"إن أسوأ مكان فى الجحيم محجوز لهؤلاء الناس الذين يبقون على الحياد فى أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة"، هكذا قال الزعيم الأمريكي الراحل الشهير مارتن لوثر كينج، وقياسا عليه، فإن تركيا تبوأت شرف أن تكون من طليعة الدول المدعمة للثورة السورية، في معركتهم الأخلاقية ضد الديكتاتور بشار الأسد التي انطلقت في الخامس عشر من مارس 2011، إذ كان موقفها من الثوار منذ اليوم الأول ناصع البياض ضد طغيان بشار الأسود، في وقت لم تعد فيه الرمادية تجدي لتحقيق تطلعات الثوار نحو مبادئ العيش والحرية والكرامة الإنسانية. وبدأ الموقف التركي في شهور الثورة الأولى بتصريحات حادة على لسان وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو، إلى أن تطورت إلى دعوات كاملة للتنحي لاسيما بعد أن ارتكب مجازر مروعة في حماه وحمص والرسيتن وجسر الشغور ودرعا والبوكمال، وغيرها من المناطق السورية. عداء تاريخي كان العداء هو السمة الغالبة في العلاقات بين الدولتين التركية والسورية في معظم القرن العشرين، رغم الحدود المشتركة (850 كم) والقرابة بين السكان على طرفي الحدود، والأنهار والملكيات الزراعية المشتركة، ورغم أربعمئة عام من العلاقات كانت فيها سورية ولاية تتبع السلطان العثماني مباشرة. وتمثلت أهم أسباب العداء بحسب تقرير نشره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسية" في ضم لواء اسكندرون لتركيا بقرار فرنسي عام 1938، ورفض تركيا الاعتراف بأن نهر الفرات نهر دولي، وتجاهلها حل مشكلة أملاك السوريين على الجانب التركي من الحدود، إضافة إلى دخول تركيا حلف شمال الأطلسي وإقامة علاقات تعاون مع الكيان الصهيوني، بينما كانت سوريا متحالفة مع حركة التحرر ثم مع منظومة الدول الاشتراكية. وكادت الخلافات تجر البلدين إلى حرب مرتين: أولاهما عام 1957 أيام حلف بغداد، وثانيهما عام 1998 بسبب تعاون سورية مع حزب العمال الكردستاني العدو اللدود لتركيا، وتقديم المساعدة وقواعد التدريب له، وقبول لجوء رئيسه عبد الله أوجلان في سوريا. تحول العداء إلى صداقة تغير الوضع المتوتر بعد تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم التركي إذ نمت العلاقات سريعا بين دمشقوأنقرة وتجسدت في توقيع 55 اتفاقية تعاون بين الدولتين، بل وتم إلغاء التأشيرات بينهما، وزاد حجم التبادل التجاري. الموقف التركي في بدايات الثورة بعد أن اجتاحت موجة الربيع العربي الأجواء السورية في منتصف مارس 2011 كانت تركيا مؤيدة لها منذ اليوم الأول، حيث قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان: " لقد نصحت الأسد بإجراء إصلاحات ديمقراطية أكثر من مرة دون جدوى"، كما قام مدير جهاز المخابرات التركية بزيارة لسورية لدراسة أفكار للخروج من الأزمة، لكن نظام بشار ظل متشبسا برفض تام لطلبات الثوار. كما قال أردوغان: " أخشى من أن يتم انقسام سوريا طائفيا، ومن أن يمتد الصراع الطائفي إلى تركيا". الدعوة إلى التنحي وفي 22 نوفمبر 2011 وجه أردوغان دعوة صريحة لبشار للتنحي ساخرا من قول الإسد إنه مستعد للقتال حتى الموت ضد معارضيه في الداخل، ونقلت وكالة أنباء فرانس برس تصريحات أردوغان مخاطبا بشار بقوله: " تنح عن السلطة قبل أن يراق مزيد من الدماء .. ومن أجل سلام شعبك وبلادك والمنطقة"، وأردف: " الأسد لم يبد نفس الاستعداد للتضحية بحياته لاستعادة مرتفعات الجولان المحتلة من أيدي الإسرائيليين". مظاهر الدعم التركي للثوار وبحسب الباحث والصحفي السوري حسين العودات فإن الدعم التركي المباشر لثوار سوريا يمكن أن ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي: 1- تبني المعارضة السورية، ودعمها سياسياً، وإتاحة الفرصة لها كي تعقد مؤتمرات في مدن تركية، وتطلق تصريحات صحفية من هناك، وتعقد اجتماعات لقياداتها، ولقاءات مع قيادات سورية معارضة أخرى، وصارت تركيا في الواقع الأرض الصلبة التي تتحرك فوقها المعارضة السورية. حيث عقد أول تلك المؤتمرات في 26 أبريل من العام الماضي بدعوة من منظمات مجتمع مدني تركية لبحث مجريات الأحداث في سورية ثم تتابعت استضافة تركيا للمعارضين السوريين، والسماح لهم بعقد مؤتمرات ولقاءات في مدنها. كما عقدت جهات معارضة سورية من تيارات سياسية عديدة مؤتمراً في مدينة أنطاليا المجاورة لسورية، حضره 300 شخصية معارضة متخذاً اسم "المؤتمر السوري للتغيير". وكان من قراراته إعلان دعم الانتفاضة السورية، والدعوة إلى إسقاط النظام. وقد سهلت تركيا للمؤتمر انعقاده وإجراءاته ودعمته، ولم تمنعه من اتخاذ قرار بالدعوة لإسقاط النظام، وحمته من أنصار السلطة السورية الذين قدموا لمنعه من مواصلة أعماله. وكان المؤتمر محط دهشة السلطات السورية التي أدركت عندها أن تركيا تدعم الانتفاضة صراحة، وتتصرف على أنها راعية لها. ثم عقد مؤتمر آخر في اسطنبول في منتصف يوليو 2012 تحت اسم "مؤتمر إنقاذ الشعب السوري" شارك فيه نحو 400 مشارك، صار معظمهم من الإسلاميين بعد انسحاب الأكراد منه، وكاد المؤتمر أن يشكل حكومة انتقالية، لكنه شكل بدلاً من ذلك هيئة قيادية بمثابة حكومة، ودائماً برعاية السياسة التركية واستنكار السلطة السورية، بالإضافة إلى اجتماعات ومؤتمرات أخرى. ثانيا: استقبال اللاجئين السوريين الذين تعرضت مدنهم وبلداتهم الحدودية لاجتياح الجيش السوري وقوات الأمن، وبناء مخيمات لهم (وأحياناً بناءها مسبقاً)، واستقبالهم ورعايتهم واستقدام الوفود الرسمية ووسائل الإعلام لزيارة المخيمات، والإعلان غير الرسمي بأن السلطة التركية ستعمد إلى إقامة مناطق حدودية آمنة داخل الأراضي السورية، تطبيقاً لاتفاقية أضنة. ثالثا: تدويل قضية الثوار عبر إقناع الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية باتخاذ موقف متشدد من الحدث السوري، وتحريض هذه البلدان للضغط على سورية بمختلف الوسائل والأساليب، لتقوم السلطة السورية بإصلاح نظامها، وتحوله إلى نظام ديمقراطي تعددي. أزمة دبلوماسية بين موسكووأنقرة تمثلت مظاهر الدعم أيضا في منع وصول أسلحة إلى نظام الأسد باستخدام الأجواء التركية ففي 11 أكتوبر 2012 استدعت وزارة الخارجية التركية السفير الروسى فى أنقرة فلاديمير إيفانوفسكى، لبحث عدد من القضايا معه فى أعقاب تفتيش الطائرة السوري، فى مطار إسن بوغا فى العاصمة أنقرة. ونقلت وكالة "الأناضول" آنذاك عن مصادر دبلوماسية قولها، إن السفير الروسى وصل إلى مقر وزارة الخارجية فى وقت سابق اليوم لبحث عدد من القضايا فى أعقاب تفتيش الطائرة، بينما طلبت الحكومة السورية من أنقرة، إعادة محتويات طائرتها، التى احتجزتها. وكانت مقاتلات حربية تركية، قامت بإجبار الطائرة السورية القادمة من العاصمة الروسية موسكو، على الهبوط فى مطار "أسن بوغا" بأنقرة، بعد وصول معلومات استخباراتية للسلطات التركية، تفيد بأنها تحمل على متنها مواد لا تتوافق مع قواعد الطيران المدنى. وقامت السلطات الأمنية بالمطار بإجراء تفتيش دقيق على الطائرة، وسط إجراءات أمنية مشددة، ثم صادرت بعض المواد والمستلزمات التى يعتقد بأنها أجزاء صواريخ، وبعدها سمح لها بمغادرة المطار بركابها، فى حين تم التحفظ على المستلزمات، التى تمت مصادرتها لفحصها. تركيا تدفع ثمن دعم الثوار واجهت أنقرة مشاكل عديدة بعد دعم ثوار سوريا لا سيما بعد أن قصفت قوات الأسد مناطق تركية بشكل عشوائي في عدة مناسبات تسبب في مقتل مواطنين أتراك، وهو ما دعا تركيا إلى الرد بهجمات عسكرية محدودة في 4 أكتوبر 2010، وقال أردوغان: " تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام استفزازات النظام السوري، كما أعلن حزب شمال الأطلسي فيما بعد مساندته لتركيا العضو البارز بالحلف، عبر نشر صواريخ باتريوت على الحدود التركية, كما بلغ التوتر أشده بين تركيا وإيران على خلفية موقفي البلدين المتعارضين من الأزمة السورية. وعلاوة على ذلك لم تخل تركيا من صراعات داخلية بسبب بعض العنصر التركية الموالية لنظام الأسد. وختاما يمكن القول بإن تركيا سطرت اسمها بمداد من ذهب في سجلات الربيع العربي، وفي الثورة السورية على وجه الخصوص، وكما يقال دائما فإن وقت الأزمات أكبر مقياس للتمييز بين الغث والسمين، إذ كان موقف تركيا أبيضا ناصعا في وقت لم يعد اللون الرمادي يجدي لتحقيق تطلعات الثوار نحو مبادئ العيش والحرية والكرامة الإنسانية.