تواصلت جهود الشعب المصري نحو الإنجاز العظيم الذي حدث نتيجة ثورة 1919م ، وأدى إلي صدور الدستور المصري في 19 أبريل 1923م، ويتضمن الدستور 170 مادة، تفصّل وتحدّد كل ما يتعلق بالوضع السياسي والإداري والقضائي، وتتضمن أحكامًا ومبادئ وقواعد عصرية، تقوم على المعايير الدولية، والمبادئ الأساسية التي انتهى إليها كفاح المصريين عبر قرنين سابقين على صدور الدستور. ظل هذا الدستور نافذًا، ثم استُبدل، ثم أُعيد ثانية، ثم عُدل، وذلك قبل حركة الجيش في يوليو 1952م. وفي 10 ديسمبر 1952م صدر إعلان من القائد العام للقوات المسلحة بصفته رئيس حركة الجيش بإسقاط دستور 1923م واستبداله في 17 يناير 1953م بمبادئ عامة تحت عنوان: (إعلان دستوري)، يتكون ذلك الإعلان من 11 مادة، يتولى بمقتضاها قائد الثورة ومجلس قيادة الثورة أعمال السيادة العليا، وبصفة خاصة التدابير التي يراها ضرورية لحماية هذه الثورة والنظام القائم عليها لتحقيق أهدافه، وحق تعيين الوزراء وعزلهم، كما يتولى مجلس الوزراء السلطة التشريعية. ومؤدى هذا الإعلان: إلغاء حق الشعب في الحكم والتشريع، وتركيز السيادة وأفعال السلطة والتشريع في يد الضباط الانقلابيين الذين أطلقوا على الانقلاب اسم حركة الجيش، ثم غيروا الاسم من حركة الجيش في 10 فبراير 1953م (أي في مدى شهرين) إلى ثورة الجيش، وأطلقوا على مجموعتهم اسم مجلس قيادة الثورة، أي ثورة الجيش، كما جاء في عنوان الإعلان، وأصبح هذا المجلس مهيمنًا على السيادة، ومسيطرًا على أعمال السلطة والتشريع في كل أصل وفرع، دون أي قيود أو حدود. وجاءت المرحلة التالية في 16 يناير 1956م حيث أُعلن دستور الجمهورية المصرية، وبهذا الدستور أصبحت مصر جمهوريةً رئاسيةً، لا يكون رئيس الجمهورية فيها مسئولاً أمام أي جهة، ومفاد ذلك كله أن التحررية (الليبرالية) التي كانت الأساس في صياغة دستور1923م قد انتهت، وحلت محلها شمولية مطلقة. وبهذه الشمولية ينحصر العمل السياسي والإداري والتنفيذي في شخص رئيس الجمهورية وحده، والمجموعة المعاونة له . فهو الذي يقوم عمليًّا بترشيح أعضاء مجلس الشعب، الذين يقومون بدورهم بترشيحه للاستفتاء العام، مع استبعاد الشعب كله وانتفاء المصداقية والشفافية في أي استفتاء أو انتخاب. وفي 5 مارس 1958م إثر الوحدة بين مصر وسوريا أُعلن دستور سمي الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة. وفى 27 سبتمبر 1962م وبعد انفصال الوحدة بين مصر وسوريا صدر (إعلان دستوري عن التنظيم السياسي للسلطة العليا للدولة) ، كان التغيير الأساسي فيه هو تنظيم مجلس رئاسي جنبًا إلى جنب مع رئيس الجمهورية. وفي 25 مارس 1964م صدر دستور جديد أطلق عليه دستور 1964م، وكان دستورًا شموليًّا كدستور 1956م عدا إنه وصف مصر بأنها دولة ديمقراطية اشتراكية (إيذانًا بالدخول إلى الفترة الاشتراكية). وفي سبتمبر1971م صدر الدستور الأخير، وقد طُرح في استفتاء عام مع عدم قيام حملة قانونية محايدة لشرح مواده وأحكامه للشعب، وأُعلنت نتيجة الاستفتاء بالموافقة عليه في 12 سبتمبر 1971م. وعلى مدى سنوات، منذ أعلن هذا الدستور حدث تغير جذري في هذا الدستور دون تعديل شرعي له. ذلك بأن الدستور يقوم على مبدأين أساسيين هما نظام الحزب الواحد، والنظام الاقتصادي الاشتراكي. غير أن هذين النظامين تغيرا إلى النقيض تمامًا، حيث صارت التعددية الحزبية أساس النظام السياسي، كما تحول الاقتصاد إلى سياسة الانفتاح، ثم انتهى إلى النظام الرأسمالي الكامل. وكانت نتيجة هذا التحول الجذري أن أصبحت كثير من مواد الدستور غير نافذة وغير فعّالة، لأنها تتعلق بالنظامين اللذين أُلغيا فعلاً، نظام الحزب الواحد والنظام الاشتراكي .وأصبح لمصر دستوران: الدستور المكتوب، وهو دستور 1971م، وبه مواد عديدة لم تعُد نافذة أو فعالة أو يمكن تطبيقها، ودستور غير مكتوب يمثله الواقع الفعلي الذي عدّل الدستور، وصار بمثابة سوابق. ونتيجة لهذا الوضع المتناقض اهتز حكم الدستور بشدة، وصار مختلطًا حتى على المحكمة الدستورية العليا، إذ لا يمكن لأي فرد أو مؤسسة أن تجزم بأن قاعدة ما هي قاعدة دستورية، خاصة وأنه يمكن تقديم أدلة على دستورية أي قاعدة، كما يمكن تقديم أدلة على عكس ذلك تماما. وأصبح المجال الدستوري بصفة عامة قلقًا ومبلبلا. ومن الواضح أنه لا دستور في مصر قد استمر نافذًا لمدة طويلة، أو أن أحكامه قد احترمتها كل القوى السياسية. ومن تسلسل الأحداث يتضح أن مصر عاشت بدون إرادة شعبية دستورية واعية لسنوات طويلة منذ إلغاء العمل بدستور1923م في ظل دساتير صنعت بتوجيهات عسكرية صيغت وعدلت لتحقيق أهداف وطنية في إطارٍ استبدادي، وعلى رأسها وضع الصلاحيات الدستورية العليا في قبضة الحاكم العسكري ابتداءً بجمال عبد الناصر ومرورًا بأنور السادات وانتهاءً بحسنى مبارك. وقد كان محمد نجيب أول رئيس مصري والحاكم العسكري الأوحد صاحب الموقف السويّ، والذي كان ضحية له. وبطبيعة الحال عانت مصر وشعبها منذ قيام حركة ضباط الجيش في يوليو 1952م وحتى ثورة 25 يناير الشعبية من الدساتير المتعاقبة التي وضعت وعدلت بمعزل عن إرادة الشعب، وطُوعت لتوجهات الحاكم العسكري بما يتمشى مع مجريات الأحداث، والمتغيرات التي تعزز هيمنته على الشعب، وسيطرته على مقاليد الحكم . بدأت المأساة الدستورية الكبرى في عهد عبد الناصر، حيث تم إلغاء دستور 1923م المدني، وتوليف دساتير تتماشى مع توجهاته، وتوجيهات المجلس العسكري لقيادة الثورة. انتقلت السلطة إلى أنور السادات بعد رحيل عبد الناصر، وكانت المهزلة الكبرى في عهد السادات الذي شكل لجنة دستورية عليا من فقهاء القانون الدستوري، ومستشاري القضاء، وغيرهم من المتخصصين والخبراء لوضع دستور مصري جديد، وصياغة القوانين الدستورية التي تناسب متطلبات العصر، وتتوافق مع احتياجات الجماهير، وكانت المفاجأة الهزْلية الكبرى، انتهت اللجنة المكلفة من وضع الدستور، وقام أنور السادات - وبإرادة شخصية منه- مغيرًا ما يشاء وكيفما يشاء، للسيطرة على مقاليد الأمور، والهيمنة على كافة السلطات العليا بقبضة دستورية حديدية، ويشغل رئيس الجمهورية المناصب السيادية التالية: رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، رئيس المجلس الأعلى للشرطة، رئيس المجلس الأعلى للهيئات القضائية، رئيس الحزب الوطني الديمقراطي. ولرئيس الجمهورية الحق في ممارسة السلطات العليا التالية: تعيين رئيس الوزراء وإقالته، تعيين الوزراء المرشحين من قبل رئيس الوزراء وإقالتهم، تعيين شيخ الأزهر وإقالته، تعيين رؤساء الجامعات وإقالتهم، تعيين المحافظين وإقالتهم، تعيين رؤساء مجالس الصحف القومية وإقالتهم، اعتماد ميزانية القوات المسلحة والتصديق عليها دون عرضها على مجلس الشعب، إعلان حالة الطوارئ، إعلان حالة الحرب، تشكيل لجنة الدستور وحق التدخل الشخصي في إجراء التعديلات والتغييرات الدستورية. ذلك بالإضافة إلى حق رئيس الجمهورية في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية لمدد غير محدودة، مما كان سبباً ف إطلاق العنان لحكم مبارك طيلة ثلاثين عاماً، ولولا تفجر ثورة 25 يناير لبقى مبارك في سدة الحكم إلى ما شاء الله. برحيل أنور السادات؛ مغتالاً انتقلت السلطة لسلفه حسنى مبارك الذي تحكم في حكم مصر طيلة ثلاثة عقودٍ متتاليةٍ دون وضع دستور جديد، وبدون إبداء أي نوايا لوضع دستور جديد، واكتفى بصياغة وتعديل قوانين دستورية صارمة تضمن تقييد اختيار رئيس الجمهورية المنتظر، واحتواء ذلك الاختيار في القبضة الحديدية للحزب الوطني الديمقراطي المنحل. مما أثار الشك والريبة وكثرة اللغط والجدال حول قضية التوريث. انتهت المهزلة الدستورية الكبرى، والفساد السياسي، والتردي الاجتماعي، والتدهور الاقتصادي، بأحداث ثورة 25 يناير الشعبية التي أسقطت النظام البائد ورموزه، وعطلت القوانين الدستورية البالية، والتي تم استبدالها بالمراسيم العسكرية المتتالية التي فرضها المجلس العسكري بتفويض من الرئيس المخلوع مبارك، دون إرادة من الشعب المصري وبغير اختياره. توالت أحداث ما بعد ثورة 25 يناير، التمرد المضاد، انتشار أعمال العنف والبلطجة، السطو المسلح، التخريب والحرائق، الانفلات الأمني بعمد أو بغير عمد لمعاقبة الشعب الثائر وترويع الآمنين... وغيرها من الممارسات المغرضة لتشويه الثورة وانحرافها عن مسارها الصحيح، وتبديد حصادها. في ظل تلك الأحداث القاسية المحبطة تمت انتخابات مجلسي الشعب والشورى بنزاهة، وكذلك انتخابات النقابات المهنية، وانتخابات القيادات الجامعية، بشفافية تامة وإقبال غير مسبوق. وفى خلال تلك الأحداث ومنذ البداية، كان الكل يصبوا إلى الحلم الكبير الذي يراود كل مصري، مولد دستور مصري مدني عصري جديد، يلائم متغيرات العصر بالداخل والخارج، يبشر بالأمل ويحيي المصداقية، ويعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، يحقق التوازن السياسي والاقتصادي بين الحكومة وجميع طوائف الشعب وأفراده، يصون العدالة الاجتماعية، ويؤكد القيم والمبادئ الوطنية. دستور يؤكد على الفصل بين السلطات، وإلغاء كافة الصور الاستثنائية للقضاء، وعدم فرض حالة الطوارئ إلا في حالة الحرب الفعلية، والتأكيد على حرية الرأي وإلغاء كافة أوجه التعدي على الحريات، وحق التظاهر السلمي للتعبير عن الرأي بأسلوب حضاري منظم. وبعد ذلك تبدأ مراحل البناء والنهضة في ظل دستور واقعي منطقي وعصري. وبطبيعة الحال ونتيجة لإقحام المجلس العسكري لإدارة شئون البلاد بغير إرادة شعبية، والذي أصدر قراره بإعلان دستوري عقب إسقاط حسني مبارك العام الماضي بأن يقوم الأعضاء المنتخبون في مجلسي الشعب والشورى بانتخاب جمعية تأسيسية من مئة عضو لوضع دستور جديد للبلاد دون أن يحدد أي معايير للعضوية، ودون أن يوضح ما إذا كان ينبغي انتخابهم من داخل أو خارج البرلمان. اختلفت الآراء، وتباينت وجهات النظر حول تشكيل أعضاء الجمعية التأسيسية الدستورية وتكليفها بصياغة دستور جديد، وأثار تشكيل الجمعية في الشهر الماضي أزمة سياسية كبري بسبب هيمنة حزبي الحرية والعدالة والنور عليها، انسحب ممثلو الأزهر، والكنائس المسيحية المصرية، والأحزاب الليبرالية، والشخصيات العامة من هذه الجمعية احتجاجاً على عدم تكامل تشكيلها وعدم تمثيلها لكل طوائف الشعب المصري. وصدر قرار محكمة القضاء الإداري الثلاثاء الماضي الموافق 10/4/2012م بوقف قرار تشكيل الجمعية التأسيسية التي يهيمن عليها الإسلاميون، وقبول الطعن الذي تقدمت به حركات احتجاجية، وأحزاب ليبرالية، وشخصيات، عامة لتعليق قرار أعضاء البرلمان المنتخبين بشأن التشكيل المعيب، وأعلنت المحكمة في نص حكمها أنها "قررت وقف قرار تشكيل الجمعية التأسيسية" وقبول الطعن المقدم إليها والذي اعتبر قرار اختيار نصف أعضاء الجمعية من نواب مجلسي الشعب والشورى "قراراً إدارياً خاطئاً يشوبه انحراف في استخدام السلطة". واختيار تشكيل الجمعية التأسيسية بنسبٍ متكافئة، تكفل التنوع والتكامل بين جميع طوائف الشعب، يعتبر شرطاً أساسياً ومطلباً جوهرياً لا يمكن التغاضي عنه. وكلنا نعلم القاعدة الشرعية المعروفة وهى "درء المفاسد مقدم على جلب المنافع" ، وكلنا ندرك معنى الحكمة الصائبة القائلة " الرضا بالضرر الأصغر حتى يزول الضرر الأكبر"، فإذا توفرت الأسس الجوهرية للجمعية التأسيسية، وكانت هناك بعض المساوئ أو العيوب غير الجوهرية - التي يمكن التغاضي عنها مرحلياً- فعلينا أن نرضى جميعاً بالضرر الأصغر مرغمين حتى يزول الضرر الأكبر، لكي تنهض مصر من كبوتها قبل فوات الأوان، ولكي ينجو شعبها من براثن الفتن والتمرد، ونزعات الحقد والانتقام، والنزاعات المفتعلة والفوضى الخلاقة، وفقدان الأمن والأمان، وتردى الحالة الاقتصادية، فلا صلاح ولا فلاح لمصر دون الإسراع في وضع دستور عصري جديد، وبعد ذلك تأتى خطة الإصلاح الشامل على هدىً وبصيرة، ولنبدأ بالأهم فالمهم، وليعلم الجميع أن طريق الإصلاح الجذري طويل وشاق، وبرغم كل المصاعب والمعوقات، فاليوم أفضل من الأمس، والغد أفضل من اليوم، وكما تقول الحكمة الصائبة "متى يكمل البنيان تمامه ما دمت تبنى وغيرك يهدم" نعم نعم نعم للبناء والتشييد لا لا لا للهدم والتخريب لنقف جميعاً صفاً واحداً، وقلباً واحداً، صابرين محتسبين مصلحين، قانعين بما قسمه الله لنا كي تعبر مصر وشعبها من الظلمات إلى النور في ضوء دستورٍ توافقي عصري مدني يبشر بالأمل ويحيي المصداقية.. ولله عاقبة الأمور..