قالت “ريبيكا” أرملة الزعيم السوداني الراحل “جون قرنق”: “إذا كان الأسد قد رحل فإنه ترك وراءه لبؤة قادرة على الثأر له”.. وبهذا التصريح الناري الذي أطلقته المرأة السمراء المتحدرة من قبائل الدنيكا شديدة البأس والشكيمة في جنوب السودان، فإنها تفجّر من جديد قضية مصرع جون قرنق رئيس ومؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان والنائب الأول لرئيس الجمهورية، وبدأ النقاش مجدداً بعد أن كان قد هدأ حول ظروف الحادث، وهل وقع قضاء وقدراً أم بفعل فاعل؟
ومع أن التحقيقات السودانية والأوغندية والدولية قد أكدت أن الحادث كان قدرياً، وأن الطائرة التي كان يستقلها قرنق وخمسة من مرافقيه علاوة على أفراد الطاقم وهم سبعة أشخاص، قد اصطدمت برؤوس الجبال في تلك المنطقة الوعرة في الجنوب، إلا أن هذا لم يقض على كل الشكوك، ومن ثم فإن تصريح ريبيكا، أرملة الزعيم وأقرب المقربين إليه والوزيرة الحالية في الجنوب، قد صبت الزيت على النار فاندلعت التساؤلات مرة أخرى خصوصاً مع الذكرى الثانية للحادث الذي وقع في الثلاثين من يوليو/تموز ،2005 أي منذ عامين.
لقد حدث ذلك عندما سافر قرنق إلى كمبالا عاصمة أوغندا وقبل سفره، كما روى لي الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مستشار الرئيس السوداني حاليا ووزير الخارجية وقتها، فإن الرئاسة عرضت على قرنق استخدام الطائرة الرئاسية، باعتباره نائبا أول للرئيس وإجراء الاتصالات الدبلوماسية لاتخاذ ترتيبات الزيارة التي يقوم بها، لكنه رفض شاكراً، وقال إنه سيستقل طائرة سيرسلها له الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، وهو صديق قديم منذ أن كانا زميلين في الدراسة، وبالفعل سافر قرنق، وبعد انتهاء زيارته اتجه بالطائرة نفسها وطاقمها الأوغندي إلى جنوب السودان مباشرة في الثلاثين من يوليو/تموز ،2005 وقبل هبوطه بسبع دقائق فقط وقع الحادث للطائرة التي انفجرت في الجو وسقطت بمن فيها مشتعلة، من دون أن يفلت أحد من الموت.
لقد أدى الحادث إلى انفجار في السودان، سواء في الجنوب أو في الشمال، عندما قام الجنوبيون في العاصمة الخرطوم بمظاهرات وأعمال شغب سقط خلالها قتلى وجرحى وتحولت بعض الأبنية والسيارات إلى رماد. وبإجراءات تنوعت بين الحزم وضبط النفس بدأ الهدوء يعود بما أعلنته ومارسته الحكومة من شفافية في التحقيقات، وبموقف “ريبيكا”، وهذا مهم جدا، حيث دعت إلى الهدوء وأكدت استمرار مسيرة قرنق، الذي قاد الثورة على مدى اثنين وعشرين عاما (1983 - 2005) من أجل رعاية المهمشين وترقية الحياة والتقدم وليس للدمار والخراب. وقالت إنها قد فوضت الأمر لله.
كان هذا الموقف المتسم بالحكمة منذ عامين، فلماذا عادت “ريبيكا” الآن لتقول: “الأسد قد رحل لكنه ترك “لبؤة” قادرة على الثأر والانتقام”؟
وهل معنى ذلك أن الأرملة الثائرة لم تعد تؤمن بأن الحادث قدري، إنما هو بفعل فاعل ونتيجة مؤامرة ضد زوجها؟ وإذا كان الأمر كذلك فمن الذي فعلها؟ من الذي تتهمه ريبيكا بقتل زوجها؟ هل هو النظام السوداني؟
إن الإجابة تؤكد النفي، ليس استناداً إلى التحقيقات التي جرت فقط، وإنما أيضاً لأن مصرع قرنق ليس في مصلحة النظام، فقد راهن هذا النظام على السلام وحققه. كما أن قرنق هو الشريك الأساسي في عملية السلام وهو الذي تفاوض مع وفد النظام برئاسة عثمان محمد طه نائب الرئيس ووقعا سويا اتفاق “نيفاشا” لإنهاء الحرب الأهلية التي دامت منذ مايو/ أيار ،1983 بل وكان القتال قبل ذلك مستمراً في حالة صراع لم تهدأ منذ نهاية أربعينات القرن العشرين.
إذن هل كان النظام الأوغندي وراء الحادث باعتباره مالك الطائرة والمسؤول عن الرحلة؟
إن الإجابة أيضا بالنفي، سواء بحكم العلاقة بين السودان وأوغندا، أو بين موسيفيني وقرنق وهما صديقان حميمان. وإضافة إلى ذلك، فإن النظام الأوغندي كان يعاني من جماعة تسمى “جماعة جيش الرب” تنمو وتزداد يوماً بعد يوم، وتستهدف الاستيلاء على الحكم مستخدمة ورافعة شعارات دينية وكانت قيادة هذه الجماعة قد انتقلت لتختبئ وتختفي في أحراش جنوب السودان. ولقد تعاونت حكومة السودان مع أوغندا في قتال ومطاردة هذه الجماعة، كما أن قرنق نفسه قد دفع بقواته في الحركة الشعبية لمطاردة هذه الجماعة.
إذن من فعلها؟ ولمن يمكن للسيدة “ريبيكا” أن توجه أصابع الاتهام، وأن تسدد أسلحتها للانتقام والثأر؟
إذا استبعدنا الحكومتين السودانية والأوغندية، ومعهما أيضا نستبعد الحركة الشعبية وأية منظمات جنوبية، فقد كان قرنق رمزاً لكل الجنوب وحقق السلام، فإننا لا نجد سوى جهتين اثنتين يمكن توجيه الاتهام إليهما وهما: “جيش الرب” أو “إسرائيل”.