يصر الرئيس الأميركي جورج بوش على الهروب من حقيقة الموقف في العراق، لذا فكثيراً ما يبدو متيماً برفض أي رؤية قد تكون مغايرة لطريقته الخاصة في فهم وإدارة الأوضاع السياسية والأمنية في العراق. وهو يصر على هذه الطريقة منذ أن غزا العراق قبل أربع سنوات ونيف. وفي هذا الإطار يبدو الرئيس بوش كما لو كان غير قادر على فهم ديناميات الواقع الإقليمي المتشابك المحيط بالعراق، ويبدو فشله ذريعاً في تحقيق التوازن المطلوب لسياساته في الشرق الأوسط، انطلاقاً من سوء تقديره لحقيقة الأوضاع في العراق. في هذا الصدد يبدو تحذيره القوي لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بعدم التساهل مع إيران، دليلا قوياً على عدم فهم ديناميات العلاقة بين إيران والعراق، وما تمثله من ركن أصيل في تقييم أي محاولة أميركية للتعاطي مع الأوضاع السلبية في العراق. فالرئيس بوش ينظر إلى أي تقارب إيراني عراقي كما لو كان تهديداً للوضع الأميركي في الشرق الأوسط بوجه عام، لذا فقد وجه رسالة شديدة اللهجة إلى المالكي، والذي كان في زيارة لإيران استغرقت يومين، حذره فيها من التقارب مع طهران متهماً هذه الأخيرة بالعمل على قتل الأميركيين في العراق من خلال شحنات الأسلحة التي تقدمها لبعض الميليشيات والجماعات العراقية، على حد قوله. ولم يكد نوري المالكي يشيد بالدور البناء الذي تقوم به إيران لدعم حكومته والحفاظ على الأمن مع العراق، حتى اتهم الرئيس بوش طهران بالعمل على تقويض الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، طالبها بضرورة وقف تدخلها في سياسات الشرق الأوسط. في المقابل، أكد الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أن السبيل الوحيد لوقف العنف في العراق هو الانسحاب الأميركي من العراق، وذلك في رد واضح ومباشر على هجوم الرئيس بوش عليه. في هذا السياق يبدو العراق باعتباره إحدى الساحات الرئيسية للحرب الباردة القائمة بين طهرانوواشنطن، والتي يسعى كل طرف لاستغلالها من أجل كسب نقاط قوة على حساب الطرف الآخر. فإيران من جهتها تشعر بأنها تملك أوراقا قوية داخل العراق، ليس أقلها الدعم الأمني والسياسي الذي تقدمه لحكومة المالكي، فضلاً عن العلاقات التاريخية القوية مع العديد من زعماء التيارات السياسية العراقية، وانتهاء بالدعم المادي والعسكري الذي يقدم لبعض الميليشيات العراقية، والذي كثيراً ما تتحدث عنه وسائل الإعلام الأجنبية. وهي في ذلك ترى أن تقوية الحكومة العراقية، يعني وضع احتمالات للانسحاب الأميركي من العراق، ما يمهد لتقوية العلاقات بين طهران وبغداد لاحقاً. بيد أن هناك من يعتقد بأنه من مصلحة طهران أن يظل العراق ضعيفاً، من أجل ضمان بقاء القوات الأميركية هناك، وبالتالي استمرار مسلسل الاستنزاف العسكري والبشري. من جهتها ترى واشنطن أن العراق، ورغم الخسائر الكبيرة التي تتعرض لها القوات الأميركية هناك، يعد حجر زاوية في حماية المصالح الأميركية في المنطقة، ليس فقط كقاعدة ارتكاز استراتيجية، وإنما أيضا كقوة ردع مستقبلية أمام أي تهديد إقليمي لمناطق النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط بوجه عام، ناهيك عن حماية صديقتها إسرائيل من أية مخاطر إقليمية. بيد أن السؤال هو: إلى أي الطرفين يميل موقف المالكي؟ حقيقة الأمر أن تشابك الملف العراقي يطغى بشكل واضح على رؤية أية حكومة عراقية في مسعاها لتقييم العلاقة مع كلا الطرفين. فمن جهة تبدو مثل هذه الحكومة، وغيرها، في حاجة لجهود كل جيرانها، ليس فقط للروابط التاريخية والمذهبية التي قد توجد معها، وإنما للحفاظ على أمنها وعمقها الاستراتيجي، ويتوقف الأمر على استغلال هؤلاء الجيران لهذا الاحتياج. وهنا تسعى إيران كي تكون القطب المغناطيسي الأكثر جذبا للعراق من غيرها، وذلك على الرغم من الإرث السيئ للحرب العراقية الإيرانية التي استمرت قرابة عقد كامل خلال الثمانينيات من القرن الماضي. ولكن من جهة أخرى، فإن احتياج الحكومة العراقية لدور أميركي فاعل وقوي يظل احتياجاً مصيريا، إن لم يكن لتحقيق الردع الداخلي تجاه القوى المناوئة لها، فعلى الأقل لتحقيق شراكة استراتيجية تستفيد من المظلة الأمنية والسياسية للقوة العظمى في العالم. وفي هذه الحال يبدو احتياج نوري المالكي لكلا الطرفين (طهرانوواشنطن) متساوياً، ومتداخلاً أيضا، ويبقى عليه أن يحسن إدارة العلاقة معهما، حتى لا تطغى إحداهما على الأخرى فيخسر دعمها. على أن الوظيفة الأساسية التي ينبغي على المالكي، وأية حكومة عراقية أخرى، القيام بها هي محاولة إقناع كلا الطرفين بعدم استخدام بلاده ساحة صراع بينهما، وذلك في سبيل تحقيق التوازن المطلوب في علاقتها بكليهما، وحتى لا يقع العراق ضحية لمثل هذه الحرب الباردة بين طهرانوواشنطن.