نشرنا أمس الأول جزءا من نص أدبي غير منشور كتبه الدكتور عزمي بشارة بعد حرب غزة 2008\ 2009 وننشر هنا قطعة أخرى من هذا النص لا سيما ان بيانا موقعا من مثقفين عرب واسرائيليين يدعون للتهدئة يجعله راهنا. ففي حينه قاد الملحن والمايسترو بيرنباوم حملة تواقيع على بيان شبيه العدوان على غزة. فيما يلي هذه الفقرة من النص غير المنشور. * * * * * على مرأى الدمار أصيب الكلام بالصمتِ. ولأنّ الصمتَ يحرجُ الجالسين أُصيبَ الكذبُ بالحرجِ. فتفتَّقَ عن بياناتٍ. فقّس اللغوُ عرائض كالفطرِ. قد كنا في الماضي الغابرِ نجمعُه بعد المطرِ. صار يظهر بعد القصف. فطر هذا العصرِ عرضُ المشاعر. وصفها المنمق محدود الضمان، والكلامُ المعبِّرُ وشركاه. الدمار موسمُها الراهنُ. والمناسبةُ ركامُ الحاضرِ المغبَرِّ. صدرت مقالاتٌ ضد الماءِ والصدماتِ، على ورقٍ غيرِ قابلٍ للاحتراقِ. وامتدَّ حبلُ الكلامِ طويلا. ودعواتٌ لتحميلِ الضحيةِ وزرَ التحرِّشِ بالغزاةِ. وأخرى تحمِّل أوهام الهويةِ مسؤوليةَ الانفلاتِ. وجودُنا لا بأس أن يُخْفَى، على الأقلِّ يُخَفَّف، أو يذابُ بمحلول التعايش والسلامِ، وجودُنا ليس جميلا للأسف، وجودنا المحض بلا رتوش يقودُ إلى العنصرية، فمن الأفضل أن نغيب. هذا وقت إثارةُ الإعجابِ. وإثارة الإعجابِ أيضا صناعة. ولكلّ مهنة لا بدّ من أصحاب. إزاء فظاعة المشهدِ، وبعد الأخذ والردِّ، وتَرَدُّدِ البعض، صدَرَ البيانُ موقَّعًا مِن المثقّفين على أنواعِهم، مَن يمنحون الجوائز ويحددون المراتبَ، وروَّادها الممنوحين مدعاة فخر للعشيرة. زَكَمَت الأنوفَ رائحةُ الجلدِ المحروقِ والفوسفور. وكان التعبيرُ عن الأسى داعيا من دواعي غبطةِ الموقعين، حاملي الألقاب والمرشحين. التواقيعُ المفجوعةُ مختالةٌ. رُقِّيَ أصحابُها بالمناسبة أندادا لأبناء الحضاراتِ. نشأت زمالة مع مبدعي المستوطنات شرط أن يكونوا على يسار القاذفات. كلّها بفعل التكافؤ المرجوِّ في العريضة، وبفضل الندّيّة المفترضة في الجريدة. تجد في القائمة من يتفهم الطيّارَ وينتقدُ الطائرَة، وتجد المتحفّظين على النقدَيْن، والمحترزين على التحفظات الجائرَة، ونقادَ الأخيرين، أبناء التمدن والحضارة، والحضارة صناعة الحياة والموت وصناعة المشهد والصورة تبعث إلينا المشكلات، ولفهمها تلحق رزما من الكلمات. فهي تصدِّرُ الأدواتِ للتعقيد والحلِّ، وكلاما مرسلا عن سلاح النقد أجدى من نقد السلاحِ، وعن حرية الإنسانِ في الأدب البَواحِ. وتغمرنا بفائضِ الأخلاقِ. ساقت التواقيعَ رعايةُ الهيئاتِ. والهيئاتُ ترعى المهرجاناتِ. وتدرِّجُ المراتبَ وتمنحُ الجوائزَ وتحدد التصنيف والمنزلة، أولا وثانيا وثالثا، في الآدابِ وآداب المائدة، وفي السلوك والمسالك البولية، والفن والتفنن والجنونِ، وفي معايير الجمال والفنونِ الجميلة. الموقف المرموق يسد الرمق، ولو رمَقَنا الضحايا بنظراتهم الساخطة. شجب البيان العنف بالطرق السلمية. واستنكرَ التطرّفَ بمنتهى الودّيّة. فلكل مقام مقال. والكياسة تقتضي اللياقة. وبيّن أن الصراع شائكُ بكل أناقة، والنزاعَ مركّبٌ ومعقّدٌ. والعنفُ طبعا ليس حلا. وفيما أدانَ العنفَ من الطرفين أعربَ عن القلقِ من تموضعِ الأوضاعِ، والخشية من وقوع الوقائعِ، ومن كل شيء. وعبَّر عن الأسف العميق لحدوث الأحداث. وأكَّد من دون تمييزٍ على حقِّ الحياةِ للجانبين، القتيل والقاتل، وضمان مصالح الجاريْن والأمن للجهتين. وبيَّن بالحجة المبرمة أنّ في السلام منفعةً منوِّها أن تحسين ظروف الضحيةِ مصلحة للفاعل. وحث البيانُ على إطلاق العنان للخيال في الحلول مشددا على الإبداع في صياغة المخارج. والفن طبعا أقصر الطرق. ومثلما أبدعَ صاغةُ البيان بيانا خطبوا ضد الكلام. ولم يبخلوا بالكلام ضد الخطابات. وابتكروا شعارا في ذمِّ الشعاراتِ. في الختام بشَّر أعلامُ الموقِّعين بورشاتِ عملٍ للتعايشِ. ومِسْكُها مؤتمرٌ. وإعلانُ المؤتمر للإعلام. والإعلام للكلام. والكلام من أجل السلام. وسلام مربع للسلامِ. وفي الإعلان جائزتان لفنانين، عربيّ ويهوديّ، جائزتان لأفضل فيلمين. وثالثة لمن يبدعُ أفضلَ حلٍّ للصراع، وللدقة أبدع حلّين. فورَ انتهاءِ ورشةِ القصفِ نوديَ لمؤتمر الحوارِ. يلتئِمُ المؤتمرُ حال تحديدِ المقرّ. فعلى استضافته تتشاجر دولُ الجوارِ.