أذكر قبل التزامي وكيف كانت قناعاتي حول قضايا معينة هي نسخة شبه كربونية من قناعات زملاء الصف الدراسي، وأذكر أننا كنا نشتبك فكريا مع زميل الصف الدراسي الشاعر الفلسطيني "تميم البرغوتي" لكونه يمتلك قناعات مختلفة. وعندما وقفت لمراجعة نفسي اكتشفت أنني كنت أصاغ فكريا من خلال وسائل الإعلام الحكومية في ذلك الوقت تماما مثل أغلب زملاء الصف الدراسي. كان أول ما لاحظت هذا الأمر بنفسي عندما كنت أتابع برنامج تلفزيوني يدعى "أبيض وأسود"، كان يقوم بإعادة المسلسلات القديمة. وعندها لاحظت أن الرسائل الفكرية المتضمنة في تلك المسلسلات في فترة الستينيات متفقة تماما مع رؤية النظام الحاكم في هذا الوقت، وهي ما كانت تختلف إلى حد كبير مع ما يحمله إعلام التسعينيات من قيم. ساعتها قررت ألا يعبث أحد برأسي وأن أحاول أعزل نفسي عن رسائل الإعلام الخفية. وأذكر في هذا المجال أيضا أن الشعار القديم لقناة النيل للأخبار كان "نحن لا ننقل الأخبار، بل نصنعها"، والفارق كبير جدا بين نقل الخبر وصناعة الخبر. وبعد دخول عصر الفضائيات، لم يعد الإعلام يقتصر على الإعلام الرسمي للدولة، فقد انضمت قنوات إعلامية أخرى، ولكن لا يمكنك أبدا أن دور التمويل في تحديد أجندة الإعلام وأولوياته. أذكر أنه ذات مرة دار حديث بيني و بين مسلم أمريكي، كان قد أعد رسالة ماجيستير في الإعلام عن تحيز الإعلام الأمريكي مع اليهود ضد القضايا الإسلامية. وعندما بدأت في الحوار معه بطريقتي الساذجة عن أمور كثيرا ما نتداولها عن تحيز الإعلام.أخبرني أن الأمور لابد لها من قياس علمي، فهو يقيم تحيز الإعلام مثلا بدراسة تقيس أين يتم وضع الخبر المساند لدولة الكيان الصهيوني (الصفحة الأولى مثلا)، ونوع الخط المستخدم (بنط عريض)، و غير ذلك من القياسات. ويقارن ذلك بدراسة مقارنة للأخبار المتعلقة بفلسطين مثلا (فالخبر الذي يتناول ظلما وقع لفلسطيني يوضع في صفحة داخلية وبنط صغير) وغير ذلك من المقارنات الموضوعية، ثم يقدم إحصائيات دقيقة تتناول عدة صحف لتصل إلى نتيجة موضوعية لقياس التحيز الإعلامي. والمعنى هنا خطير، أن برمجتنا الشخصية تتم كثيرا بدون أن ندري، ونقوم بالدفاع عن قضايا وقناعات ظنا منا أنها قناعاتنا الشخصية في حين أنها القناعات التي أرادت بنا القنوات الإعلامية أن نحملها. أو إن شئت فقل"القناعات التي أراد بنا ممول القناة الإعلامية أن نحملها". نعم يا عزيزي، فعندما يتحول الإنسان إلى متلق تستطيع القنوات الإعلامية المختلفة برمجته، سواء كانت تلك قنوات تلفزيونية أو إذاعية أو مواد مقروءة من صحف ومجلات، ولذلك تشعر عندما تجلس مع بعض الناس أنهم يحملون نفس القناعات و الاسطوانات وأنهم أصبحوا أشبه ببث بقناة "أون تي في" أو "قناة التحرير" أو غيرها من القنوات التلفزيونية. وقناعات الجماهير تبني عادة من خلال ما يسمى "الحس العام" (Common sense)، والحس العام يتم تشكيله إلى حد كبير من خلال أجهزة الإعلام والموروث الثقافي المحيط، والحس العام (Common sense)يختلف تماما عن سداد الرأي (good sense) والذي ينبني عن دراسة و تحليل سليم، بل واشتباك نقدي واع مع القضايا الراهنة. وقليل جدا هم من يصل بهم النضج إلى هذه الدرجة. ولذلك تضع الدول قيودا وشروطا منظمة للإعلام حتى تتأكد ممن يمتلك توجيه الجماهير. هل تعلم أن في أمريكا بلد الحرية تحظر هيئة الاتصالات الفيدرالية على الأجانب امتلاك أكثر من 25% من أسهم أية محطة تلفزيونية أو إذاعية، ولا يحق إلا للأمريكيين التحكم بصناعة تؤثر في الرأي العام في أمريكا، ولذلك نال روبرت مردوخ الجنسية الأمريكية قبل أن يشتري محطات التلفزيون المستقلة التي تملكها مجموعة "مترو ميديا" عام 1985. بل، ولسنغافورة تجربة أخرى، حيث قامت بتصميم نظام يمنع بارونات الصحافة الأثرياء من تحديد ما يجب على الناخبين قراءته يوما بعد يوم. فأصدرت سنغافورة عام 1977قوانين تمنع أي شخص أو وكيله من امتلاك حصة تزيد عن 3% من الأسهم العادية لأي صحيفة، وبذلك أصبحت وسائل الإعلام ملكا للشعب. بل وأكثر من ذلك كانت المجلات الأجنبية التي تنشر مقالا عن سنغافورة و ترفض نشر رد الحكومة يقومون بتغيير التصريح الممنوح لها من التوزيع، فمثلا نشرت مجلة تايم الأمريكية الشهيرة تقريرا ثم رفضت نشر رد الحكومة، فقامت الحكومة بتحديد عدد مبيعاتها من 18000 إلى 9 آلاف، ومن ثم إلى ألفين، بعد ذلك نشرت التايم رد الحكومة كاملا غير منقوصا، فرفعوا القيود على توزيعها بعد ثمانية أشهر. ثم كانوا يأخذون منحى آخر بإجراء نوع من المناظرات مع بعض من ينشر تقاريرا إعلامية خاطئة كنوع من رد الاعتبار. ما أريد أن أقوله أنه لابد من وضع معايير لامتلاك القنوات و الصحف، ومعايير لقياس مستوى الأداء حتى لا يصبح توجيه الجمهور بأيدي فئة محدودة تحشد الرأي العام في جانب معين، إلى جانب وضع معايير مهنية لضمان أداء إعلامي راقي. إن لم يتم هذا الأمر الخاص بتنقية الإعلام، فتستمر رحلة تغييب الشعوب للأسف الشديد. نريد أفكارا وأفعالا على الأرض من أجل الارتقاء بالوعي الشعبي العام الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة