فى إطار اللقاء الثالث لديوان «مركز رامتان الثقافى»، وبمقره بمتحف طه حسين بالهرم؛ نظم المركز، مساء الأربعاء الماضى، ندوة بعنوان «الثقافة بعد 25 يناير»، حضرها عدد كبير من النقاد والأدباء والفنانين والإعلاميين؛ فى مقدمتهم الكاتب الصحفى مجدى العفيفى رئيس تحرير جريدة «أخبار الأدب»، والدكتور رمسيس نجيب، والدكتور عصام العطاط، والصحفية التونسية سماح قصد الله، والشاعر ميسرة صلاح الدين. بدأت الندوة بكلمة من مدير المركز محمد نوار، قدم فيها المتحدثين، ووضح أبعاد الندوة، ثم تحدث د. أسامة أبو طالب، قائلا: «إنه كان من المفترض أن تحدث هزة فى الثقافة المصرية عقب قيام ثورة يناير، لكن يبدو أنه افتراض متفائل؛ فلا يستطيع الشعب أن يغير تغييرا عميقا ولا جذريا فى بضعة أشهر، ولا حتى فى بضع سنوات، مع وجود الركام الضخم الموروث من العهد البائد الذى ألغى ونفى ونسخ وشوَّه الثقافة المصرية». وأضاف يقول: «إن الإحساس بالشخصية القومية فى أى بلد، مقترن بصنع الحضارة وملازم ضرورى لها. ولا بد لأى أمة من مشروع قومى إذا ما افتقدته ضربت فى التيه كما يحدث حاليا. ولا جدال أن الدولة المصرية فى عهد السادات قد أخفقت فى صنع مشروعها، بل حولت المجتمع المصرى إلى مجتمع استهلاكى تصاهرت فيه السلطة مع رأس المال، وأسلمت المصريين للثلاثين سنة العجاف التى كفّ فيها المثقفون عن الفعل، رغم أنهم ورثوا من عهد عبد الناصر كيانات ثقافية مادية ومعنوية هائلة كانت هبة وعطية من الإحساس المتبلور بالشخصية المصرية التى أسس لها الرواد من جيل ما قبل يوليو 1952م، التى استمرت تمثل رافدا رئيسا وأساسيا للنهضة وللتنوير فى عهده حتى تعرضت للتداعى ثم الانهيار بهزيمة يوليو 1967 بعدما ارتطمت بمفارقة اقتران الدكتاتورية واستبدادها «الأبوى» مع المشروع «القومى المصرى/الوحدوى العربى» واجتماعهما «الافتعالى» فى آن واحد؛ كى يشكلا ثنائية غريبة من «الخوف والحلم معا».. ثنائية قلما تجتمع بكل تناقضاتها التى جسدها الإعجاب بالبطل الفرد مع خشيته والخوف منه والسقوط فى هوة أنه لا بديل سواه. هذه الفكرة/الوهم التى صنعها الطغيان «المُنْجِزُ» وروَّج لها حتى صارت أشبه بيقين شعبى أو خرافة جمعية متلبسة ثابتة؛ استغلها الطغيان «المجانى» من بعده فى توطيد حكم المستبدين. ثم حدثت القيامة الشعبية الأولى فى حرب الاستنزاف التى ردت إلى الروح المصرية شيئا كثيرا من ثقتها الغائبة بالنفس حتى «عودة الروح» مع انتصار أكتوبر 1973، ثم انتكاسها مرة ثانية فى مؤسسة السادات الانفتاحية والتأسيس للارتماء فى أحضان الغرب فى ظل تغييب كامل للمشروع القومى المصرى وازدراء تام للمثقفين الذين سماهم «الأفنديات» استخفافا بهم وهزؤا، انتهى إلى ما حدث لهم وله، ثم ما تتالى منذ بداية حكم حسنى مبارك من سقوط الثقافة والمثقفين التام فى المحاق المظلم لدولة مستبدة يجرى بالتدريج مشروع تفريغ عقولها وتفريغها من عقولها الذى بدأ تحويلهم المتعمد المدروس بعناية إلى موظفين فى الدولة يحلمون بالترقى فى خدمة نظامه والتكسب ماديا واجتماعيا منه، وبالطبع لم يستفد المثقفون الحقيقيون من ذلك المناخ الذى هيمن عليه متوسطو الموهبة ومحدودوها حتى أصيب الموهوبون الحقيقيون بالاكتئاب، فجنحوا إلى الاعتزال والعزلة الإرادية أو الاغتراب والغربة والنأى بعيدا، حتى عن الوطن، تاركين الثقافة تتحول من «مشروع كلى» قومى محدد الملامح والسمات والأهداف والمراحل الزمانية وفق خطط مدروسة، إلى ما نسميه «هوجة ثقافية وفكرية وفنية» يجسدها وعمل ارتجالى مضطرب من الممكن أن تتحقق فيه إنجازات متفرقة، لكن بأسلوب عشوائى دون خطة أو رؤية سوى العمل على تهميش أو إبداع المبدعين والمفكرين الحقيقيين لصالح «المماليك الجدد» الذين سيطروا على الساحة الثقافية الرسمية». وعن مستقبل الثقافة والفنون فى ظل دولة إسلامية مفترضة، أكد أبو طالب أنه «لا توجد اليوم بمصر دولة إسلامية بمعناها الجامع المانع المحدد، ولا ملامح منبئة بمشروع لها، بل مجرد إطار ارتجالى يضم تنويعات إسلامية مختلفة، بعضها يجنح إلى التشدد والارتكاس والردة الحضارية ومعاداة التجديد ورفض الاجتهاد، وهو ما يمكن تسميته «الإسلام الشكلى» الذى لا يمكن أن يعبر عن حقيقة الإسلام وجوهره، وهو ما تأباه طبيعة شعب مصر الذى لا يقبل التزمت، والذى طالما قابل الدعوات الدينية المتشددة بالاستهجان والسخرية، مثل دعوات هدم أبو الهول وتحطيم التماثيل، لكننا نؤكد أنه لا يمكن للمتشددين -إذا افترضنا وصولهم إلى الحكم جدلا واستئثارهم به- أن يفرضوا فكرهم ومنهجهم على شعب معتدل فى مزاجه النفسى والأخلاقى، وسطى التدين بطبيعته. سيرفضهم بالطريقة التى رفض بها الشيوعية التى اقترنت دعوتها بقدر كبير من التحلل الأخلاقى وعرف عنها ذلك واستقر فى الظن الشعبى ممثلا لتطرف ضدٍّ مقابل، ناهيك عن كونه تعلم كيف يثور وكيف يعترض، فلا يمكن قسره على قبول حالة التوتر الدائم التى نعيشها نتيجة صراع دينى متزمت ضد ليبرالى متشدد أو ليبرالى (متحلل)!. ومما يزيد التفاؤل فى هذا الصدد، خروج نفر كبير من شباب السلفيين من دائرة التشدد واتجاههم إلى الاعتدال. وذلك -وبصورة أوضح وتأكيد أشد- ما رأيناه فى ميدان التحرير فى الثمانية عشر يوما الطاهرة من عناق التسامح الرائع والتوافق الوطنى والإنسانى إسلاميا ومسيحيا وفكريا وعقائديا ومجتمعيا»!. وأضاف أبو طالب أن بين تيار السلفيين المتشدد والإخوان المسلمين المعتدلين ومعهم الأزهر، توترا فكريا وعقديا تاريخيا، كما أن الظهير السلفى للإخوان ظهير مؤقت، وإذا استقر الإخوان فى الحكم فستبدأ الخلافات بينهم فى الظهور؛ لأن أى حكم إسلامى معتدل لن يجازف بقبول تحريم ما أحله الله للبشر واستمتع به البشر أنفسهم. وسيدرك من يتولون الحكم من أى طرف كانوا -سلفيين أو إخوانا أو حتى شيوعيين أو علمانيين- أنهم لن يستطيعوا أن يغيروا من طبيعة الشعب المصرى المنتمية إلى الإسلام الوسطى المعتدل والمسيحية السمحاء، فيسجنوه بالتزمت أو يشوهوه بالانحلال»!. أما المؤلف المسرحى والناقد السينمائى عبد الغنى داوود، فقال إن مصر ظلت، منذ يوليو 1952م وحتى يناير 2011م، فى انتظار الثورة، وكان المبدعون يحلمون بالثورة فى أعمالهم، فيما كانت وظيفة «مثقفى الحظيرة» الترويج لشعارات الحاكم وتبرير سياساته فى مواجهة المعارضين، وظل المثقفون يخون بعضهم بعضا، ويلهون الناس عن الفساد والظلم باللعب بمشاعرهم وغرائزهم. واليوم، بعد ثورة يناير، هناك من قفز على الثورة، وتصدى المثقفون الخونة ليؤدوا بدورهم المعتاد، فيما يعانى الوسط الثقافى «فوضى غير خلاقة»، وتفرقا وتشتتا، وبات المثقفون الجادون يحتاجون إلى التجمع واستعادة وعيهم. ورغم ذلك، هناك أمل فى أن تظهر أجيال من المثقفين الواعين القادرين على أن يكونوا قوة ناعمة تقود البلاد إلى بر الأمان، خاصة أن مصر كبيرة على أى فصيل أو تيار وحده. كما بدأت «هالة فهمى» الأديبة والصحفية بجريدة «المساء» مداخلتها بتأكيد أهمية قضية «الثقافة»، رغم أنها تبدو للبعض فى الظروف السياسية الراهنة نوعا من «الرفاهية»، واستطردت مؤكدة أن ما يحدث اليوم فى الواقع الثقافى المصرى، إنما هو نتيجة للتجريف الثقافى الذى حدث للمجتمع المصرى، وأشارت إلى حال مؤسسات وزارة الثقافة الحالية، وما يخيم عليها من ركود ويجثم على كاهلها ويكبلها من فساد لا يريد له إصلاحا ضمن عملية تجريف مقصود ومتعمد، نُفِّذ بدقة وفصل المثقف المصرى عن المواطن العادى فى إطار خطة لتجهيل العرب عموما. ورغم ذلك، قالت إنها تشعر بالتفاؤل والأمل حين تختلط بالشباب الصغير الذى يتمتع أكثره بالوعى والثقافة بصورة فاجأتها وأدهشتها، كما استطردت تطرح السؤال الملح الآن وهو: «ماذا تغير فى الساحة الثقافية بعد ثورة يناير؟»، وأجابت: «لم يتغير شىء؛ فالنظام هو النظام السابق نفسه، وربما يكون أسوأ، والمثقف لا يزال فى حظيرة النظام، والمثقفون أوصالهم متقطعة ولا رابط بينهم، ووزارة الثقافة تحتاج إلى تطهير، ولا أمل مع وجود الوزير الحالى الذى حين أراد أن يطهر مؤسسات الوزارة تحت ضغط من الإعلام، شكل لجانا من رؤساء الهيئات نفسها، ليصلحوا واقعا هم من صنعوه»!!. وعن الحل الذى تراه، أكدت أن النهضة الثقافية لن تنتظر إذنا من المؤسسات الرسمية؛ فعلى كل مثقف أن يسعى فى دائرته إلى إحداث حراك ثقافى، وربما يكون الأمل فى الأقاليم التى تشهد ثورات ثقافية حقيقية غيرت الوجوه الثقافية والجماهير والموضوعات التى كانت سائدة قبل الثورة. وبدوره، أكد الفنان التشكيلى الدكتور أشرف العيسوى، أن أزمة الثقافة لها بعدان: بعد سياسى، وبعد تعليمى، وأن هناك مخططا وُضع قبل ثورة يناير لإجهاض الثقافة والفكر والتعليم فى مصر، خدمةً للنظام المستبد الذى كان يتعامل مع مصر على أنها عزبة وغنيمة خاصة؛ ما منع الثقافة والفن من أداء دورهما فى خدمة المجتمع. ورأى العيسوى أن حل أزمة الثقافة المصرية هو القضاء على الاستبداد، وفتح آفاق الحرية، لتنتهى مخاوف السلطة من الثقافة والمثقفين؛ فالنظم المستبدة من طبيعتها أن ترى فى الثقافة والمثقفين المستقلين خطرا دائما عليها!. كما تناول الفنان التشكيلى الدكتور ميلاد إبراهيم، فى كلمته الموجزة، دور الفن فى المجتمع ودور الفنان فى مصر بعد الثورة وواجبه نحوها. وفى النهاية، اختتم الأستاذ محمد نوار مدير المركز الندوة التى استمرت أكثر من المعتاد، وحفلت بحضور مشهود بكلمة منه وبغناء وعزف على العود للفنان على إسماعيل الذى أسعد الحضور بفقرات من فنٍّ رفيع!. الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة