جدل واسع خلفته الاتفاقية الأمنية المفترض توقيعها بين الطرفين الأميركي والعراقي قبل نهاية يوليو المقبل. وهي الاتفاقية التي تم التعرض لها إبان زيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الأخيرة للولايات المتحدة أواخر العام الماضي. وللتوضيح فقط ، فإن الاتفاقية محل الخلاف تسعي لتقنين وضع القوات الأميركية فى العراق واستبدال قرار مجلس الأمن رقم 1546 الخاص بوضع القوات متعددة الجنسية فى العراق بقرار عراقي يوفر مظلة شرعية لبقاء القوات الأميركية هناك. ولا أعتقد أن المشكلة تكمن فى وجود مثل هذه المظلة من عدمها، بقدر ما تكمن فى طبيعة الأدوار والمهام المنوط بالقوات الأميركية القيام بها فى العراق. لذا فإن نقاط أربع رئيسية تمثل محاور الخلاف الأساسي بين الطرفين، وتثير شكوك الكثيرين حول مغزى الاتفاقية، أولها يتعلق بحجم وعتاد القوات الأميركية التي من المفترض أن تظل فى العراق إذا ما اتخذ قرار أميركي بالانسحاب من هناك، حيث تنص الاتفاقية على إنشاء ما يقرب من 400 معسكر فى مختلف أنحاء العراق، يكون لها حق الحصول على أسلحة وعتاد بعيداً عن الرقابة العراقية. وثانيها يتعلق بالصلاحيات التي من المفترض أن تحصل عليها القوات الأميركية، وهنا يطرح الطرف الأميركي صلاحيات تمثل انتهاكاً واضحاً لسيادة العراق على أرضه، حيث يرغب الأميركيون فى أن تكون هناك حرية تامة لقواتهم فى العراق فيما يخص تعقب والقبض على من تشاء دون إبلاغ الجهات العراقية المسؤولة بذلك، أو التنسيق معها. كما يسعي الطرف الأميركي لتضمين المعاهدة بنداً ينص على بعدم ملاحقة الجنود الأميركية جنائياً وقضائياً، وذلك على غرار ما فعلت الولاياتالمتحدة مع العديد من البلدان الأخري التي تدخلت فيها وقام جنودها بارتكاب عمليات وحشية بها. وثالثها، الإطار الزمني للاتفاقية، وهل ستكون مفتوحة دون سقف زمني، أم سيحق لأي طرف إلغاءها من تلقاء نفسه فى أي وقت. ورابعها، إمكانية إجراء استفتاء على الاتفاقية من قبل شعبي كلا البلدين وهنا يرفض الطرف الأميركي الحصول سواء على موافقة الكونجرس على الاتفاقية، أو إجراء استفتاء شعبي فى العراق حولها. المبررات الأميركية للتوقيع على مثل هذه الاتفاقية كثيرة ، أولها أنها تتيح للولايات المتحدة تقنين وضع قواتها فى العراق ، وذلك من خلال صيغة معروفة وجرى تطبيقها فى الحالات السابقة التي قامت فيها الولاياتالمتحدة باحتلال بلدان أخرى مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، وهي صيغة "وضع القوات" المعروفة اختصارا باسم "صوفا" Status of Forces Agreement SOFA)). ولا أعتقد أن واشنطن تنوي الاحتفاظ بقواعد عسكرية ثابتة فى العراق على غرار تلك الموجودة فى اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا، ليس فقط لأنها بالفعل تحتفظ بقواعد عسكرية فى مياه الخليج العربي منذ أمد، وإنما أيضا لأنها تدرك جيداً أن الخسائر التي قد تتكبدها قواعدها العسكرية فى العراق لن تحتمل، وذلك على غرار ما تتعرض له قواتها فى أفغانستان. وباعتقادي ان الهدف الرئيسي من توقيع هذه الاتفاقية الأمنية هو ردع إيران معنوياً وعدم ترك الساحة خالية لها. الأكثر من ذلك أن الولاياتالمتحدة تدرك جيداً أنه من الصعوبة بمكان التخلي عن الثروة النفطية الهائلة فى العراق وتركها دون حماية حقيقية، وقد كان ذلك أحد الدوافع المحركة لغزو العراق عام 2003. كما أن هناك خلافاً أميركيا واضحاً داخل الكونجرس الأميركي حول توقيع هذه الاتفاقية، خاصة من جانب الحزب الديمقراطي الذي لا يريد وجوداً عسكرياً طويل الأمد فى العراق. أما مبررات الحكومة العراقية، أو على الأقل جبهة نوري المالكي، أن المعاهدة سوف توفر حماية للنظام الفيدرالي العراقي ، كما انها يفترض أن تحمي العراق من أي هجوم خارجي. وكم كان ملفتاً أنه لأول مرة منذ سقوط العراق تحت براثن الاحتلال أن يتفق العراقيون بمختلف اطيافهم السياسية والمذهبية على رفض الاتفاقية شكلاً ومضموناً، حيث أعلنت جميع الكتل السياسية سنية وشيعية، باستثناء حزب الدعوة الذي يقوده المالكي ، عن عدم رضاها عن الاتفاقية، بل ودعى الزعيم الشيعي مقتدى الصدر إلى تنظيم احتجاجات وتظاهرات قوية لمجابهة التوقيع على هذه الاتفاقية وحتى يتم إلغاءها. فى حين استهجن المرجع الشيعي على السيستاني الاتفاقية وطالب بعدم التوقيع عليها. باعتقادي أن المشكلة لا تكمن فى توقيع الاتفاقية من عدمها، فهذا أمر لن تقبل واشنطن التفريط فيه بأي ثمن خاصة بعد التكلفة الباهظة التي تكبدتها طيلة السنوات الخمس الماضية، بقدر ما تتعلق بقدرة الطرف العراقي على ضبط علاقته المستقبلية مع واشنطن.