جاءت الزيارة الأولى لرئيس مصري لإيران، بعد عقود من العداء السياسي؛ في سياقات دوليّة وإقليميّة وقُطريّة شديدة الحساسيّة. هذه الزيارة، التي مرّ عليها ما يزيد على الشهرين؛ لم تكتنفها التكهُّنات المتضاربة فحسب، بل وتضاربت حيالها ردود الأفعال على امتداد الطيف السياسي، وداخل المعسكر الواحد أحياناً. وفي حين تبنّت بعض التيّارات 'الإسلاميّة' الدعوة لإلغاء الزيارة، باعتبارها 'خيانة' لدم شهداء الثورة السوريّة؛ الذين تُساهم إيران (لوجستيًّا وعسكريًّا) بقسط وافر في سفك دمائهم دفاعاً عن حليفها البعثي، فإن بعض الجيوب العلمانيّة رأت في الزيارة تواصُلاً 'أيديولوجيًّا' قد يزيد من 'راديكاليّة' النظام الجديد في مصر. كذا تراوحت حُجج المؤيدين من اعتبارها إيذاناً بخروج مصر من 'الفلك الامريكي'، مروراً باعتبارها 'صفعة' لدولة مثل الإمارات؛ والتي 'ترفض' مدّ يد العون لمصر التي يحكمها الإسلاميون، وانتهاءًا باعتبار الزيارة تمهيداً ل'وحدة إسلاميّة'. وللأسف؛ صدرت هذه التحليلات جميعها عن تصوّر اختزالي أسير رؤى أيديولوجيّة ضيّقة؛ جرّد هذه الزيارة من سياقها التاريخي، ومن ثمّ فقد رأى فيها ما يتمنّاه، ولو كان بعيداً عن الواقع كُلّ البُعد. فمن حالم بالعودة الفوريّة للعلاقات في زيارة واحدة سحريّة؛ تُزيل تراكمات سوء الفهم التاريخيّة، إلى حالم باستمرار انقطاع العلاقات؛ متغافلاً عن اعتبارات تغيُّر الواقع، بل ومتعامياً عن استمتاع كل الدول العربيّة والأوروبيّة بعلاقات ممتازة مع إيران، وكأن القطيعة التزام مصريّ قُحّ. إن وضع هذه الزيارة، ومن ثمّ مستقبل العلاقات المصريّة الإيرانيّة؛ في سياق 'التقاطُع الأيديولوجي' بين الإخوان المسلمين والثورة الإيرانيّة مجرّد استسهال ليس له أي مقدرة تفسيريّة؛ فهو يغفل تغيُّر الواقع (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري)، وعلمنة الممارسة السياسيّة للطرفين. فمن جانب؛ يمكن الجزم بانتهاء الثورة الإيرانية تماماً على يدّ هاشمي رفسنجاني، واكتمال تحوّل إيران ل'الدولة' على يدّ محمّد خاتمي. إذ لا يُمكن أن تستمرّ ثورة للأبد؛ ناهيك عن استمرارها رغم ارتباطها المبكِّر ب'البازار'. التجار محافظون لدرجة الرجعية، وذلك ليحفظوا حداً أدنى من الاستقرار لنمو تجارتهم، وكذلك السياسيين؛ ليحتفظوا بمكاسبهم. ومع وصول الثوّار للسلطة وتحوّلهم لسياسيين، فإن إيقاف المدّ الثوري يُمسي هدفاً مشتركاً يُمهّد لبسط الدولة سيطرتها، أو لسيطرة البازار/السوق. وقد كان انغماس الحرس الثوري في النشاط الاقتصادي سبباً في تسريع وتيرة هذا التحوّل. على الجانب الآخر، فإن الدمج غير الرسمي لجماعة الإخوان في النظامين السياسي والاقتصادي في مصر منذ منتصف سبعينيّات القرن العشرين، قد ساهم في تسارُع مُعدّلات علمنة الممارسة السياسيّة للجماعة، ومن ثمّ تغيُّر رؤاها الاستراتيجيّة، وهيمنة البُعد السياسي -ببراغماتيته- على أولويّاتها. لذا، فرُبّما كان الأدق هو قراءة هذه الزيارة، ومن ثمّ مستقبل العلاقات بين البلدين، في سياقاتها؛ بعيداً عن التحيُّزات العاطفيّة والمُزايدات الأيديولوجيّة، باعتبارها زيارة رسميّة ذات طابع سياسي صرف؛ غرضها استكشاف الآفاق المُغيَّبة عن صانع القرار المصري منذ ما يزيد عن الثلاثة عقود. زيارة تحكُمها أولاً وأخيراً اعتبارات المصلحة القُطريّة؛ على كافّة المستويات. فهي زيارة لرئيس مصري، وليست زيارة لممثل جماعة الإخوان المسلمين. وبغضّ النظر عن قيمة 'رشاوي' بعض دول الخليج لنظام مبارك، لصالح استمرار القطيعة مع إيران، بسبب ما يعود على هذه الدول من مكاسب سياسيّة واقتصاديّة، فقد كانت هذه الرشاوى تلقى ترحيب مُبارك؛ بما أن عداءه لإيران اكتسب بُعداً شخصيًّا، خصوصاً خلال العقد الأخير، وهو ما تجلّى بوضوح بعد انتخاب أحمدي نجاد. فمبارك الذي عُرف ببغضه لذوي اللحى؛ خصوصاً بعد أن أسنّ وأمسى يعتبرهم تهديداً مُزعجاً لسلطته؛ وجد في الإدارة الإيرانية تحت نجاد ما وجده في حماس: 'التهديد الراديكالي'. وفي حين تميّز النظام التركي بوعي وبراغماتيّة مكنّاه من إبرام اتفاقيّات اقتصاديّة استراتيجّية مع نظام مبارك المعادي للإسلاميين وأشباههم، فإن الإيرانيين -الذين لا يقلّون وعياً ولا براغماتيّة- قد أصرّوا، رُبّما من قبيل الغطرسة؛ على ذات الديباجات الأيديولوجيّة التي لا تعكس واقعاً حقيقيًّا على نفس درجة الحديّة والعدوانيّة، وهو الأمر الذي ساعد نظام مبارك وإعلامه على تصوير إيران باعتبارها تهديداً أكثر خطورة من الكيان الصهيوني. وهي الصورة التي تلقّفتها بعض التيّارات 'الإسلاميّة' السلطويّة لتمتطيها، وتبدأ في تغذية الصراع السياسي بعناصر مذهبيّة تطيل أمده، وتضفي عليه مشروعيّة 'إسلاميّة'. إنّه برغم الحنكة الشديدة للدبلوماسيّة الإيرانيّة في مواجهة الغرب، فإن هذه الحرفيّة تختفي بل وتذوب معها البراغماتيّة في مواجهة الدول العربيّة، ومحيطها الإسلامي، لتتبدّى غطرسة سياسيّة ممتزجة بالرعونة في التعاطي الإيراني مع محيطها الاستراتيجي. فقد عجزت إيران عن الاحتفاظ بحليف واحد حقيقي في ذلك المحيط سوى النظام السوري، والذي لا يخلو تحالفها معه من حسابات طائفيّة تُطلّ أحياناً بوجهها القبيح، لتشوّه المشهد السياسي. من المؤكد أن إشعال حرب قوميّة وتغذيتها بعناصر مذهبيّة، لتقويض الثورة الإيرانية الوليدة، آنذاك؛ لم يؤد فحسب لزيادة العناصر القوميّة والمذهبية في الأيديولوجية الإيرانية، بل ساهم بشكل واضح في عزل تجربتها وتقويض احتمالات تطويرها. ومن ثمّ، فإذا كانت هذه السياسات منسجمة مع منطق الثورة الإيرانية؛ كرد فعل على السلوك العدائي للأنظمة العربيّة الموالية لأمريكا، فإنها لا تنسجم مع إيران/الدولة؛ التي تحتفظ بعلاقات اقتصاديّة ممتازة مع ذات الجيران. وإذا كانت الضرورتان السياسيّة والاقتصاديّة هي أهمّ دوافع الرئيس المصري للتواصل الفعّال مع الإيرانيين، فإن ذلك برأيي يخدم هدفا استراتيجيا تتفق فيه الاستراتيجيّتان الامريكية والمصريّة: حشد المجتمع الدولي لإزاحة نظام بشّار الأسد، وتحييد الفاعل الإيراني على الأرض مُقابل حوافز أهمّها استعادة العلاقات مع مصر. إن سعي الديبلوماسيّة المصريّة لاستعادة توازُن سياستها الخارجيّة، خصوصاً في منطقة الخليج؛ يتفق إلى حدٍ كبير مع الرغبة الامريكية الواضحة في احتواء النظام الإيراني سلميًّا؛ كخطوة لاستمرار عمليّة تفكيكه من الداخل. وإذا كان شهر العسل المصري السعودي في عهدي السادات ومبارك قد ساهم في تفكيك الكثير من البؤر الراديكاليّة في المملكة؛ فإن المطلوب هو شهر عسل مصري إيراني يُساهم في استمرار علمنة الأخيرة، وتفكيك كُلّ البنى الصلبة والجيوب الراديكاليّة. إن العلاقات المصريّة الإيرانيّة لن يتمّ استعادتها مجّاناً، كما يظُنّ بعض السُذج؛ وهو ما فهمه الإيرانيّون مُبكّراً، ولا زالوا يرفضون التسليم به، برغم ضعف موقفهم التفاوضي. وقد بدا صانع القرار المصري غير مدرك لتركيبيّة الواقع الاجتماعي والسياسي الإيراني المعاصر برغم الطابع السياسي المتحفّظ الذي وسم تحرُّكاته وتصريحاتُه، وبرز هذا الخلل في تعامُله مع ذلك الواقع من خلال مقولات اختزاليّة ساذجة فرضتها عهود القطيعة الأيديولوجيّة. ولم يكُن ترضّيه على الشيخين -رضي الله عنهما- بأقل ابتذالاً وسخافة ممن اعتبر هذا الترضّي نُصرة ل'الإسلام' في عُقر دار 'الرافضة'؛ وهي عقليّة شعبويّة سمجة لا تزال تدور في الإطار الفجّ للمعارك الخطابيّة؛ التي تؤجج نار الفُرقة ولا تصنع انتصارات حقيقيّة. هذه المعركة الخطابيّة التي قُصد بها دغدغة مشاعر بعض التيّارات التي عارضت الزيارة، واستعادة تأييدها للمشروع 'الإخواني'؛ كشفت الثلمة في تصوّر صانع القرار المصري، بقدر ما سهّلت على بعض السياسيين الإيرانيين المؤدلجين تصنيفه؛ بل وفتحت الباب للإعلام الحكومي الإيراني للتلاعُب بخطابه وتزييفه بابتذال واستخفاف غير مسبوقين. برغم أني لست على ثقة في قُدرة صانع القرار المصري على تحييد المؤثرات غير المرغوبة في تعاطيه مع الواقع الإيراني، إلا أني سأدلي بدلوي من خلال خمس ملاحظات مهمّة يمكن أن تُفيد في تطوير مفتاح لفكّ شيفرة ذلك الواقع الشديد التركيب، وإن لم يكُن صانع القرار قادراً على الإفادة منها، لأسباب لا مجال لبسطها؛ فليس أقل من لفت انتباه ذوي الصلة من المراقبين والمحللين والمستشارين إليها؛ وذلك لتطوير خطاب صالح للتعاطي مع الطرف الإيراني. أول هذه الملاحظات هو عمق الشقّ الطولي للمجتمع الإيراني، فيما يتعلَّق بالتقارُب مع الدول المسلمة. فهناك جمهوريتان في إيران؛ واحدة طوباويّة خيالية تكمن في الخطابات الناريّة، والشعارات الأيديولوجيّة، والأخرى واقعية غارقة في الملذّات والفساد. وقد رضي النظام مرغماً - في الغالب - بهذا الفصام، الذي يؤدي لعلمنة المجتمع بسرعة هائلة؛ في سبيل احتفاظه بالسلطة. وثانيهما هي كون إيران تدور في إطار نموذج الدولة القوميّة الحديثة، وإذا كان لشعارات الوحدة الإسلاميّة (أو حتى شعارات التمذهُب المناقضة لها) حضور إعلاميّ كثيف، وعُمق معرفيّ نخبويّ؛ فإن السياسات الخارجيّة الإيرانيّة -كمثيلاتها في كل الدول المسلمة- تتشكَّل أصلاً على أرضيّة المصالح القوميّة القُطريّة. ويجيد النظام استخدام كلاً من شعارات الوحدة والتمذهُب بكفاءة عالية؛ لتعزيز السياسات الخارجيّة ذات الطابع القومي. ثالثهما أن فصام الهويّة العميق، الذي لا يتجلّى بوضوح في قمّة الهرم السياسي الإيراني بقدر ما يتجلّى في قاعدته العريضة؛ يجعل صانع القرار الإيراني يراوح بين النموذجين باستمرار؛ مما يجعل سلوكه مُربكاً للمراقبين في كثير من الأحيان. وإن كانت سياساته تنبني باصل على أرضيّة 'المصلحة القوميّة' والتي يتم تغذيتها بعناصر مذهبيّة، فإن هذه السياسات قد تجنح أحياناً، ولفترات قصيرة؛ ل'الوحدة الإسلاميّة'. إن تبنّي النظام السياسي الإيراني لكلا النموذجين وقدرته على استخدامهما بكفاءة، بل وانتهازيّة؛ يضفي عمقاً ومصداقيّة على أطروحات كلا التيارين؛ ويمنحهما نفوذاً شبه متكافيء على الرأي العام، بل وعلى صانع القرار ذاته، لذا فإيران ليست 'الفردوس الإسلامي'؛ بل هي مزيج مُركّب، غاية في التعقيد؛ يصعُب فصل مكوّناته. رابعهما يُمكن الزعم بأن الشعب الإيراني مُحبّ للمصريين بشكلٍ خاص؛ ويعتبرهم خارج الدائرة العربيّة (في تعريفه الشعوبي)، أو حتى أسمى منها. فإذا كان القوميّون العلمانيّون يرون في مصر الفرعونيّة مهداً للحضارات؛ يبُزّ حضارتهم الفارسيّة الحديثة نسبيًّا، فإن الإسلاميّين يرون في بلد الأزهر ومراقد آل البيت قبلة علميّة وروحيّة، وقيادة وسطيّة رشيدة للعالم الإسلامي. خامسهما أن مصر لا تعاني من أزمة شيعيّة، فليس بها أقليّات شيعيّة حقيقيّة 'مأزومة' حاشا التشيُّع العاطفي والسياسي لبعض الجيوب النُخبوية من دراويش المثقّفين والأكاديميين. ومن ثمّ فهي ليست طرفاً في الحرب الطائفيّة/السياسيّة الباردة بين السعوديّة وإيران، والتي يسعى التيّار 'السلفي' جاهداً للزج بمصر فيها؛ مما سيُقوّض استقلاليّة الدبلوماسيّة المصريّة، التي تسعى جاهدة للتعافي، ويُحيّدها كحكم مقبول سياسيًّا من الطرفين. إن عودة النفوذ المصري التاريخي في العالم العربي والإسلامي لطبيعته، مشروطٌ بعامل محوريّ وأساسيّ لا غنى عنه؛ وهو النأي بمصر حكومة وشعباً قدر الإمكان؛ عن أي صراع عرقي أو إثني أو مذهبي. فبما أن هذه القوّة الناعمة هي في جوهرها نفوذٌ أخلاقيّ وثقافي؛ فإن ذلك يقتضي بالضرورة أن يتجنّب صانع القرار الانجراف خلف الدعوات المشبوهة التي تجعل من مصر طرفاً في النزاع مع أي دولة عربيّة أو مسلمة، ومن ثمّ تُفقدها مصداقيّتها وعدالتها كحكم لا غُبار على نزاهته؛ مُرتضى من جميع الأطراف. إن أهم مكامن فعاليّة القوّة المصريّة الناعمة ألا تكون مصر صاحب مصلحة مُباشرة وفجّة في أي من النزاعات التي يصطليها العالم العربي والإسلامي، فلا تنساق لخوض أو لتأجيج أيّها، وذلك ليُمسي صوتها مسموعاً وحُكمها محلّ تقدير واحترام. وهذا ليس حياداً يستحيل تحقُقه في مجال العلاقات الدوليّة، بقدر ما هو تعفُف عن التكسُّب بالدسّ والوقيعة. إن تطبيع العلاقات المصريّة الإيرانيّة حتميّة استراتيجيّة تفرضها ضرورات التاريخ والجغرافيا والسياسة والاجتماع. ولا زال في الوقت مُتسع لصانع القرار الإيراني 'البراغماتي' للتنازُل -إراديًّا- عن بعض غطرسته والاعتراف بتغيُّر الوضع على الأرض، وتوظيفه لصالحه لو أراد. فكُلّ يوم يمُرّ على هذه الحال، وفي ظلّ الحصار الاقتصادي والتضخُّم الرهيب الذي أدى للسقوط المريع لقيمة العملة الإيرانية؛ لكُلّ يوم قيمته في هذه الظروف الدقيقة كما تُخبرنا تجربة الشاه المقبور؛ والذي لجأ في اللحظات الأخيرة لإصلاحات قشريّة سخيفة زادت الطين بلّة. ورُبّما كان رفع اسم منظّمة 'مجاهدي خلق' من قائمة التنظيمات الإرهابية؛ جرس إنذار استكبر النظام الذي يبدو مسوقاً لمصيرٍ مجهولٍ معلوم عن الإصغاء له. تطبيع العلاقات المصريّة الإيرانيّة آت لا ريب، وهو مسألة وقتٍ فحسب؛ لذا، فرُبّما كان السؤال الأصح في هذا السياق ليس عن إمكانيّة التطبيع من عدمه، بل عن هويّة 'الطرف الإيراني' الذي سيقود عمليّة التطبيع مع الطرف المصري ô 'الإخواني'؛ كما يحلو للبعض تصنيفه.