كان رجل انجليزي عاطل عن العمل تعوزه الموارد المادية ، يسير في شوارع فيلادلفيا بحثاً عن وظيفة دخل مكتب السيد بول جيبونز رجل الأعمال الشهير في المدينة، وطلب أن يجري مقابلة معه نظر السيد جيبونز إلى الغريب في ارتياب إذ إن مظهره الخارجي يبدو ضده فثيابه رثة بالية، وكتبت على محياه علامات البؤس المادي وبشيء من الفضول والشفقة وافق السيد جيبونز على إجراء المقابلة فقرر أول الأمر أن يستمع للحظة فقط لكن اللحظات أصبحت دقائق والدقائق ساعة، وما زالت المقابلة مستمرة حتى انتهت باتصال السيد جيببونز بالسيد رولاند تايلور أحد أكبر المتمولين في المدينة الذي دعا هذا الغريب لتناول العشاء معه ومنحه مركزاً مرموقاً في شركته كيف استطاع هذا الرجل الذي تبدو عليه مظاهر الفشل أن يحقق هذا الانجاز العظيم في وقت قصير؟ إن السر يمكن تلخيصه بعبارة واحدة اجادته اللغة الانجليزية لقد كان في الواقع خريج أو كسفورد قدم إلى هذا البلد بمهمة عمل انتهت بكارثة تركته مجرداً من المال والأصدقاء لكنه تكلم بلغته الأصلية بدقة وسحر حتى ان المستمعين نسوا أمر حذائه البالي ومعطفه الرث وذقنه غير الحليق فكان أسلوبه جواز السفر الذي ادخله إلى أفضل دوائر العمل. قضية الرجل هذا هي غريبة بعض الشيء، إلا أنها تعكس حقيقة أساسية وهي أننا نقاس كل يوم من خلال حديثنا، وكلماتنا تعكس تفكيرنا الدقيق، وتخبر المستمع البصير عن معارفنا، وهي إشارات واضحة عن ثقافتنا وعلومنا. لدينا أربعة روابط مع العالم، ونحن نصنف ونقيم طبقاً لأربعة أشياء: بما نفعله، وكيف نبدو، وبما نقوله وكيف نقوله، مع ذلك، يبقى الكثيرون يتخبطون في الحياة من دون أن يبذلوا أي جهد في سبيل إغناء تعابيرهم، وبعد الخروج من المدرسة، حتى يجيدوا معانيهم ويتحدثوا بدقة ووضوح، وغالباً ما يستخدمون عبارات عامية مستهلكة في المكتب والشارع. فلا عجب أن يعوز خطابهم الوضوح والتفرد، ولا عجب أنهم ينتهكون غالباً قواعد اللفظ المقبولة، ويخرقون قواعد اللغة الإنكليزية نفسها، لقد استمعت إلى خريجي جامعات يتكلمون ويخطئون لغوياً، فإن كان أولئك الجامعيون يقترفون مثل هذه الأخطاء، فما الذي نتوقعه من الذين حُرموا التعليم بسبب الحاجة المادية وضغوطها؟. منذ سنوات، وقفت بعد ظهر أحد الأيام أحلم في مدرج روما القديم، تقدم مني رجل غريب، كان معمراً إنكليزياً قدم نفسه، وبدأ يتحدث عن تجاربه في تلك المدينة الخالدة، ولم تمضِِ ثلاث دقائق حتى بدأ يخطئ أخطاءً لغوية مدهشة، في ذلك الصباح، عندما نهض من فراشه، لمع حذاءه وارتدى ثياباً أنيقة ليحوز على احترام الآخرين، لكنه لم يحاول قط أن يصقل تعابيره ويتحدث بأسلوب جيد. وهو ربما يخجل مثلاً إذا لم يرفع قبعته لتحية سيدة، لكنه لم يخجل أبداً كلا حتى أنه لم يدرك من انتهاك قواعد اللغة وإزعاج آذان المستمعين لقد بدا واضحاً من خلال كلماته، ومن استخدامه المحزن للغة الإنكليزية، إنه لم يكن من أهل العلم. أعلن الدكتور تشارلز و. إليوت، بعد ما كان رئيساً لجامعة هارفرد طلية ثلث قرن: ( هناك مطلب ذهني ضروري هو جزء من تعليم السيدة أو السيد، ألا وهو الاستخدام الدقيق والصحيح للغة الأصلية ) إن هذا إعلان مهم للغاية، فاعمل به. ربما تتساءل كيف نصبح معتادين على الكلمات، ومنحها بأسلوب جميل وصحيح؟ لحسن الحظ ليس هناك غموض أو شعوذة بشأن الوسائل التي يجب استخدامها، هذه الوسائل هي سر مفتوح، فقد استخدمها لنكولن بنجاح مذهل، ولم يستطع أي أمريكي أن يحوك الكلمات مثل براعته،أو يؤلف موسيقى مماثلة للتي ألفها في نثره، فهل كان لنكولن الذي كان والده نجاراً بسيطاً أمياً والذي لم تكن والدته من ذوات الميزة الخارقة موهوباً منحته الطبيعة هبة تأليف الكلمات؟ ليس هناك أي دليل يدعم هذا الافتراض. عندما انتخب في الكونغرس، وصف لنكولن تعليمه في السجلات الرسمية في واشنطن، بصفة واحدة بأنه: ( ناقص)، فقد ذهب إلى المدرسة أقل من اثني عشر شهراً في حياته، ومن كان أساتذته؟ جميعهم أساتذة متجولون، يطوفون من ولاية لأخرى، ساعين وراء معيشتهم، حيث يستطيعون أن يجدوا قلة من المثقفين الراغبين في استبدال اللحوم والذرة والقمح بالتعليم، وقد حصل لنكولن على مساعدة ضئيلة منهم، كما استوحى القليل منهم ومن محيطه اليومي. إن المزارعين والتجار والمحامين والقضاة الذين اختلط بهم في المحكمة القضائية الثامنة في إيللنوا، لم يمتلكوا الكلمات السحرية، لكن لنكولن لم يكن كذلك وهذه حقيقة مهمة يجب تذكرها إذ إن لنكولن لم ينفق وقته مع الذين بمستواه الفكري أو مع الذين هم أدنى منه، بل اختار رفاقه من نخبة المفكرين والمغنين والشعراء في كل العصور، فكان باستطاعته أن يردد صفحات كاملة من برنز وبايرون وبراوننغ، كما كتب محاضرة عن برنز، كانت لديه نسخة عن أعمال باريرون في مكتبه، وأخرى في منزله، وحتى عندما كان في البيت الأبيض، وكانت أعباء الحرب الأهلية المأساوية تثقل كاهله وتخلف خطوطاً عميقة في وجهه كان دائماً، يجد وقتاً لتناول نسخة من أشعار هودرا وقراءتها في السرير، في بعض الأوقات، كان ينهض في منتصف الليل ويفتح الكتاب لقراءة القصائد الساحرة والمؤثرة، كما ينهض بعباءة نومه ويتسلل عبر الغرف إلى أن يجد سكرتيره ويقرأ له قصيدة إثر قصيدة، في البيت الأبيض، كان يجد الوقت ليردد مقاطع طويلة من شكسبير، وينتقد إلقاء الممثل لها، ويعطي تفسيره الخاص حول ذلك، فكتب إلى الممثل هاكيت يقول: ( قرأت بعض مسرحيات شكسبير، وربما قرأتها كأي قارىء غير اختصاصي، قرأت مسرحية الملك لير، ريتشارد الثالث، هنري الثامن، هاملت، ومكبث، أعتقد أن ما من مسرحية توازي مسرحية مكبث، إنها رائعة ). كان لنكولن يعشق الشعر، وهو لم يحفظه ويردده سراً وجهراً فحسب، بل كان يكتبه أيضاً، وقد قرأ بعض أشعاره الطويلة خلال حفلة زفاف شقيقته، وفي منتصف حياته، ملأ دفتر ملاحظات بكتاباته الإنشائية، لكنه كان يخجل من تلك المؤلفات، حتى أنه لم يدع أقرب أصدقائه يطلع عليها. يكتب روبنسون في كتابه: ( لنكولن كرجل أدب ): (هذا الرجل الذي علم نفسه بنفسه، كسا ذهنه بمواد الثقافة الرائعة، لم يذهب كثيراً إلى المدرسة، بل كان يعلم نفسه بطريقة متقطعة، وطريقته هي دأبه على التعلم والتدريب ). هذا الفتى الأخرق الذي اعتاد أن يجني الذرة ويذبح الخنزير مقابل 13 سنتاً في اليوم في مزارع بيجون كريك في أنديانا، ألقى في غيتيسبرغ إحدى أروع الخطب التي ألقاها كائن بشري وقد قال تشارلز سومنر بعد فترة قصيرة من وفاته، إن خطاب لنكولن سيبقى الذاكرة حتى بعد نسيان تلك المعركة التي حارب فيها مائة وسبعون ألف رجل وقتل فيها سبعون ألفاً، وإن المعركة ربما تعود إلى الذاكرة بسبب ذلك الخطاب، فمن يشك بصحة هذه النبوءة ). تحدث ادوارد ايفريت لمدة ساعتين في غيتسبرغ، وقد نُسي كل ما قاله منذ زمن بعيد، لكن لنكولن تحدث أقل من دقيقتين: وقد حاول مصور أن يأخذ له صورة أثناء إلقائه الخطاب، لكنه انتهى قبل أن تصبح تلك الكاميرا جاهزة لالتقاط صورته. نقش خطاب لنكولن على قطعة من البرونز ووضع في مكتبه أوكسفورد ليبقى مثالاً لما يمكن فعله باللغة الإنكليزية، وهذا نص الخطاب الذي يجب أن يحفظه كل من يدرس فن الخطابة: ( منذ سبع وثمانين سنة، أنشأ آباؤنا وطناً، في هذه القارة يعرف بوطن الحرية والمساواة، والآن ننهك في حرب أهلية عظيمة تراهن عما إذا كان هذا الوطن سيدوم طويلاً، لقد تقابلنا في حلبة عظيمة في هذه الحرب وانتهينا بتكريس جزء من هذه الحلبة كمثوى أخير لأولئك الذين قدموا حياتهم في سبيل بقاء الوطن، من المناسب جداً أن نفعل هذا لكننا، إذا فكرنا ملياً، لن نستطيع أن نكرس أو نقدس هذه الأرض، فالرجال الشجعان، الأموات منهم والأحياء، الذين كافحوا هنا، كرسوها لأغراض نبيلة، هي فوق طاقتنا الهزيلة، إن العالم لن يذكر أو يتذكر طويلاً ما نقوله هنا، إلا أنه لن ينسى ما فعلوه، الأمر يعود إلينا، نحن الأحياء، لتكريس أنفسنا في سبيل العمل الذي لم ينجز والذين حاربوا هم من أجله بتفانٍ وإخلاص، لنكرس أنفسنا في سبيل المهمة العظيمة المتبقية أمامنا، ولنتخذ العبرة من أولئك الموتى العظام الذين منحوا القضية آخرة قطرة من دمهم، ونحن هنا نجزم بأن أولئك الموتى لم يسقطوا هباءً وبأن هذا الوطن، برعاية الله، ستولد فيه الحرية من جديد، وبأن حكومة الشعب المنتخبة من الشعب ومن أجله، لن تزول عن وجه الأرض ). هناك فكرة شائعة تقول: إن لنكولن هو من ألف العبارة الخالدة التي اختتم بها خطابه، لكن هل هذا صحيح؟. لقد قام هرندون، الشريك القانوني للرئيس لنكولن نسخة من كتاب خطب ثيودور باركر حيث قرأ الأخير ووضع خطاً تحت هذه الكلمات التي جاءت في الكتاب: ( إن الديمقراطية هي حكومة ذاتية مباشرة تحكم كل الشعب ومن كل الشعب، ومن أجل كل الشعب ). وربما استعار ثيودور باركر هذه العبارة من وبستر الذي قال قبل أربع سنوات، في جوابه الشهير ل هاين: ( إن حكومة الشعب تؤلف من أجل الشعب وبواسطة الشعب وتستجيب لكل الشعب ). وربما استعار وبستر بدوره هذه العبارة من الرئيس جايمس مونرو الذي عبر عن فكرة مشابهة لها قبل ثلث قرن، لكن ممن استدان مونرو فكرته؟ قبل خمسمائة سنة من ولادة مونرو، قال وايكليف في مقدمته لترجمة الكتاب المقدس إن ( هذا الإنجيل هو من أجل حكومة الشعب، من الشعب، ولكل الشعب ). وقبل أن يحيا وايكليف، وقبل أربعمائة سنة من ميلاد المسيح، تحث كلايون في خطاب له أمام رجال أثينا عن حكم ( من الشعب وبواسطة الشعب ومن أجل الشعب )، ومن أي مصدر قديم استوحى كلايون فكرته يبقى أمراً في ضباب وظلمة العصور القديمة. كم هي الأشياء الجديدة قليلة! وكم يدين الخطباء العظماء لقراءاتهم وارتباطهم بالكتب!. الكتب! هناك يكمن السر! فمن يرغب في أن يغني ويوسع مخزن كلماته، ينبغي عليه أن يغسل ويصقل ذهنه باستمرار في روافد الأدب، قال جونب برايت: ( ما يحزنني حين أكون موجوداً في مكتبة هو أن الحياة قصيرة جداً ولا أمل لي بقراءة الماضي الممدود أمامي )، ترك برايت المدرسة في سن الخامسة عشر، وذهب للعمل في مصنع للقطن، ولم تسنح له فرصة التعلم ثانية، ومع ذلك، أصبح أحد أشهر الخطباء في عصره حيث اشتهر ببلاغته وجودة لغته الإنكليزية، كان يدرس ويقرأ وينسخ في دفاتر الملاحظات، ويحفظ مقاطع طويلة من شعر بايرون وميلتون وشكسبير، كان يقرأ ( الفردوس المفقود للشاعر ميلتون كل سنة من أجل إغناء كلماته ). قرأ تشارلز جايمس فوكس كتابات شكسبير بصوت مرتفع كي يحسن أسلوبه، وقد دعا غلادستون مكتبته ( معبد السلام ) حيث احتفظ فيها بخمسة عشر ألف كتاب، واعترف بأن ما ساعده هو قراءة أعمال سانت أو غسطين، بيشوب باتلرا، دانتي، أرسطو، وهوميروس، كانت الإلياذة والأوديسة تطربانه حتى إنه كتب ستة كتب عن شعر وزمن هوميروس. يقال إن روبرت لويس ستيفنسون من أحب الكتاب في اللغة الإنكليزية، كان سيتفنسون كاتباً لدى كاتب، فكيف نشأ لديه هذا الأسلوب الرائع الذي منحه الشهرة؟ لحسن الحظ أخبرنا القصة بنفسه. عندما أقرأ كتاباً أو مقطعاً يعجبني حيث يقول شيئاً ويترك تأثيراً ملائماً وحيث هناك قوة جاذبة في الأسلوب أجلس في الحال وأهيئ نفسي لاكتساب هذه الميزة، لم أكن ناجحاً، كنت أعرف ذلك، فحاولت ثانية، وفشلت ثانية، وكنت فاشلاً دائماً وأخيراً ومن خلال فشلي اكتسبت تدريباً في الإيقاع والتناغم والتأليف والتجانس. وهكذا انكببت على قراءة هازليت ولامب وردسورث وسير توماس براون وديفو وهاوثورن ومونتاين. هذه هي الطريقة لتعلم الكتابة، إن أعجبك أم لا، وإن استفدت منها أم لا، تلك هي الطريقة، إنها الطريقة التي من خلالها تعلم كيتس، ولن يكون هناك أدب أكثر رقة من أدب كيتس. إن أسلوبه الذي يصعب تقليده هو النقطة العظيمة التي تتلألأ وتبقى بعيدة عن متناول الطلاب، دعه يحاول كيفما يريد، فهو متأكد من فشله، لكن هناك قول قديم حقيقي جداً وهو: إن الفشل هو الطريق الأكيد إلى النجاح. يكفي الآن أسماء وقصصً، فالسر قد اتضح، إذ كتبه لنكولن إلى شاب يتوق ليصبح محامياً ناجحاً: ( إن السر يكمن في الحصول على الكتب وقراءتها ودراستها بانتباه، إن العمل هو الشيء الأساس ). 1 فن الخطابة – د. أحمد الحوفي (2) ثيودور روزفلت (1858 – 1919) رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية السادس والعشرين (1901 – 1909) حاصل على جائزة نوبل للسلام عام 1906. 3 توماس أديسون (1874 - 1931) فيزيائي أميركي ومخترع شهير من اختراعاته تحسين الإرسال التلغرافي، الفوتوغراف أو الحاكي، المصباح الكهربائي.