صناعة الثقافة صناعة خفيفة جدًا تطيع قواعد الإنتاج ذاتها مثل أي صناعة تنتج السلع، فليست هي التي تبدع الأعمال الثقافية المفردة بل هي التي تطلبها ثم تنقلها من المبدعين الأفراد إلي التوزيع السلعي بالجملة لجمهور واسع، وتعمل علي فرض أنواع مطلوبة من الاستجابات للأحداث وقوالب السلوك ومعايير القيم الجاهزة، كما تتخصص في التلقين السيكولوجي والفكري، ونطاقها هو نطاق أجهزة الاتصال الجماهيرية "الميديا" من تليفزيون وسينما وصحف ومجلات ودور نشر للكتب ومعارض للفنون التشكيلية، والناس ينفقون فيها وقتًا أطول من وقت العمل، وهي تعتمد علي ميزانية هائلة، فقد أنفق الأمريكيون في عام 1983 ثمانمائة مليار دولار كل شهر علي منتجات الميديا (صحف، مجلات، كتب، تسجيلات موسيقي، أفلام، أعمال تليفزيونية، خدمات إنترنت) كما جاء في كتاب "الاحتكار الجديد للميديا" لبن باجديكيان، وهناك 263 مليار دولار تنفق كل شهر علي الإعلانات وهي أداة مهمة في تمويل هذه الصناعة.. كما أنها صناعة تعتمد علي جيش من العاملين تقدم إعلامًا منتقي ملونًا مطبوخًا، وعروضًا تسترعي النظر، وتأسر الحواس أفكار تدور حول طريقة معينة للحياة وحول أفضل المسارات الممكنة لعالم الربح تأتي في صيغة إيماءات إلي نصائح ومدائح قد تكون خردة مزخرفة من المأثورات المحفوظة، إنها تستعرض نجوما وأصنامًا معبودة في مجالات متعددة منها السينما والسياسة والوعظ الديني يحيا الناس ويحاولون رسم حياتهم علي هدي منهم، فهذه الصناعة آلة لحشو الرءوس بالصيغ الجاهزة التي من المفروض أن تفكر بالنيابة عن الفرد، فهي كليشيهات تسيطر علي العقل وتوجهه، وأختام مطاطية قليلة العدد متأهبة لأخذ القرارات التي تحسم المشاكل علي الرغم من أنها لا تزيد علي كونها تحيزات تتسم بالتعصب وتتعاطف مع الطلاء البراق لا لجوهر المسائل المطروحة، ونجد أمامنا جماعية فكرية كاذبة تعلن عن نفسها باعتبارها الآراء المجمع عليها من جانب رجال العلم ومشاهير رجال الدين ونجوم الفن، في آلية إيحاء لغسيل المخ بالدعاية وفطم المتلقن عن التفكير المستقل، ويتم ذلك بواسطة التكرار المستمر القطعي اليقيني لتحيزات اجتماعية وسياسية تشبه التعازيم، فصناعة الثقافة هي الإنتاج بالجملة لمثل الانصياع والقبول والتكيف ويتضح ذلك في مسلسلات الوعي السعيد التي تتبع طرقًا مرسومة للتفكير والإحساس والشعور والسلوك وتقترح تشكيلة فاخرة من طرق التسلق، ولدي صناعة الثقافة كوادر من مصممي الموضات الفكرية وطهاة المطبخ السياسي المقر ويوجهون أي نقد أو احتجاج إلي قنوات مأمونة ويؤكدون أن الأغلبية تختار قيودها من المسلمات الرائجة بكل حرية وترفل فيها، فهم يعملون جاهدين في صناعة الثقافة علي برمجة سلوك الجمهور ومواقفه ونطاق عواطفه بأكملها كما يعملون علي أن يقتصر النقد علي النقد الفاتر السقيم الذي يسمونه النقد البناء أو المعارضة السليمة، إن صناعة الثقافة دون قصد تنزلق بخطي الناس نحو الانهماك في التسلية والتخفف من المسئولية، إنها تجعل المبرمجين يتجادلون في حماس حول هل يتزوج المطرب من الممثلة وهل سيكشف البوليس لغز الجريمة وحول من سيكون بطل الدوري، ولا شيء يشغلهم حول قضايا حقيقية تتعلق بمصالحهم الأساسية لا المؤقتة والموسمية وحدها. البحث عن السعادة ومن الواضح أن الايديولوجية الاستهلاكية التي تنشرها صناعة الثقافة تقوم علي أن يعيش الفرد لنفسه بالكامل باحثًا عن السعادة ولكنها لا توجه الجمهور إلي ما ينبغي أن يعمله لتحقيق هذه السعادة، وتكتفي بنشر وصفة أقصي استمتاع بأقل جهد، وتتطلب اللذات بطبيعة الحال امتيازات اجتماعية ولا يمكن أن تكون متاحة للجميع بالدرجة نفسها، فينقلب التصور علي أعقابه ويصبح الزهد الاضطراري شكلا روحانيا أسمي من المتعة، ورغم توسع صناعة الثقافة فإن معظم الأفراد يعانون من الاغتراب الثقافي في عصر حقق فيه العلم والفن ثروة ثقافية هائلة، فهذه الصناعة لا تقدم الوسائل ولا التعود الملائم لتمثل تلك الثروة، بل علي العكس تقدم له بدلا من ذلك أنواعًا من التسلية ومصنعًا للأحلام ومعلبات للأوهام وترجمة للثقافة إلي لغة الإعلانات الرائجة، لقد حولت هذه الصناعة لغة الإعلانات إلي ما يشبه الفولكلور الإنساني في عصر الصناعة والمصارف، فولكلور يقوم بتجميل العالم تجميلاً كاذبًا وفرض أذواق ورغبات وآمال قياسية جاهزة لنشر إحساس بالطمأنينة وخلق عالم كاذب، فصناعة الثقافة تخاطب اللاشعور بأخيلة شهوانية وتعبد القوة والسيطرة، فالترويح فيها مؤقلم علي الزي الشائع وخلق هذا الزي، أحصل علي أكبر قدر من المتعة بأقل سعر واختزل المتطلبات الأخلاقية إلي قبول غير نقدي لقواعد رأي عام مذعن للنخبة المسيطرة. الاحتكار الجديد للميديا في 1983 كان عدد شركات الميديا الكبيرة 50 في الولاياتالمتحدة وفي 2003 صارت خمس مؤسسات عولمية فقط تمتلك معظم الصحف والمجلات ودور نشر الكتب وستديوهات الأفلام ومحطات الراديو والتليفزيون، وكل وسيلة اتصال تمتلكها سواء كانت مجلات أو محطات إذاعة تغطي الولاياتالمتحدة بأكملها كما يفضل الملاك البرامج التي يمكن استعمالها في كل مكان من العالم، وهذه المؤسسات أو اتحاد الشركات الخمس هي: 1- تايم وارنر التي صارت منذ 2003 أكبر جهاز إعلامي في العالم ، 2- شركة والت ديزني (الفأر الذي يزأر)، 3- شركة ميردوخ للأخبار ومركزها في أستراليا، 4- فياكوم، 5- برتلسمان ومقرها ألمانيا، واليوم لا تهتم أي منها بالسيطرة علي وسيلة إعلام واحدة فقط بل بالسيطرة علي كل وسائل الإعلام من الصحف إلي ستديوهات الأفلام وهذا يعطي كل واحدة من المؤسسات الخمس ولقادتها قوي سيطرة علي الأذهان أكبر من أي قوة مارسها حكام مستبدون أو ديكتاتوريات في التاريخ، فلم يمتلك أحد في الماضي مثل هذه السيطرة التي تكفل التحكم في كل ما يراه ويسمعه "الرعايا"، إن قادة هذه المؤسسات ليسوا مثل هتلر أو موسوليني ولكن امبراطورياتهم تسيطر علي كل وسيلة يمكن للجمهور أن يعرف بواسطتها شيئًا عن العالم، وتعمل هذه المؤسسات معًا لتوسيع سلطتهم التي صارت عظيمة في تشكيل الحياة الأمريكية المعاصرة، إنهم معا يشكلون "كارتل" فلكل واحدة منها استقلال انتاجي تجاري ومشاركة علي الأسعار وبراءات الاختراع وحقوق الملكية، وليس من الضروري لشركة مفردة منها أن تمتلك كل شيء لكي تكون لها قوة احتكارية أو أن تتفادي أنواعًا معينة من المنافسة، إنها تشكل احتكار أقلية، تحكم قلة، كل واحد منها وهو يعمل بمفرده يستطيع تغيير شروط السوق، ولكنهم في عملهم معا يتكلمون بصوت واحد رغم وجود منافسة أحيانًا تختلف عن منافسة قطع الرقاب وتضع في حسابها المصلحة المشتركة بينها جميعًا مع وجود تعويذة السوق الحرة في الدعاية، غير أن الشركات تشترك في الكثير من الأهداف والوسائل ولها أعضاء مشتركون في مجالس الإدارات، وفي 2003 كان هناك لديزني وفياكوم وتايم وارنر 45 مديرًا متشابكون في مجالس الإدارات، كما أن هناك لدي الخمسة 141 مشروعا مختلطًا فهم شركاء في كل ما يتعلق بالبيزنس، إنهم لا ينتجون بضائع بل يصنعون عالم الثقافة بملامحه الاجتماعية والسياسية أي ينتجون معارف وقيمًا، ولهم نفوذ في حياة البيت والمدرسة ومكان العمل لكل مواطن، إن المواطن يحيا في عالمين، عالم الاحتكاك المباشر في الحياة اليومية والعالم الذي تخلقه وسائل الاتصال من جرائد ومجلات وكتب وتليفزيون وأفلام. ولكن صناعة الثقافة ليست من القطاعات الأقوي في الصناعة ولا يمكن مقارنتها بصناعة السلاح أو السيارات أو البترول أو الكيماويات أو الكهرباء، فهي ضعيفة وتابعة، إنها تنتج نوعًا خاصًا من المنتجات لا يزال مرتبطًا بالليبرالية ومثقفي اليهود، وهناك خضوع شركات الإذاعة لصناعة الكهرباء وصناعة السينما للبنوك. غلبة الكم وتسود صناعة الثقافة غلبة الكم وفقًا لنوع المستهلكين الذين يوجه إليهم المنتج، ففي الفيلم أهم شيء في التسويق عدد النجوم ومستواهم والاستخدام المبتكر للتكنولوجيا وإدخال آخر الكليشيهات الرائجة في المجتمع، وما من علاقة في صناعة الثقافة بين الميزانيات وما في المنتج من قيم أو معني، إن من المهم في التسويق الجماهيري ترابط الكلمة والصورة والموسيقي في السينما والتليفزيون، فهذا الذي يمكن من أن يعكس العمل الفني سطح الواقع الاجتماعي بجدارة وتكاد العملية التقنية تصبح المضمون المتميز للعمل، وتجعل تمضية وقت فراغ الفرد مجبرًا علي قبول ما يقدمه له صنَّاع الثقافة بكل ضروراتهم التجارية والتقنية،ورغم الولع بالجديد فإن مطربي الأغاني الخبطات والنجوم المحبوبين وموضوعات المسلسلات تعاود الرجوع دائمًا متكررة ولها أنماط لا تتغير آلياً بل يصير المضمون المحدد للترفيه مستمدا منها، وفي الظاهر فقط تتم التغيرات، فكل التفاصيل قابلة للتبادل، ففي قصة الفيلم يتكرر السقوط المؤقت للبطل من العلو وهو سقوط لابد أن يقبله بروح رياضية ثم يتغلب عليه في النهاية، وهناك معاملة خشنة تحصل عليها النجمة المحبوبة من النجم وتحدي النجم للوارثة المدللة وغير ذلك من الكليشيهات الجاهزة التي توضع في الأماكن الشاغرة المخصصة لتقدم تنويعات من فكرة عامة مكررة، فلابد من البداية أن يكون واضحًا من سيكافأ أو يعاقب أو ينسي، وكل ذلك يفرض الوهم بأن العالم الخارجي استمرار مباشر لما نراه علي الشاشة الصغيرة أو الكبيرة وأن الحياة الواقعية لا يمكن تمييزها من الأفلام، فالحياة هنا تحاكي ذلك الفن الرديء، وذلك مقصود به تشكيل المتفرجين في أنماط ثابتة يعاد إنتاجها في كل فيلم أو مسلسل وخلق حالات عقلية ونفسية مفبركة، فطاعة التسلسل الهرمي الاجتماعي ومتطلباتها ثقافة موحدة، ويبدو من لا يفكر بهذه الطريقة المرسومة غريبًا بين الناس، فمن لا يتطابق تمامًا ويتكيف يصبح عرضة للسخرية فاقدًا للاحترام ماديا ومعنويا، وعلي الرغم من أن قوة صناعة الثقافة ماثلة في مطابقتها لحاجات التسلية في الهرب من العمل الذي أصبح ميكانيكيا روتينياً فإن الآلية تطبع أيضًا صناعة بضائع التسلية لأنها لا تتطلب أي جهد فكري. ولكن ما سبق من آثار سلبية لصناعة الثقافة ليس هو صورتها الكاملة فهي تخلق إمكان التنوع والتعدد وتلقي في أحيان كثيرة مقاومة من الفنانين والكتَّاب الذين يتجمعون معًا في مواقف وأعمال مختلفة الاتجاه، بل إن صناعة الثقافة التي تستهدف النجاح التجاري لابد أن تستخدم هؤلاء المناهضين في بعض المنتجات، هناك في السينما الأفلام المستقلة والمخرجون ذو الابتكارات والأفكار الجديدة وكتَّاب الدراما الطليعيون، ونحن لا نعدم أفلامًا وأعمالا درامية ممتازة لأن صناعة الثقافة ليست مطلقة التأثير وتستفز مقاومة من صنَّاع الثقافة الحقيقيين.