في زمن قديم.. حيث كانت الحياة ربيعا دائما. كان الجمال ينساب في قلب الطبيعة.. يرسمها أنغاما وألحانا وألوانا وورودا. ويوم خلقت النار وإبليس والجنة وطين آدم.. والفصول الأربعة دخل الكون في أزمة جدلية لم يعرفها من قبل.. وهي إشكالية تقسيم الفصول وبات كل فصل يبتكر سبله لدعم تشبثه وبقائه لأطول مدة ممكنة.. صارت الفصول الأربعة تعمل علي تهميش بعضها الآخر.. مما أثار حفيظة وغضب السماء وارغمها علي تقديم كل الفصول في يوم واحد, غير آبهة للنزاعات الناشبة بينهم. تابعت الخليقة خطي تكوينها المتعثرة من دون وضع نهاية لذلك الصراع, حتي خلق قابيل وهابيل يتبعهما فصل جديد, فصل له حق التسيد والتسلط علي الجميع من دون السماح لاعتراض أي فصل منها, ذلك لقدرته علي نفي من لا يرغب بوجوده. كشف جبروته, وأعلن تفرده بقانون رسم حدوده لما يناسب بطشه, وبسط إرادته. استهل ظهوره بإرغام الشتاء علي زيادة منسوب أمطاره, وتكثيف سرعتها, لتكون قبورا علي الأرض, وتحضيرا لما ستنجبه الحياة مستقبلا, واستغل حرارة الصيف ليحول دفئه إلي محرقة للمعارضين, فيما أمر الخريف باقتلاع جذور الشجر, وتدمير الحشائش, واكتفي بحجب الربيع عن الظهور, ليفصح عن اسمه بتفاخر وتعال قائلا عن نفسه( أنا فصل الدم الخالد) فأطيعوني بلا تقسيم. المصور يعشق الي حد الوله والجنون تصوير الطبيعة, والإبحار في عالم أسرارها, كان يحلم بزيارة بلادنا علي وجه الخصوص ليكشف جمالها وتاريخها الماجد, وتراثها الأغر. جهز معداته وكاميراته الاحترافية علي أمل أن تسنح له الفرصة لتحقيق مبتغاه, صبر وانتظر حتي يحقق مناه. التقط آلاف المشاهد التعبيرية, رصد صورا نادرة لم يسبق لغيره أن صور شبيها لها, ليعود إلي بلاده معلنا عن إقامة معرض فوتوغرافي بعنوان هدوءا أيها العنف. ضم المعرض صورة لطفل يحتضن يده الصناعية برفق بعد أن فصلها عن كتفه, وأخري لشابة يستحي ضياء القمر من بهائها, كانت تحمل اصبعها من علي الرصيف بعد أن طمعت به شظية سيارة مفخخة, وصورة أخري لعربة( حمل) خشبية تحمل جثة صاحبها غاطسة بالدم. وتميز المعرض بصور نادرة كصور مسجد سجد علي مصليه غير آبه بتضرعاتهم ومناجاتهم إلي السماء, وأخري لأسد يبكي خوفا من فريسته, وصورة لاحقة تتعلق بحذاء قديم كان قد ارتداه صاحبه ووضعه فوق وجهه ليفضح عوزه. حقق المعرض شهرة واسعة, وكون لصاحبه أرباحا طائلة, معلنا تجاوزه الصور الطبيعية, واصفا إياها بالمستهلكة, ليغير مسار عمله إلي مصور حربي, ومن ثم ليزور بلادي مرة أخري, وعلي متن طائرة مقاتلة هذه المرة. وفاء وردة أقصيت نفسي عن عالم الأصدقاء والأحياء, لا بل عن العالم أجمع. قررت الانزواء في بيتي المتواضع, وحديقتي التي باتت صحراء قاحلة إلا من وردة وحيدة يائسة, وبعض الأشواك الطبيعية. جاءت عزلتي هذه بعد أن استشرت وتفاقمت آلامي, وصار من المستحيل استئصالها حتي باتت معدية لمن يطلع عليها. اعتدت وتأقلمت بسرعة علي الأجواء الجديدة, وصارت تحركاتي محدودة جدا, ما بين الغرفة والحديقة, وبقايا الذاكرة المندثرة. وفي أصبوحة باردة, كنت جالسا في حديقتي منهمكا في قراءة أحد الكتب القديمة التي أكل أوراقها تراب الزمن, وسرقت كلماتها وحروفها الرفوف العتيقة. تنبهت لوردتي الوحيدة.. وإذا بقطرات الندي تنضح منها بصورة عشوائية غير طبيعية. لم أعر ها اهتماما لأني مازلت أفتش في كتابي عن جمل غابت عنه.. جمل مترابطة كانت تصف ذلك الكون الإنساني اللطيف. وبعد بحث طويل متعب.. لم أجد ما كنت أبحث عنه.. مما أرغمني علي ترك الكتاب والدخول لأخذ قسط من الراحة. وفي المساء عاودت الرجوع إلي حديقتي, غير أني فوجئت بتغيير لون الوردة من أبيض إلي أسود قاتم, وغرق الحديقة بقطرات الندي التي كانت تتساقط منها. تقدمت بخطوات مترددة.. غرست قدماي بالطين رغما عني, وتساءلت بصورة فضولية: هل من الممكن أن تصل قطرات الندي إلي هذا الحد؟ ولماذا ارتدت ودرتي السواد؟ وكيف؟! تزاحمت الأسئلة في داخلي, ثم ركزت النظر بدهشة إلي كتابي الذي تحولت صفحاته إلي فضاءات بيضاء تفتقر إلي الكلمات. عشت لحظات دهشة وترقب لم أشهدها في الماضي, وإذا بالوردة تهتز يمينا وشمالا وبقوة عارمة, وتعمدت إسقاط عدد من أوراقها القاتمة, لتقول بصوت أجش: أنظر لكل ما حولك.. لقد حولت لوني للوقوف تضامنا مع أحزانك..وأغرقت الأرض دموعا حتي أزيل أشواكها وأغيرها إلي خضرة دائمة.. وأرغمت الكتاب علي محو كل حروفه.. لتخلد آلامك كذكريات مرة تذكرها دائما.. لتعيش حياتك مع من تبقي من الأوفياء في عالمك. نهار حسب الله العراق