لم يكن لبنان في حاجة إلى أزمات جديدة، ولكن هذه هي حقيقة الواقع السياسي اللبناني الحالي، فالأزمات تولد الأزمات، وعدم التوازن في القوى بين أطراف الأزمة يدفع دائماً إلى الاستقواء والتحالف مع أطراف خارجية إقليمية ودولية لموازنة خلل توازن القوة. وهكذا بين التوازن والتوازن المضاد والتحالف والتحالف المضاد دخل لبنان في ما يمكن تسميته ب”لولب الأزمة” أي الانتقال من أزمة إلى أخرى حتى الاحتقان الذي يؤدي عادة إلى الانفجار الذي يحدث بين حين وآخر عندما يصل الاحتقان السياسي إلى ذروته.
أزمة “نهر البارد” أو أزمة “فتح الإسلام” نموذج كاشف لهذا الواقع السياسي اللبناني، تحالفات أطراف لبنانية بأطراف إقليمية ودولية دفعت أطرافاً أخرى إلى تحالفات إقليمية ودولية بهدف تحقيق التوازن الذي انتهى في لحظة ما لمصلحة “حزب الله” بعد نجاحه في تحرير الجنوب، ومنذ تلك اللحظة بدأ الطرف الآخر يتعامل بتوجس شديد مع الحزب كطرف في المعادلة السياسية، وتحول سلاح “المقاومة” من معلم من معالم الافتخار الوطني إلى “هدف” من جانب الأطراف الأخرى التي سعت إلى استئصاله، بقدر ما سعت إلى إخراج سوريا من لبنان باعتبارها طرفاً محسوباً لمصلحة “حزب الله”، ومن ثم كان التوجه نحو الطرفين الفرنسي والأمريكي لدعم هذين المطلبين، وجاء القرار 1701 ليعبر عن هذه الرغبة: إخراج سوريا ونزع سلاح المقاومة. وبخروج القوات السورية من لبنان بدأ التركيز المفرط على سلاح المقاومة.
إعادة قراءة تطورات الأزمة اللبنانية منذ خروج القوات السورية يكشف أن مجمل القضايا الصراعية بين ما يعرف ب”تيار الأغلبية” و”تيار المعارضة” سواء كانت قضية المحكمة الدولية، أو قضية الحكومة أو غيرهما من القضايا، وبالذات الانقسام على الموقف من الحرب “الإسرائيلية” على لبنان في يوليو/ تموز الماضي، ثم الانقسام حول “النصر”. كلها قضايا تكشف أن سلاح “حزب الله” و”قوة الحزب” هما محور الأزمة الممتدة في لبنان لفرض معادلة سياسية جديدة تنزع عن الحزب قوته المتفوقة في المعادلة الحالية.
ما علاقة أزمة تنظيم “فتح الإسلام” وتفجر الاقتتال في مخيم نهر البارد بهذا كله؟
لفترة ما ظلت العلاقة غامضة، لكن في كل الأحوال كان التحليل العلمي يقول إنها حتماً إحدى المعارك الفرعية للصراع الداخلي من أجل “التوازن السياسي” الجديد المطلوب، لكن الانقسام الحاد في تعريف تنظيم “فتح الإسلام” جاء ليؤكد هذا الاعتقاد خصوصاً ما جاء على لسان كل من فؤاد السنيورة رئيس الحكومة اللبنانية ووليد جنبلاط من ناحية، وما كشفه الصحافي الأمريكي الشهير “سيمور هيرش” من ناحية أخرى.
هيرش يجزم بأن واشنطن عادت مضطرة للعب بورقة “عدو عدوي هو صديقي” اعتقاداً منها بأن الجماعات الجهادية السنية ورقة مهمة للحرب ضد المقاومة في لبنان واحتواء قوة “حزب الله” في المعادلة السياسية اللبنانية.
انقسام حاد حول الحقيقة، لكن اتهامات شاكر العبسي زعيم تنظيم “فتح الإسلام” لتيار الحريري بأنه كان وراء اندلاع الاشتباكات بين الجيش اللبناني وعناصر “فتح الإسلام” مؤشر آخر لتعميق مفارقات أزمة مخيم نهر البارد المتفجرة في لبنان، لكن أهم هذه المفارقات هو موقف السيد حسن نصر الله، الذي يعرف حتماً قراءة سيمور هيرش للأزمة. لكنه جعل من الجيش خطاً أحمر كما جعل من مخيم نهر البارد وسكانه من اللاجئين الفلسطينيين خطاً أحمر آخر، وطالب بأن تكون المعالجة سياسية أمنية قضائية تحفظ الجيش ولا تؤدي إلى حرب مخيمات جديدة. لم يندفع السيد حسن نصر الله بدوافع انتقامية للتخلص من تنظيم “فتح الإسلام” كعدو يستهدف حزب الله حسب تفسير هيرش، لكنه لم يخلط الأوراق ولم تدفعه الأزمة إلى الإساءة إلى التحالفات وإلى جوهر القضية التي يحارب من أجلها “حزب الله”، ولعل هذا ما يفسر السر وراء نقمة وليد جنبلاط عليه واتهامه بأنه “ساوى بين القتلة في المخيم والجيش اللبناني”.