لم يعد أكثر الباحثين تشاؤما فى إسرائيل، ينتظر أن يأتى هلاك إسرائيل وفناؤها استنادا إلى حرب إقليمية تقوم مع الدول العربية والإسلامية، لكن ما يؤمن به و يعتقده كثير من الباحثين داخل الكيان الصهيونى، هو أن هلاكها ربما سوف يكون أكثر حتميا من داخلها؛ من انهيارها على نفسها وتفكك بنيانها، رغم المحاولات المستمرة من الغرب لدعمها بكل شىء؛ حتى يضمنوا لها تفوقا نوعيا على محيطها العربى؛ فهل آتت سياسات الدعم المطلق للكيانى الصهيونى أكلها؟ أم أن عوامل انهيارها الداخلية أكبر من أى دعم؟.. هذا ما نحاول أن نجيب عليه هنا من خلال هذه الدراسة التى اعتمدت فى التدليل على فرضية هلاك إسرائيل من داخلها على مصادر فى غالبها الأعم من داخل الكيان نفسه، تطبيقا لقاعدة «وشهد شاهد من أهلها». ديموجرافيًّا.. «دولة تل أبيب تهديد لإسرائيل» هذا المعنى كشفته الدراسة التى أنجزها الجغرافى البروفسور أرنون سوفير من جامعة حيفا، تحت عنوان «دولة تل أبيب تهديد لإسرائيل»؛ من أن إسرائيل ستواجه بعد نحو 15 عاما مخاطر انهيار داخلية تهددها أكثر من القنبلة الإيرانية والجيوش العربية، منوها بفقدانها السيطرة على أطرافها فى ظل اختزال ذاتها فى ما تسمى «دولة تل أبيب». وأشارت الدراسة إلى الظاهرة الآخذة فى الاتساع المتمثلة فى ازدياد حجم المدن الكبرى وتعاظمها ديمجرافيا واقتصاديا على حساب الأطراف، من جراء ازدياد الهجرة إليها وتركيز الموارد العامة فيها. ويشير سوفير إلى الوضع الحالى فى إسرائيل وخطورته؛ لكون سكان المركز (تل أبيب ومحيطها) من اليهود، فيما يتركز فلسطينيو الداخل فى أطرافها. ويوضح أن إسرائيل تتقلص يوما بعد يوم وتنحصر فى منطقة تل أبيب؛ حيث تتركز الموارد الجوهرية المختلفة ويتزايد عدد اليهود فيها، فيما يستمر ضعف «الأطراف اليهودية» نتيجة التمييز فى الخدمات والفرص، والاحتكاك المتواصل مع فلسطينيى 48. ويستعرض الباحث، استئثار مركز البلاد الذى يسميه «دولة تل أبيب» بالموارد والقدرات المرتبطة بالمال والعمل والتربية والصحافة والثقافة، مقابل ضعف الضواحى. ويضيف: «وتتسع الهوة فى مستوى المعيشة بينهما باستمرار؛ إذ يتمتع سكان تل أبيب بثقافة كونية غنية بجودة حياة عالية، وينغمسون بملذاتها، وسط لا مبالاة بما يجرى فى الأطراف»؛ ما يجعل مع الوقت الفلسطينيين أصحاب الغلبة فى الأطراف، فى مقابل ضيق تل أبيب بالسكان؛ ما يهددها بالانفجار وسط محيط فلسطينى يحيط بها، يعقبه محيط عربى؛ ما يجعلها دولة ضعيفة رخوة سهلة التفتت. اجتماعيًّا.. الكيبوتس نموذجًا تعد مؤسسة «الكيبوتس» هى العمود الفقرى للتجمع الصهيونى، ومنها خرج معظم النخب السياسية الحاكمة فى تل أبيب حتى عام 1977م، لكنه فى الوقت الحالى يتعرض لأزمات طاحنة تعصف به؛ فقد نشرت جريدة «يديعوت أحرونوت» (2 يناير 2000) ما يلى: «أعلنت، أمس، هيئة مكافحة المخدرات أن تعاطى المخدرات الخفيفة فى مزارع الكيبوتس قد تضاعف فى خمس سنوات؛ إذ تعاطى 23.5% من أبناء الكيبوتس ممن تراوحت أعمارهم بين 18 و30 سنة، مخدرات خفيفة فى عام 1998، مقابل 11.4% تعاطوا الحشيش والماريجوانا فى عامى 1992-1993. وكان البحث قد أجرى فى 22 «كيبوتسًا»، وشمل 662 فردًا بناء على طلب من هيئة مكافحة المخدرات. بل إن تعاطى المخدرات والخمور لم يعد مقتصرا على هذه المؤسسة العسكرية الضخمة فى إسرائيل، بل امتد ليطال طبقات كان يُظَن أنها بعيدة عن هذه السلوكيات؛ فقد نشرت صحيفة «معاريف»، 5 يونيو 2000، أن استطلاعًا خاصًّا أجرته وزارة العمل والرفاهية الاجتماعية الإسرائيلية لحسابها، أظهر أن 37% من تلاميذ الصفف العاشر فى المدارس الإسرائيلية معتادون على تناول الخمر، وأن 8% من التلاميذ المعتادين على «الشرب» أبلغوا أنهم يستهلكون مرارًا فى المساء الواحد ست كئوس من الخمر. من جهة أخرى، يتضح من معطيات صادرة عن «مجلس سلامة الطفل فى إسرائيل» أن ارتفاعًا بنسبة 30% قد سُجِّل فى عام 1999 على شبان إسرائيليين قاصرين وجهت إليهم تهمة الاتجار بالمخدرات؛ إذ قُدِّم فى عام 1998 ما مجموعه 417 لائحة اتهام ضد شبان ضُبطوا يمارسون تجارة المخدرات وحيازتها لغير أغراض الاستهلاك الذاتى. وقد ارتفع عدد لوائح الاتهام المماثلة الموجهة فى عام 1999 إلى 556 لائحة اتهام. أما عن ازدياد معدلات الاغتصاب فى إسرائيل، فقد ذكرت صحيفة «معاريف»، فى 23/5/2012م، نقلا عن ميخال روزين رئيسة اتحاد مراكز المساعدة للنساء المُعتدَى عليهن؛ أنهم يتلقون سنويا أكثر من أربعين ألف طلب مساعدة سنويا، فى حين أن آلاف النساء لا يتصلن؛ نظرا إلى المعاناة النفسية التى يعانين منها، فى حين لا تُقدَّم المساعدة الطبية النفسية إلى أكثر من 120 حالة فقط لا غير. تآكل الحياة العائلية: ارتفاع معدلات الطلاق والإجهاض تتآكل الحياة الاجتماعية فى المجتمع الصهيونى بنسبة كبيرة؛ فقد ذكرت جريدة «معاريف»، 25 يناير 2000، أن من بين كل 3 حالات زواج يكون مصير حالة منها الطلاق. وقد طرأت زيادة بنسبة 15% فى عدد حالات الطلاق بإسرائيل منذ عام 1990، بل إنه فى عام 2008م نشرت إحصائية جديدة صدرت عن الهيئة القضائية الحاخامية للمحاكم الدينية اليهودية فى إسرائيل، أكدت أن متوسط حالات الطلاق يوميا فى إسرائيل بلغ 28 حالة طلاق، وأن إجمالى عدد حالات الطلاق عام 2008 بلغ 10 آلاف و225، بزيادة قدرها 4,7% بالمقارنة بعام 2007. وقد ذكر ملحق «هاآرتس»، 9 مايو 2000، أن عدد السيدات اللاتى أنجبن خارج إطار الزواج، ارتفع من واحد لكل مائة حالة إنجاب فى السبعينيات إلى 1.8 لكل مائة حالة إنجاب فى عام 1994. وفى توقيت متزامن، أشارت جريدة «يديعوت أحرونوت» إلى أنه قد طرأت زيادة بنسبة 50% فى عدد حالات الاعتداء الجنسى على الأطفال داخل الأسرة، كما طرأت زيادة بنسبة 25% فى عدد حالات الجرائم الجنسية التى يتعرض لها الصغار خارج نطاق الأسرة فى عام 1999، كما كشف تقرير لوزارة الصحة الإسرائيلية عن ارتفاع عدد حالات الإجهاض فى إسرائيل إلى 20 ألف حالة خلال عام 2008م؛ ما دفع يونا متسجر رئيس حاخامى طائفة أشكنازى «يهود أوروبا» ونظيره للسفرديم «يهود الشرق» شلومو عمار، فى خطاب دينى إلى القول إن ارتفاع معدلات الإجهاض هو سبب تأخر مجىء المسيح المخلص، وأدانا فى خطابهما ما وصفاه بأنه «وباء حقيقى» يقضى على حياة عشرات الآلاف من اليهود، مشيرَيْن إلى 50 ألف حالة إجهاض تجرى فى إسرائيل سنويا؛ 20 ألفا منها تجرى بأسلوب غير قانونى فى 2009م. معدلات عالية من العنف والتآكل الأسرى عادة ما يزيد معدلات العنف بين الأطفال والشباب. وبالفعل ذكرت جريدة «يديعوت أحرونوت»، 24 مايو 1999، أن الإحصاءات تشير إلى معدلات عالية من العنف فى كل المجالات وجميع المراحل السنية وكل شرائح السكان. وكشف كثير من التلاميذ عن تعرضهم للعنف اللفظى والبدنى. ويعتبر العنف البدنى هو الأكثر ذيوعًا بين تلاميذ المدارس الابتدائية، فيما يقل معدله مع اقترابهم سن البلوغ. واكتشف الباحثون أن الاعتداءات البدنية البسيطة هى الأكثر انتشارًا، وإن كان معدل السلوك المتطرف ليس هينًا. وأضافت الصحيفة أن أكثر من 50% من تلاميذ الصفوف من السادس إلى العاشر كانوا مشتركين فى العنف بصورة ما، وأكثر من 60% من التلاميذ اشتركوا فى أعمال بلطجة تجاه زملاء لهم، أو كانوا ضحايا لأعمال عنف، واشترك حوالى 15% - 20% فى مستويات أكثر خطورة من العنف، وأصيب نحو 14% خلال مشاجرات وكانوا فى حاجة إلى علاج طبى. وفى محاولة تفسير ظاهرة العنف، نُشر مقال فى جريدة «هاتسوفيه»، 7 أبريل 2000، بعنوان «فناء مدرسة أم ساحة قتال؟» يبين أن العنف بين الشباب لم يأتِ من فراغ، بل إنه تغذى من العنف ذى المستوى المرتفع فى مجتمع البالغين، وخاصة من اللا مبالاة تجاه مظاهر العنف فى السلوك الإسرائيلى. فى عام 2005، أجريت دراسة بقيادة البروفسور بنفنستى، تؤيد هذا الرأى وتؤكد أن فى نظام التعليم الصهيونى مستويات عالية من العنف، خاصة اللفظى (السب على سبيل المثال)، والعنف البدنى المعتدل (التهديدات والدفع واللكم). وينعكس الواقع العنيف للمجتمع مباشرة فى نظام التعليم، فأصبح واحدة من أخطر المشكلات فى النظام؛ إذ كشف المجلس الوطنى للطفل البيانات التالية لعام 2008: فى عام 2007، فُتحت ملفات لدى الشرطة لنحو 32 ألفًا و432 من القاصرين، منها 62.4% فى القضايا الجنائية. وأبرز التقرير أن غالبية جرائم العنف هى الجرائم التى ترتكب فى نظام التعليم. الشذوذ الجنسى أصبح مقبولاً ثم نأتى أخيرًا إلى الشذوذ الجنسى. ورغم أن اليهودية الحاخامية التقليدية تمنعه وتحرمه، فإن معظم الطوائف الدينية اليهودية المعاصرة، مثل اليهودية الإصلاحية والمحافظة، قد تقبَّلته وقنَّنت وضعه الدينى، بل أنشأت مدارس دينية خاصة لتخريج الحاخامات الشواذ جنسيًّا. وقد أبرم حاخام إصلاحى عقد زواج بين رجلين أمام حائط المبكى عام 1998، وكان هذا يُعَد انتصارًا لحرية الرأى!. والشذوذ الجنسى أصبح مقبولاً فى المجتمع الإسرائيلى؛ فعلى سبيل المثال، بينيك الذى يلبس دبلة الزواج الآن، سيتزوج صديقه العام المقبل. يقول بينيك، كما جاء فى ملحق صحيفة هاآرتس 14 إبريل 2000): «وضع الشواذ جنسيًّا فى إسرائيل الآن أفضل من الناحيتين القانونية والتشريعية، وهو من أفضل الأوضاع على مستوى العالم. ولعل تقبل المجتمع الإسرائيلى الشذوذ الجنسى يظهر فى أن عدد السحاقيات فى إسرائيل اللاتى أنجبن أطفالاً -من خلال عمليات معملية مختلفة- هو الأعلى فى العالم» (هاآرتس، 9 مايو 2000). ولعل هذا يعود إلى محاولة الجيب الاستيطانى تجاوز أزمته الديموغرافية من الانحسار الكبير فى أعداد المواليد داخل الكيان الصهيونى. بهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية الفصل الأول من تجليات الانهيار داخل المجتمع الإسرائيلى. ولنا بإذن الله تكملة نتناول فيها الأوضاع الاقتصادية والدينية وغيرها من مؤشرات الانهيار الداخلى لدولة الكيان الصهيونى.