بالرغم من الاجتياحات الموضعية العسكرية الإسرائيلية لمناطق قطاع غزة، والمطاردات المتواصلة المتبوعة بالاغتيالات لكوادر جميع القوى الفلسطينية بما في ذلك حركة فتح في الضفة الغربية، مابرحت وسائل الإعلام الإسرائيلية ومصادر حكومة أيهود أولمرت تنشر التفاؤل المصطنع، وتثير الآمال الزاهية أمام الرأي العام العالمي بشان مستقبل التسوية مع الفلسطينيين، مستندة إلى الجهود الحثيثة التي تبذلها الإدارة الأميركية على طريق انعقاد المؤتمر الإقليمي في الخريف القريب.
فكلما اقترب موعد المؤتمر الإقليمي العتيد للسلام في الشرق الأوسط، وهو المؤتمر الذي دعا إليه الرئيس جورج بوش الابن في سياقات تنفيس الأزمات السياسية الخارجية للإدارة الأميركية، كلما ازداد تواتر المشاريع الإسرائيلية الوهمية المطروحة للسلام مع الفلسطينيين من نمط مشروع اولمرت الجديد الذي صاغه مساعداه، يورام تربوبيتش وشالوم ترجمان المسمى أيضاً ب «اتفاق دائم مفصل متأجل التطبيق شامل بوساطة أميركية» والذي يتضمن إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة (فليس لدى الإسرائيليين شيء اكثر ديمومة من المؤقت) على نحو90% من أراضي الضفة الغربية.
يضاف إليه مشروع إعلان اتفاق مبادئ جديد تدفع الإدارة الأميركية لبلورته قبل البدء بأعمال المؤتمر الإقليمي حال لم يتم التوصل إلى اتفاق حول المشروع الأول، فمصادر حكومة أولمرت تشير إلى أن الأسابيع القليلة المقبلة ستشهد نشاطاً دبلوماسياً وسياسياً على الحلبة الإسرائيلية الفلسطينية، خصوصاً مع الزيارة المتوقعة لمساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد وولش سيزور المنطقة مطلع الشهر المقبل للتحضير لزيارة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، كما في زيارة موفد الرباعية الدولية توني بلير للمنطقة استعداداً لانعقاد اللجنة في نيويورك بدعوة أميركية لبحث حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وفي الواقع العملي تشير مختلف المصادر إلى أن المداولات التمهيدية داخل حكومة أيهود أولمرت إلى جانب اللقاءات التي تمت مع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض، تدل على أن أيهود اولمرت، والنائب الأول لرئيس الوزراء حاييم رامون ووزيرة الخارجية تسيبي لفني يعترفون بان نجاح المؤتمر الإقليمي في واشنطن منوط بالقدرة على عرض وثيقة مبادئ مشتركة لإسرائيل والفلسطينيين في ختامه.
ولهذا الغرض فهم يطرحون الآن أشياء مكررة تتناول مسائل التسوية الدائمة مع تجنب المواضيع الكبرى الرئيسية المتعلقة بقضية اللاجئين الفلسطينيينوالقدس والحدود الدائمة، وإدامة الصيغة المطاطة إياها التي وردت في العديد من إعلانات مبادئ تم التوصل إليها منذ اتفاق أوسلو الأول الموقع في حديقة البيت الأبيض في 1993.
وعليه فان حكومة أيهود أو لمرت تبحث الآن سبل الجسر بين هوة الحل الدائم والحل المؤقت، بصيغ تسمح لها بتفسيرها حسب احتياجاتها، ففي حالة الحدود، الحل الوسط الذي تراه إسرائيل من المتوقع ان يكون اتفاقا على حدود مؤقتة في المرحلة الأولى، وتأجيل الإعلان عن دولة إلى أن يتحقق اتفاق على الحدود الدائمة، واقرار مبادلة أراض وتعليق موضوعي القدس واللاجئين.
وكلما اقترب موعد انعقاد المؤتمر الدولي إياه، والمقرر في الخريف القادم، كلما ارتفعت عقيرة الأصوات الإسرائيلية في الائتلاف الحكومي والمعارضة على حد سواء في التهديد من الخطر السوري وإثارة فزاعة السلاح الصاروخي، وأخرها صوت عضو الكنيست المهووس الصهيوني افيغدور ليبرمان.
وزير الشؤون الاستراتيجية والعضو الهام في ائتلاف أيهود أو لمرت الذي دعا إلى الاستعداد لمواجهة ما أسماه التهديد السوري والرد حال قيام عمليات عسكرية بقصف «البنى التحتية من مطارات ومرافئ ومحطات الطاقة ومصافي النفط والمباني الحكومية ومواقع الحرس الجمهوري واعادة سوريا للعصر الحجري، وإحراق دمشق عن بكرة أبيها» على حد تعبير الصهيوني الفاشي الروسي الأصل ليبرمان وهو الذي وطأت قدماه أرض فلسطين كمستوطن عام 1989 قادماً من وطنه الأصلي روسيا.
وعلى الجانب الآخر، يلحظ توالد انكماش دولي حيال الدعوة الأميركية لمؤتمر واشنطن للسلام في الشرق الأوسط، ومن بين المواقف الدولية نلمس تحفظ روسيا الكامل على الدعوة للمؤتمر كما جاء على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف. فموسكو ترى في مؤتمر بوش محاولة أميركية للالتفاف على المجموعة الرباعية وعلى دورها بوجه التحديد، كما أن اللامبالاة مازالت تسيطر حتى على الموقف الأوروبي الغربي.
فدول الاتحاد الأوربي مازالت تتمسك بخطة «خارطة الطريق» حيث مازالت ترى فيها «مبادرة دولية» تحظى بشرعية الأممالمتحدة بعد أن تم تزكيتها في الجمعية العمومية كمشروع للسلام في الشرق الأوسط، فضلاً عن كونها المعبر الممكن لتجاوز حالة الركود في الشرق الأوسط واعادة تحريك قاطرة السلام.
إن التحولات في تكتيكات السياسة الأميركية تأتي متبوعة بالعجز الأميركي المتتالي في ملفات الشرق الأوسط، فالإدارة الأميركية أطلقت مبادرتها للمؤتمر الإقليمي في محاولة لتحقيق تقدم وإنجاز في مناطق الأزمات على قوس مصالحها الاستراتيجية في ظل عجز متزايد يمتد من لبنان وفلسطين إلى العراق وصولاً إلى أفغانستان.
فمن الوجهة الأميركية، يعتبر تحقيق تفاهم إسرائيلي - فلسطيني بالنسبة لمسائل التسوية الدائمة كفيلا بان يوسع إطار المؤتمر ويضم إليه دول أساس كالسعودية وغيرها من الدول العربية تمهيداً لفتح قوس العلاقات الإسرائيلية مع أوسع عدد من الدول العربية خصوصاً منها الدول ذات الوزن والحضور.
وبالنتيجة، إن السخونة السياسية القادمة إلى المنطقة تكمن في عدة استحقاقات تنتظرنا في الخريف القادم، الاستحقاق الأول يتمثل بعقد المؤتمر الدولي للسلام المشار إليه بعد أن بان أمام واشنطن مدى التهتك والانهيار الذي أصاب التسوية على مسارها الفلسطيني الإسرائيلي، وثاني الاستحقاقات يتمثل في الجلسة الأولى المقررة للمحكمة الدولية التي شكلها مجلس الأمن، والمعنية بالتحقيق في اغتيال الشهيد رفيق الحريري.
وهي انطلاقة تراهن عليها الإدارة الأميركية لرفع مستوى الاحتقان والخراب في البيت الداخلي اللبناني وفي احداث المزيد من الضغط السياسي على دمشق، وثالث الاستحقاقات يتمثل في الانتخابات القادمة للرئيس اللبناني، ورابع الاستحقاقات تمثل في النتائج التي ستتمخض عن تقريري كروكر وبتريوس المتعلقين بتقييم أداء القوات الأميركية.
وعليه، فإن القيادة الإسرائيلية ومعها الإدارة الأميركية تعملان الآن بخطوات متسارعة لاستغلال حالة الضعف التي يعانيها الفلسطينيون بعد تفكك عرى الوحدة الوطنية الشاملة والانفصال الواقعي القائم الآن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي أفصحت عنه كوندوليزا رايس في زيارتها للمنطقة عندما طالبت الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالتقاط الفرصة والسير قدماً مع الإسرائيليين لإحياء المفاوضات والتوصل لإعلان مبادئ جديد.
وفي هذا السياق تعمل الإدارة الأميركية على تهميش سوريا ومقايضاتها بين دعوتها للمؤتمر وبين الاستجابة لعديد المطالب الأميركية وتحديداً منها المطالب المتعلقة بحث سوريا على لعب دور أمني لصالح الأميركان في العراق.
وعلى كل حال، وكما يجمع عشرات المتابعين، فإن المؤتمر الإقليمي المقرر التئامه في الولاياتالمتحدة لن يضيف شيئاً جديداً، ولن يكون أكثر من كرنفال احتفالي يخدع البصر والرأي العام العالمي أمام عدسات الكاميرا والقنوات الفضائية، خصوصاً مع تحفظ موسكو واحتمال غيابها وانكماش العديد من المواقف الدولية تجاه أعمال المؤتمر، خصوصاً وأن سوريا غير مدعوة له وهي طرف أساسي معني تماماً بملف الصراع والتسوية في المنطقة.