لطالما اعتُبِرَت سيندي شيهان مثالاً للإنسان الذي يقود حملة لتغيير فكر وموقف نظام بقوة نظام الولاياتالمتحدة، ولطالما اعتبرتها مشعلاً لكلّ المدافعين عن الحريّة والعدالة في العالم، فقد أتى خبر استقالتها محبطاً ومفقداً للآمال. ولكنّني حين قرأتُ رسالة استقالتها الفصيحة والمعبرة، أدركتُ حجم المشكلة التي تعانيها، وهي المشكلة ذاتها التي يعاني منها كلّ الشرفاء، الذين يحملون قضايا كبرى، ويقفون في وجه مؤسسات عاتية ومموّلة، وصاحبة مصلحة كبرى في الثراء على حساب أرواح وأجساد البشر. إن الكشف الذي عبرت عنه سيندي شيهان في رسالة استقالتها، كوجه لحركة معاداة الحرب في الولاياتالمتحدة، هو كشف مهم جداً، وخطير جداً، ليس للأمريكيين وحسب، وإنما لكلّ الشعوب التي تؤثر سياسة حكومة الولاياتالمتحدة في حياة ومستقبل شعوبها. لقد بدا واضحاً من رسالة الاستقالة لسيندي شيهان، أنها كانت تلقى كلّ الدعم والتأييد، حين اعتُبِرَت ديمقراطية، تعمل ضدّ موقف الحزب الجمهوري من الحرب، ولكن حين استقالت من الحزب الديمقراطي، واعتبرت الحرب في العراق ليست مسألة «يمين أو يسار سياسي»، بل مسألة «خطأ وصواب»، حينذاك بدأت مشكلة سيندي شيهان الحقيقية، لأنه في نظام ديمقراطي من المسموح أن تعترض، ولكن ليس من المسموح أن تكشف جوهر النظام، وما يمثله بالفعل. إن الطريق الذي سلكته سيندي شيهان خطير جداً، لأنه يهدف إلى تحقيق العدالة، واحترام النفس البشرية، وإلى اعتبار ما جرى للعراقيين جريمة بحقّ الإنسانية، وهذا قد يكون له تداعياته الخطيرة، ليس على سياسة الولاياتالمتحدة في العراق وحسب، وإنما على سياسة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط، وربما في العالم.
لقد قالت إنها حاولت تغيير المعيار للنظام الأمريكي، وهذا غير مسموح به على الإطلاق، ذلك لأن تغيير المعيار يعني تغييراً في الموقف من فلسطين، ولبنان، والسودان والصومال، وربما يعني سياسة أمريكية مختلفة جداً عن السياسة التي نشهدها اليوم، وهذا ما لا يمكن للحزبين الأمريكيين أن يفعلاه، إلا إذا قررا أنهما يريدان سياسة خارجية للولايات المتحدة مختلفة جداً عن السياسة الخارجية التي تتبعها اليوم، والتي تختلف في الدرجة، ولكن ليس في الجوهر، وعمق التوجه بين الحزبين. ولعل ما يدعم هذا الاستنتاج، هو ما نشرته جريدة الجيروزيليم بوست، بالتزامن مع استقالة سيندي شيهان، ألا وهو مواقف أبرز مرشحي الرئاسة الأمريكية، من إسرائيل والعلاقات الأمريكية الإسرائيلية. في هذه اللقاءات، تشعر وكأن العراق وفلسطين ينتميان إلى كوكبين مختلفين، لأن ما ينطبق على الحرب والقتل في العراق، لا ينطبق على الإطلاق على الحرب والقتل في فلسطين. إذ إن المرشحين الذين اتخذوا مواقف ضدّ الحرب على العراق، يرفضون أن يروا أن حياة طفل فلسطيني تساوي حياة طفل في أي مكان، ويرفضون أن يروا أن الانتخابات التي جرت في فلسطين، والتي وصفها رئيسهم السابق بالنزاهة والشفافية، قد انتهت بزج إسرائيل النواب والوزراء الفلسطينيين المنتخبين في غياهب سجونها. فالمنطلق لهؤلاء المرشحين، هو أن إسرائيل على حقّ دوماً حتى لو ارتكبت أبشع الجرائم ضدّ الإنسانية، وأن أعداءها «إسلاميون متطرفون، وذو طبيعة فاسدة»، ويضيف جون ماكين (جمهوري): «سأتأكد من أن الشعب الأمريكي الذي يريد إلحاق الهزيمة بالمتطرفين، الذين يهددون أساليب عيشنا، لن يساوم في سبيل ذلك على أمن إسرائيل وسلامتها». أما هيلاري كلينتون (ديمقراطية)، فتدعو للتعلم من إسرائيل: «اليوم وفي الوقت الذي تواجه فيه أمريكا أخطاراً داخلية وتحديات أمنية، عليها أن تتعلم من إسرائيل كيف تواجه الهجمات العدائية، وإعداد الخطط اللازمة لمواجهة أي طارئ». ويقول باراك أوباما (ديمقراطي): «تمثل دولة إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي الحليفة الأكثر ثقة للولايات المتحدة في هذه المنطقة، إن أمن إسرائيل والعلاقات الوثيقة معها، حجر أساس لأي إنجاز نريد الوصول إليه في الشرق الأوسط. تتشارك أمريكا وإسرائيل في الكثير من المصالح الأساسية: العمل على شرق أوسط سلمي يقاتل الإرهاب ويشجع الإصلاحات في العالم العربي والإسلامي، كما أننا نتشارك في مواجهة الخصوم المتمثلين في إيران وسوريا وحماس وحزب الله، إضافة إلى تشاركنا في الاقتصاد والثقافة والاكاديميا والروابط العلمية المفيدة لكلا البلدين». واعتبر ميت رومني (جمهوري) أن إسرائيل »تقف في مقدمة الجبهة لمواجهة الجهاد الإسلامي الأصولي».
أرأيتم ما الذي أوصل سيندي شيهان إلى الإحباط والاستقالة؟ هذه الأفكار المسبقة، التي تفتقر إلى المعرفة، والتي تبني سياسات لا علاقة لها بإنسانية الإنسان، او بالعدالة والحقوق المتساوية بين البشر. ماذا يعرف باراك أوباما أو جون ماكين أو هيلاري كلينتون عن سوريات وإيران وحماس وحزب الله؟ وماذا يعرفون جميعاً عن الإسلام والمسلمين، خاصة في ضوء ما نشره صحفيون أمريكيون مرموقون، أن الولاياتالمتحدة هي التي تشجع «فتح الإسلام» و«جند الإسلام» وغيرها، ليبقوا العرب وقوداً للحرب التي تريد استمرارها على الإرهاب.
لقد غارت سيندي شيهان في عمق السياسة الأمريكية، باحثة عن العدالة وقيمة الإنسان وكرامته، وإذا ما استمر هذا النهج، فكيف سيجيب النظام الأمريكي عن دعمه لاحتلال واستيطان يودي يومياً بحياة الأطفال والنساء، ويسجن الفلسطينيين في نظام فصل عنصري، لم تشهد جنوب أفريقيا العنصرية مثيلاً له في السوء (اقرأ مقالة روني كاسرلز، الوزير في حكومة جنوب افريقيا، لدى زيارته الضفة الغربية في فلسطين)، حيث وضعت إسرائيل خمسمائة حاجز، وحرمت العرب من أبسط حقوقهم الإنسانية والطبيعية. أو لم يسمع هؤلاء المرشحون لرئاسة الولاياتالمتحدة عن مسؤولين إسرائيليين ينادون بمحو قرى فلسطينية من الوجود، وبقطع الماء والكهرباء عن غزة؟ نعم لقد سمعوا، ولكنّ القارئ لتصريحات المرشحين للرئاسة الأمريكية، يرى أنهم جميعاً يعتبرون منطقة الشرق الأوسط مسكونة بالأصوليين والإرهابيين، واناس غير جديرين بالثقة، بينما تشغل إسرائيل واحة الديمقراطية الوحيدة، التي تشبه الغرب، وتؤمن بمصالحه، وتشكّل ضمانة له ولقيمه. ماذا يمكن أن نقول في مثل هذا الموقف، الذي يعتبر مائة مليون إنسان في فلسطين وسوريا ولبنان وإيران جميعاً أعداء لإسرائيل، ومن المبرّر لإسرائيل أن تفعل ما تشاء حيالهم، او ليس هذا معنى «العنصرية»؟ أن ننظر إلى شعوب كاملة بانها متطرفة او إرهابية، بينما تعتبر نظام إسرائيل يستحق الدعمين العسكري والمالي، كي يحتلّ ويستوطن ويقتل ويسفك؟ لا أعلم ما إذا كانت سيندي شيهان ستتراجع عن قرارها لكنّي آمل أن تفعل ذلك، فالمعركة مهمة ومصيرية، وهي ليست معركة الشعب الأمريكي مع الإدارة، ولكنّها معركة الحقّ ضدّ الباطل، ومعركة المؤمنين بالعدالة والكرامة الإنسانية ضدّ الذين لا يرون في العالم إلا النفط والثروات والهيمنة.
فها هم الأكاديميون البريطانيون يحاولون مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية المتورطة بالقمع والعنف العنصري ضدّ الفلسطينيين، والمسرحيون الإيرلنديون يدعون إلى مقاطعة المسرح الإسرائيلي، وها نحن جميعاً نعلم ان الصراع هو صراع من أجل العدالة والكرامة في العراق والسودان وفلسطين ولبنان. صحيح أن المدافعين عن الشرعية والعدالة يفتقرون إلى المال والوسائل التي يمتلكها مروجو الظلمة، ولكن يجب ألا نيأس أبداً، ويجب أن نكمل المشوار مهما كانت الصعوبات. لقد قامت سيندي شيهان بعمل نبيل جداً، ومن حقهّا أن ترتاح إذا أرادت، ولكن ليس من حقنا أن ندع ما ناضلت من أجله يسقط ويموت. لقد وصلت نقطة حساسة جداً ومهمة جداً لها ولنا، وعلى كلّ الشرفاء في العالم ان يشدّوا أزر بعضهم بعضا، ويكملوا المشوار؛ لأن البديل عن ذلك لا إنساني، ولا أخلاقي، ولا مستقبل له بين الشعوب الطامحة الى الحريّة والاستقلال والكرامة.