في إحدى قاعات البحث جمعني بأحد أساتذة الإعلام لقاء بصحبة مجموعة من الباحثين لطرح أفكارنا حول الدراسة المقترحة لرسائل الماجستير. أحد الباحثين اقترح دراسة عن الصحافة الناصرية وتغطيتها لقضية الإخوان، والآخر اقترح دور الإعلام الجديد في تنمية المجتمع، فابتسم الدكتور ونظر للأول، وقال له أرأيت كيف كنت ستغرقنا في تاريخ لا فائدة منه، وتترك قضايا بلدك ومستقبل شعبك لتعيش في صراع ذهب وذهب المتصارعون فيه؟، أو هكذا قال. تذكرت اليوم هذه القصة وأنا أتابع "الصراع المجنون" في ذكرى عبد الناصر.. شباب في مقتبل العمر لم يدرك عبد الناصر وكثير منه لم يدرك السادات، يتطاحنون في معارك كلامية حول عبد الناصر وزمانه ومكانه وحكاياته.. يتناقلون كلام عجزة السن والفكر.. يحيون صراعًا لا يغني بلدًا ولا يسمن شعبًا من جوع ونقص. لماذا أمتنا مغرمة بالعيش في معارك الماضي.. تنقسم في واقعها بعدد الانقسامات في ماضيها.. ينتحل كل فريق شخوص الماضي .. يرفع سيوفه .. ينطق لغته.. يجادل بمنطقه .. يحلم بأحلامه .. لماذا؟ لماذا لا تعيش أمتنا واقعها.. تنشغل بهموها .. تحلم حلمها .. تجيب عن الأسئلة الجديدة .. ترسم مستقبلها .. تتخذ من ماضيها رافعة إلى السماء .. تعيش خلافاتها الآنية .. تسعى في حلها، لماذا؟ التاريخ نأخذ منه العبرة والعظة والدروس، لا نغرق في مشاكله ونسحبه إلى حاضرنا ليدمر مستقبلنا.. حتى لو اختلفت وجهات نظرنا في قراءة التاريخ، فهذا جيد، لكن لا نتوقف عنده، ونصر ألا نتقدم للأمام إلا بحل خلافات الماضي. البعض يعيش معركة الماضي ويشعل الدنيا نارًا، والبعض يتاجر بأحلام داعبت البسطاء.. البعض ينظر إلى القبر لاعنًا، والبعض يحج إليه مسبحًا تحت الأضواء، لعله يسرق اسمًا ومجدًا لا يدري كيف صنع وهل من حل أو حرمة.. كل اللاعنون والمسبحون لا يدرون بحال صاحب القبر. أتلمس هنا قوله تعالى: "تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون". ومن وجهة نظري فإن هناك العديد من الدروس من التجربة الناصرية بشكل عام وليس شخص عبد الناصر، بعضها سلبي وبعضها إيجابي، لكن أهمها: أن الحرية والكرامة مقدمة على الحياة سواء كانت الحياة رغيدة أو قاسية أن حرية الفرد أهم من التراب، فإن ارض الله واسعة، والحدود تراب أن الشعوب بحاجة إلى حلم يداعب خيالها ليفجر طاقتها وإبداعها أن الأفكار لا تموت تحت سياط التعذيب، وبموت أصحابها تزداد بريقًا وتأثيرًا أن العالم الغربي لا يريد بمصر نهوضًا ولا تقدمًا، وسيحاربها بالقوة الناعمة أو الخشنة، وأنه يرفض نهوضها وتقدمها تحت حكم اللحية والحجاب، أو تحت حكم البدلة والقبعة. تلك أمة قد خلت