تعيش مصر أزمة أخرى في مسلسل أزمات ما بعد سقوط نظام مبارك، وفي الطريق الصعب للانتقال إلى حكم حر، تعددي، وعادل. ظاهرياً، بدأت الأزمة بإصدار الرئيس محمد مرسي، مساء الخميس 22 تشرين ثاني، إعلاناً دستورياً جديداً. ولكن الحقيقة أن بوادر الأزمة أخذت تلوح في الأفق منذ أسابيع، ومنذ بدأت الانسحابات المتتالية من الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور. لتأمين ما تبقى من خطوات باتجاه بناء مؤسسات الدولة والحكم واستقرار البلاد، لم يكن أمام مرسي سوى اتخاذ إجراء بحجم الإعلان الدستوري. ولكن صياغة مادة أو مادتين من الإعلان، والارتباك الذي واكب إخراجه وتقديمه للشعب، أفسح المجال لحشد معارضة قضائية وسياسية، وللأطراف العربية المصممة على 'منع الإخوان' من حكم أكبر الدول العربية وأهمها على الإطلاق، ولتحول أنصار النظام السابق إلى محامين عن الدستور والحريات. كانت مصر السياسية تعاني من انقسام بالغ قبل سقوط نظام مبارك، ولم تساعد وحدة أسابيع الثورة القليلة على الشفاء من الانقسام. وما إن نجحت الثورة في إطاحة النظام، حتى عاد الانقسام السياسي في أبلغ صوره، وفي أشدها حدة، وحول كل ملفات المرحلة الانتقالية تقريباً. انقسمت القوى السياسية حول دور الجيش وسلطات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، انقسمت حول تعديلات دستور 1971 وإعلان آذار/مارس الدستوري، وانقسمت حول ما إن الدستور الدائم الجديد سيكتب أولاً أو تجري الانتخابات البرلمانية والرئاسية أولاً، وانقسمت حول مجلس الشعب الأول بعد انتصار الثورة وحق المحكمة الدستورية في حله، وانقسمت حول الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، الجمعية الأولى والثانية، وانقسمت حول محاكمات رجال النظام السابق، كما انقسمت حول انتخابات الرئاسة وحول الرئيس الجديد. والمشكلة أن هذا الانقسام لا يمكن وصفه بالتدافع السياسي التقليدي في نظام سياسي، ديمقراطي، تعددي، حر، بل هو أقرب إلى المعادلة الصفرية، حيث لا يتصور كل طرف وجوده بدون القضاء على الطرف الآخر. خلال الشهور القليلة الماضية، بدا أن هذا الانقسام يكاد أن يصيب البلاد بالشلل، وأن ليس ثمة مؤسسة واحدة يمكنها أن تستمر في عملها كما ينبغي. انسحابات متتالية من الجمعية التأسيسية لخلافات حول مسائل هامشية وصغيرة، وحتى بعد التوصل إلى توافقات؛ والجمعية نفسها مهددة بالحل بقرار من محكمة دستورية مسيسة، ومعادية للثورة ولنظام الحكم الذي أفرزته الثورة؛ إضافة إلى أن موقع الرئاسة بات مهدداً هو الآخر، ليس بفعل قوة المعارضة السياسية، ولكن بفعل حراك قضائي مفتعل، يقصد به توفير مسوغات قانونية لإعلان فراغ موقع الرئيس وإثارة الشكوك حول شرعية موقعه، أو الإعلان عن عدم دستورية قرارات رئاسية سيادية. والحقيقة أن رئاسة مرسي هي مربط الفرس في كل هذا الحراك المتأزم الذي تشهده البلاد. فكما أن الطبقة السياسية المصرية التقليدية، من حكم سابق ومعارضة، لم تستسغ وجود الكتاتني على مقعد رئاسة مجلس الشعب، ولم تخف ابتهاجها عندما أطاحت المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة بالمجلس، الأول المنتخب بإرادة حرة من الشعب منذ أكثر من ستين عاماً، فإن دوائر متعددة لا تستطيع التعايش مع وجود محمد مرسي، القيادي السابق في الإخوان المسلمين، في موقع رئاسة الجمهورية. الطبقة السياسية المصرية لا تريد الاعتراف بالإخوان المسلمين قوة أصيلة وأساسية في الخارطة السياسية الوطنية، ولم تصل بعد إلى قبول حق الإخوان في المشاركة في إدارة شؤون الدولة والحكم والمساهمة في تقرير مستقبل مصر. مثل هذا التوجه يلتقي مع توجهات دول عربية، ويجد في الآن نفسه تشجيعاً من هذه الدول. ولم يعد أمراً خافياً في دوائر السياسة المصرية، أن أموالاً عربية تتدفق على مصر، وأن سياسيين ورجال أعمال، ومراكز إعلامية، تتلقى دعماً عربياً مالياً. هذا لا يعني بالضرورة أن كل المعارضين للإعلان الدستوري وسياسات الرئيس مدفوعون بالرغبة في إطاحته أو تربطهم صلات بالخارج. الخلافات في الجمعية التأسيسة، مثلاً، كانت قد حسمت حول معظم المسائل الأساسية، وما تبقى من خلافات لم يتعد مواد قليلة، تعد على أصابع اليد الواحدة، أو صياغات لغوية، أو مسائل هامشية في معظمها. ولكن ذلك لم يمنع، حتى من شاركوا في التوافق، من الانسحاب من الجمعية. الدوافع الحقيقية خلف معظم الانسحابات تتصل بمستقبل الرئاسة، وما إن كان الدستور سيسمح باستمرار الرئيس في منصبه حتى نهاية ولايته، أو أنه سينص على الدعوة لانتخابات رئاسية جديدة بعد الاستفتاء على الدستور. ولم يكن هناك شك في أن المحكمة الدستورية كانت تخطط لإصدار حكم بحل الجمعية التأسيسية، وحكم آخر ببطلان إعلان الرئيس الدستوري في 12 آب/أغسطس، الذي ألغى الإعلان المكمل الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة عشية الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ووضع نهاية لازدواج السلطة؛ بمعنى أن المحكمة الدستورية كانت تستعد لإجراء 'انقلاب دستوري' على الرئيس. وفي الوقت نفسه، قام النائب العام السابق، عبد المجيد محمود، بتحريك دعوى تقدم بها أحمد شفيق، المرشح السابق للرئاسة، حول تزوير انتخابات الرئاسة، تمهيداً لإعلان فراغ موقع الرئاسة وإجبار الرئيس على الدعوة لانتخابات رئاسية جديدة. هذا ما جعل مشهد المعارضة للرئيس أقرب إلى السوريالية منه إلى العقلانية السياسية، حيث اجتمع البرادعي، محرض القوى الغربية على بلاده، مع عمرو موسى، الذي لا يعرف له من دور في الثورة، مع حمدين صباحي، المناضل القومي الناصري، مع 'آسفين يا ريس'، مجموعة الفلول الرئيسية، مع أنصار أحمد شفيق، رجل النظام السابق بامتياز، مع القاضي أحمد الزند، غطاء مبارك القضائي في تزييف الانتخابات. وهذا ما جعل معارضة الإعلان الدستوري تتحول إلى جماعات عنف، تشعل النيران في مقار الحرية والعدالة في مدن البلاد المختلفة، في استفزاز صريح للعنف الأهلي. هذه ليست معارضة ديمقراطية، بل ثورة مضادة. بيد أن هذا لا يعفي الرئيس ومؤسسة الرئاسة من الأخطاء التي ارتكبت في صياغة الإعلان الدستوري وفي طريقة تقديمه. ثمة قوى تعارض الإعلان الدستوري في جملته، وتسعى لإسقاط الرئيس. ولكن قوى أخرى تتفهم ضرورة إصدار الإعلان في هذا الوقت، وتعارض بعض مواده فقط، لاسيما المادة الثانية التي صيغت بصورة يفهم منها تحصين كل إعلانات الرئيس وقراراته والقوانين الصادرة عنه. توحي هذه المادة بالفعل بتوفير حصانة مطلقة، لا يجب أن تعطى لأي سياسي، مهما كانت فترة هذه الحصانة محدودة وقصيرة. والمدهش أن الرئيس لم يكن يحتاج هذه المادة، وكان يكفي أن يتضمن الإعلان الدستوري تحصيناً لمؤسسات وإجراءات بعينها، يساعد على دفع العملية الانتقالية إلى الإمام ويكفل الانتهاء من عملية بناء مؤسسات الدولة والحكم في المواعيد المحددة. ويتضح تدريجياً أن أغلب مساعدي الرئيس ومستشاريه لم يكن على علم بمحتوى الإعلان ولا شارك في إعداده، بصورة أو أخرى. فإن لم يكن فريق الرئيس على دراية بالأمر، وأظهر أغلبهم شكوكاً حول مادة التحصين الثانية في الإعلان، فلماذا لا يتوقع أن تحتشد المعارضة في مواجهته؟ فوق ذلك، ولسبب ما، لم يخاطب الرئيس الشعب بصورة مباشرة، لا قبل صدور الإعلان ولا بعده، لإيضاح تصوره لأوضاع البلاد والأسباب التي دفعته إلى اتخاذ إجراء بحجم هذا الإعلان الدستوري. ما لا شك فيه أن تأييد الرئيس في الشارع يفوق تأييد معارضيه. كل استطلاعات الرأي التي أجريت منذ مساء الخميس الماضي، مباشرة بعد إصدار الإعلان الدستوري، بما في ذلك تلك التي قامت بها مؤسسات معروفة بمعارضتها المزمنة للرئيس، أظهرت تأييداً لقراراته لا يقل عن 65 بالمائة، ووصل في أحد الاستطلاعات إلى 90 بالمائة. ولكن المشكلة الآن لا تتعلق بحجم الشارعين، المناهض والمؤيد. المشكلة أن أخطاء الصياغة والإخراج والارتباك في إدارة الأزمة، سمحت للقوى السياسية التي تعارض بفعل قلق حقيقي وجاد على مستقبل البلاد ومخاوف من العودة للاستبداد، والقوى التي تعارض لأسباب إيديولوجية وبفعل دفع من الخارج، وأنصار النظام السابق وشبكات الحزب الوطني المنحل، أن تصطف معاً في مواجهة الإعلان الدستوري وسياسات الرئيس. عندما تصطف القوى السياسية في البلاد في هكذا حشد، فلابد أن يؤخذ هذا الأمر في الاعتبار، ليس فقط لعواقبه الاقتصادية، ولكن أيضاً، وبصورة أولية، لدلالاته السياسية. مناخ سياسي بمثل هذا المستوى من الانقسام لا يمكن أن يؤسس لانتقال مصر إلى الاستقرار ولإقامة نظام حر، ديمقراطي وعادل. ولكن هناك جانباً آخر للأزمة، لا يجب إغفاله؛ إذ اتضح أيضاً أن مجلس القضاء الأعلى لم يكن على اطلاع على الإعلان قبل صدوره. وقد أعرب المجلس، الذي يعتبر الهيئة العليا للمؤسسة القضائية، عن معارضته للإعلان، وإن كان بصورة معتدلة وجزئية. في لقاء بأعضاء المجلس مساء الأثنين 26 تشرين ثاني/نوفمبر، قام الرئيس بتطمين القضاء والاتفاق على إصدار بيان توضيحي لمادة التحصين الإشكالية. ولكن هذا لا يعني أن قطاعاً من القضاة لم يزل يشكك في نوايا الرئيس وفي مآلات الإعلان الدستوري. وكما القوى السياسية المعارضة، ينبغي أن تؤخذ اعتراضات الجسم القضائي مأخذ الجد. الآن، ما العمل؟ ليس هناك ثمة شك في أن الرئيس يتحمل مسؤولية رئيسية في السعي إلى إيجاد مخرج من الأزمة، وحماية البلاد من السقوط في هوة الاضطراب والعنف. يمكن للرئيس التفاوض على المادة أو الاثنتين الأكثر مدعاة للجدل والاعتراض، سواء بالتعديل أو التوضيح. ولكن الرئيس لا يستطيع التراجع عن الإعلان الدستوري بكليته. إن فعل، فلن يكون في هذا انتصار لما يسمى، تضليلاً، بالقوى المدنية، ولكنه انتصار للثورة المضادة. ما نشهده اليوم ليس أكثر من معركة أخرى في صراع لن يكون قصيراً على روح مصر؛ صراع كان انتصار الثورة بدايته وليس خاتمته.