بوتين لمنع الأوكرانيين من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يسرّ الألمان منذ الآن). ولن يسعك السير في الشوارع المرصوفة الحصى في ساحة سانت صوفيا في كييف، أو القيام بجولة في كاتدرائية سانت صوفيا ذات القبب الدائرية، من دون أن تكتشف مدى تأثّر روسياوأوكرانيا ببعضهما البعض على مر القرون علماً أن اليوم لن يكون مختلفاً. وأشير في هذا السياق إلى أن دولة «روس» الموحدة الأولى تأسست في كييف، عندما أقدم «القديس فلاديمير العظيم، أمير كييف» على توحيد جميع قبائل المنطقة وأراضيها، ضمن كيان أطلق عليه المؤرخون تسمية «روس كييف»، علماً بأن القديس فلاديمير جعل المسيحية الأرثوذكسية ديانتها الرسميّة. وبعد ألف عام ونيّف، ظهر «فلاديمير عظيم» آخر هو السيّد بوتين وراح يحشد الجيوش عند الحدود الأوكرانية لمعاودة إرساء نفوذ روسيا فيها. وقد لمّح بوتين مؤخراً إلى أن الوقت قد يكون مناسباً لاستعادة «نوفوروسيا»، أو روسيا الجديدة، وهي التسمية التي كان يحال بها إلى جنوب شرق أوكرانيا في أوساط القياصرة في القرن التاسع عشر، عندما كانت جزءاً من روسيا. وبالتالي، وعندما يتحدث بوتين عن روسيا الجديدة، ما يعنيه فعلياً هو روسيا القديمة أي دولة روسيّة كانت تسيطر على أوكرانيا. وهو يريد أن يحول دون بروز أوكرانيا جديدة تؤثر في روسيا اليوم بأفكار جديدة، إنما هذه المرة ليبرالية. «لقد تحوّل الأمر إلى صراع وجودي للجميع»، وفقاً لما شرحه بافلو شيريميتا، وزير الاقتصاد الأوكراني الجديد، الذي أضاف أن أصدقاءه الروس الليبراليين يتصلون به قائلين: «نرجوك أن تصمد. لا تخذلنا». ولا تدع بوتين يسحق النموذج الذي تحاول أوكرانيا بناءه، وإلا فلن تتغيّر روسيا يوماً. وأضاف شيريميتا قائلاً «إنّ نجاح روسيا على المدى البعيد يرتهن بطريقة تنافسها في القرن الحادي والعشرين، فمن غير الصائب التنافس حصرياً باللجوء إلى النفط والدبابات، وترهيب الغير». فلا شكّ في أنّ ذلك سيمنحك شعوراً بالقوة «في اللحظة الراهنة، إلاّ أنّه أشبه بمخدّر. وفي نهاية المطاف، سيشكّل نجاح أوكرانيا خير دليل على أنّ الديمقراطية، وحكم القانون، وحقوق الإنسان هي أفضل وصفة للتنمية المستدامة بدلاً من المخدّر الذي يمنحه بوتين لشعبه». ومن جهتها، أفادت نتاليا بوبوفيتش، وهي سيدة أعمال وناشطة في المجتمع المدني في أوكرانيا، بأنّ مواطنيها تعلّموا من ثورتهم البرتقالية في العام 2004، عندما تخلصوا من نظام قديم، ولكنّهم سلّموا زمام الأمور إلى مجموعة جديدة من السياسيين الفاسدين. وفي هذه المرة، نجحت ثورة الميدان في بسط شبكة مجموعات ناشطة في المجتمع المدني، تؤدي دور رقابة على كل وزير، وتبذل جهوداً لضمان انتخابات رئاسية منصفة. لكنّ الأمر لن يكون سهلا، حيث ان أوكرانيا مكان معقّد، ويعني إرث الفساد في البلاد، والنخب القابلة للرشوة فيها، والعنف المستشري في أوساط رجال الشرطة أنّ الأعداء المحليين لثوريي الميدان كثيرون، وجلّ ما تفعله تدخلات بوتين هو تصعيب المساعي لتحقيق مستقبل أفضل ضمن إطار الاتحاد الأوروبي. وقد أخبرتني بوبوفيتش بأن «عناصر المائة السماويّة ماتوا في المكان، فيما كانوا يذودون عن حقوق الإنسان والقيم الأوروبية». ولكن في سبيل إرساء جذور سياسيّة جديدة لهذه الدولة الناشئة، «يجب أن تصمد»، وهو أمر يتطلّب من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مساعدة على حمايتها. وختمت كلامها بالقول: «ليت الأمور كلّها تدور حولنا نحن. لكنّ الواقع أنّنا أمام معركة حضارية مستمرة، وشاءت الصدفة أن نكون في محورها». نوع المقال: روسيا سياسة دولية