في هدأة الليل، وفي تلك التخوم التي يتعانق فيها ما بقي من الليل مع ما ظهر من تباشير النهار شاء الله أن أصلِّى الفجر إمامًا، وأن أقرأ في إحدى الركعتين الآيات الأولى من سورة المُلك {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1]، وقد شعرت أنني أقرأ سورة الملك لأول مرة. فقد اكتشفت أن كل جملة في الآيات تدلُّ على قانونٍ من قوانين الوجود في المستوى الأرضي، أو على قانونٍ من قوانين الوجود في المستوى السماوي العلوي، وأبصرت فعل القوانين السماوية في القوانين الكونية والإنسانية، سواءٌ على مستوى تحريك الوعي والوجدان في الإنسان، أم على مستوى تعميق الصلة بين الدنيا والآخرة، عندما يخرج الناس سراعًا من قبورهم تحركهم قوى دافعة لا يستطيعون أن يدركوا أسرارها، فيندفعوا رغمًا عنهم إلى محطة لا يعرفون معالم الطريق إليها ولا منتهاها، لكنهم يشعرون بأنهم يساقون إلى الموقف الذي توضع فيه الموازين القسط لا تظلم عندها نفس شيئًا، فما داموا قد بعثوا من مرقدهم فإنهم بالضرورة مُقبلون على تلك الموازين التي وعد الرحمن بها، وجاهد الأنبياءُ والمرسلون في تبليغها. وبيقين فإنَّ المنكرين للبعث سوف تملأ نفوسهم الحسرة والآلام والندم، ولسان حالهم يقول: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52]. ولست أُريد أن أستطرد في الوقوف عند الآيات المعجزة التي وردت في هذه السورة المعجزة، وحسبي أن أقف عند آيات ثلاث كان لها وقعُها الكبير على عقلي وقلبي؛ لدرجة أنني أعدت قراءتها مرة ومرة، مما لفت أنظار بعض العلماء الذين كانوا يصلون خلفي، وبدأنا نتكلم معًا بعد الصلاة في مضمون هذه الآيات من خلال الرؤية التي فتح الله بها علينا، وتألقت معانيها في وجداننا. لقد شعرت وأنا أقرأ هذه الآيات وأعيش في عالمها أن هذه الآيات القرآنية الثلاث كأنها أنزلت عليَّ: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ في ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 8-11]. وفي إشعاعات هذه الآيات وإيحاءاتها أقف عند ذلك السؤال الذي يوجهه خزنة النار إلى الأفواج التي يلقونها في قعر جهنم: ألم يأتكم نذير ؟ وهو سؤال لم يستطع الكافرون أن يجيبوا عليه إلا بالإيجاب الصريح الواضح، فلا مجال للإنكار. كما أقف أيضًا عند محاولات الكافرين التعقيب على الإجابة بطريقة اعتذارية تبريرية عجيبة يقولون فيها لخزنة جهنم بوضوح عجيب: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. وإذا كان السؤال ضروريًّا في هذا المقام، ولا غرابة في سرعة الإجابة عليه بالإيجاب كما ذكرنا، فإن الإجابة المفصَّلة التبريرية التي ألحقوها بالإجابة على السؤال جاءت على العكس من ذلك غريبة عجيبة تستحق الوقوف عندها بالتحليل والتأمل، لا سيما في ضوء مذاهب العقلانية والحرية الفكرية المعاصرة. ما كانوا يستطيعون السمع ! بالتأكيد كانوا يسمعون الأصوات التي تخرج من الحنجرة في الأعم الأغلب، وكانوا يتحاورون ويتجادلون بالباطل، وربما يخطبون في المحافل ويتصايحون في مجادلاتهم بأجهزة الإعلام على طريقة الرأي والرأي المعاكس، ولعلهم يركبون كل المطايا في سبيل إظهار تفوقهم وثقافتهم وقدرتهم على الغلبة، بصرف النظر عن الإصغاء إلى نداء الحق الذي جاء به الأنبياء، وإلى نداء الفطرة الذي غرسه الله في داخلهم منذ ولدوا. لقد كانت لهم آذان يسمعون بها الباطل من الفنون، والباطل من الفكر الذي يروج له دعاة على أبواب جهنم، لكنهم لا يسمعون بها الحق الذي يصل إليهم من خلال القارئين للقرآن، والداعين إلى الإيمان؛ فآذانهم تسمع لكنها لا تفقه ما تسمع، وحتى لو سمعوا القرآن فإنهم يُلغُون فيه ويشغبون خشية أن تنبض به قلوبهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. وحتى لو اضطروا إلى سماعه في بعض الندوات أو الاحتفالات أو الإذاعات فإنهم لا يسمحون لكلماته أن تؤثر في وجدانهم أو عقولهم، بل يظهرون الإغضاء والاشمئزاز {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]. بل إنهم يضمرون لها التكذيب المسبق حتى لو وجدوا فيها صوت الحق الصراح، والله يفضح منهجهم هذا بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 105]؛ فحتى وهي تتلى عليهم، وبدون تفكير عميق فيها يسارعون إلى التكذيب والرفض، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. وأذكر أنني حضرتُ افتتاح مؤتمر من المؤتمرات، وكان يحضره بعض العلمانيين والحداثيين، وشاء الله أن يفتتح المؤتمر قارئ خاشع الصوت بآيات من كتاب الله، وهي قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111]. وقد تفرَّست في وجوه بعضهم فلم أجد فيها أي تأثر بالتلاوة الكريمة، أو بمعانيها التي تهز القلوب هزًّا عنيفًا.. بل إن أحدهم أثار زوبعة بعد التلاوة مباشرة؛ لأنه لم يجلس في الصف الأول، بينما هو من أعلام التنوير الزائف، حسب تعبير الدكتور جلال أمين. إن آذان هؤلاء التي لا تسمع إلا الخبيث من القول، مجرد وسيلة لنقل الأصوات من الحناجر، كما في سائر الحيوانات. وعلى النقيض من ذلك فنحن نعرف أن الأديب العظيم مصطفى صادق الرافعي كان أصم لا يسمع، ومع ذلك كان من أكبر من فقهوا القرآن، وعاشوا في رحابه، ودافعوا عن الإسلام كله تحت راية القرآن. وكانت مقالاته التي جمعت في كتابه وحي القلم تبدو لقارئها كأنها تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم، فليس بالسمع الظاهري وحده يمكن الوصول إلى الحقائق السامية. ولهذا أدرك الكافرون، بعد فوات الأوان، وهم يقذفون في قعر الجحيم أنهم لم يكونوا يسمعون كما ينبغي أن يكون السماع اللائق بالإنسان العاقل. وصدق الله في قوله عن هؤلاء:{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. فهل يقبل منافقو عصرنا وملحدوه من دعاة الحداثة والعقلانية والتنوير الزائف والحرب على الغيب والدين، أن يكونوا كالأنعام وهم الذين يطلقون على أنفسهم الألقاب والنعوت الكبيرة!! بل هم أضل؛ فإنهم في الحقيقة كالأنعام حتى نالوا من شياطينهم أرفع الجوائز والشهادات. عبدوا العقل ورفضوا الوحى.. فسقطوا وذكرنا سلفًا أن اعتراف الكافرين من الحداثيين والماديين بأنهم ما كانوا يعقلون في الدنيا أمر عجيب يحتاج إلى تحليل؛ ذلك لأنهم كانوا من الدعاة للمذاهب العقلانية والفوضوية التي تبعهم فيها بعض الناس، لا يرون مانعًا تحت مظلتها من التطاول على الله وسوء الأدب معه، بل ورفض الإيمان بوجوده ووحدانيته وقدرته. كما لم يجدوا مانعًا باسم هذه العقلانية من رفض الإيمان بالأنبياء والمرسلين، ورفض الخضوع للعقائد والشرائع التي تنزلت عليهم، بل إنهم تطاولوا عليهم ولم يسمعوا لهم، ولم يؤمنوا حتى بخاتمهم محمد رسول الله الذي تواترت آلاف الأدلة على صدق نبوته وعلى جامعية رسالته. وما كان كفرهم على هذا النحو إلا لأنهم تجاهلوا تمامًا أن ماكينات عقولهم لا يمكن أن تعمل إلا وفاقًا للنظام الذي أقامها الخالق عليه، ووضعه في جبلتها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. مع أن الدين كان قد أثبت لهم كما أثبتت حركة التاريخ أن العقلانية المنفصلة عن ضوابط الوحي وتشريعات الله من شأنها أن تقود أصحابها إلى معاناة وضنك في الدنيا، ثم إلى هذا المصير التعس في الآخرة السعير. ولهذا كان سؤال ملائكة العذاب مختصرًا وجامعًا عندما سألوهم ألم يأتكم نذير؟ وسرعان ما اعترف الكافرون بأنهم قد جاءهم نذير وأنهم كذبوه، وكذبوا الوحي الذي جاء به. ولو أنهم آمنوا بالنذير الذي جاءهم لعلَّمهم كيف تعمل ماكينات عقولهم بطريقة إيجابية منضبطة في نطاق حجمها الطبيعي، مستمدة فاعليتها من شمس الوحي فالعقل مهما بلغت قدرته لا يعدو أن يكون مصباحًا له حدود وآماد لا يستطيع أن يتجاوزها، بل إنه يرتبط بقوة صاحبه وضعفه فيصحُّ إذا صحَّ العقل السليم في الجسم السليم، وفي المقابل يضعف ويصبح عاجزًا في لحظات ضعف الجسد وسيطرة الأمراض عليه. فهل يؤتمن عقلٌ تلك طاقته، وتلك حدوده على التشريع للحياة والأحياء وقيادة السفينة الإنسانية؟! وكم رأينا عباقرة في النواحي العقلية، لكنهم أطفال وعبيد للتقاليد، والثقافات الموروثة في تقديرهم لعظمة الخالق وقدرته ووحدانيته، وفي وجوب إقداره حقَّ قدره. وهل تخلو الهند من عباقرة في العلوم الطبيعية والذرية وغيرها؟ ومع ذلك فإنَّ ثمانمائة مليون هندوسي يعبدون آلاف المعبودات التي تبعث على الأسى والسخرية، وتقف البقرة سيدة لهذه المعبودات وعلى رأسها. وفي تمجيد البقرة يقول أكبر زعماء الهند في القرن العشرين المهاتما غاندي: إنَّ البقرة أفضل عندي من أمي؛ لأنها تعطيني اللبن ولا تنتظر مني شيئًا في المستقبل، أما أمي فتنتظر مني أن أقوم بأمرها عندما تصل إلى سن الشيخوخة. وكان يقول أيضًا: إنَّ عبادة البقرة هدية الهند إلى العالم. {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} [النجم: 23]. وهكذا يتجلى لنا أن الحضارات التي قطعت الصلة العضوية التي تربط بين الدين والعقل يقودها العقل المنفصل عن الوحي إلى الأنانية والمصلحة وعبادة اللذة والقوة، وبالتالي تتجه إلى رفض الحق واتّباع الهوى، مع التمادي في الضلال القائم على العلم الظاهري المادي المقطوع الصلة بالروح والمعاني الإنسانية وخشية الله، ومع تجاهل البعث والحساب والثواب والعقاب. إن عبيد العقلانية المقطوعة الوشائج بالوحي وعبيد الحرية المطلقة التي لا تحدُّها حدود دينية أو أخلاقية؛ قد اعتدوا على كل حقائق الوجود الإنساني عندما زعموا أن كل شيء نسبي، وأن الأسباب تغنينا عن ربِّ الأسباب فهي فاعلة بنفسها، وأنه لا ثوابت في الكون، وأن الإنسان مستغنٍ عن عون الله ورعايته، ولا توجد قدرة عليا تحكُم الكون؛ بحيث لا يقع فيه أدنى خلل، وإلا انفرط عقده كما تنفرط حبات المسبحة. ولعل علماء الفلك والأطباء بعد المتفقهين في الدين هم من أقدر الناس على فهم هذه الحقيقة التي سبقهم إليها الأنبياء، وجلاها القرآن في أكثر من موضع، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 95، 96]. وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. فالصدفة العمياء والفوضى المبدعة حسب قولهم والتفسير المادي أو التطوري للخلق، والزعم بأنه بالعقل وحده يحيا الإنسان وبالاستغناء عن خدمات الدين التي تكبل حركة الإنسان، تتحقق انطلاقة الإنسان وحريته وإبداعه ويصبح الإبداع فوضى خلاقة. كل هذه المقولات أصبحت أجزاء أساسية في كثير من المذاهب المعاصرة، وأبعدت كثيرًا من الناس عن الله والوحي مثلما نجد في مذاهب الوجودية سارتر، والشيوعية ماركس وهيجل، والسريالية (السلفادور دالي) اللامعقولزم، والتجريدية، والتفكيكية، والبنيوية، والنيتشوية (فلسفة السوبرمان والبقاء للأقوى عند فردريك نيتشه)، والتطورية دارون، والوضعية المنطقية أوجست كونت. ولعلنا ندرك من هذا الفيض من مذاهب عبادة العقل سرَّ انهيار المعنى الحقيقى للدين، وسرَّ انهزام المثل الأخلاقية العليا في الحضارة الأوروأمريكية المعاصرة باسم عبادة العقل والاستغناء عن الدين، حتى وصل الإنسان المعاصر إلى أسفل سافلين؛ لأنه نسي حقيقة أساسية وهي أنه ليس بالعقل وحده تستقيم الحياة الإنسانية. الدرس الكبير والآن وبعد هذا التطواف نقول للعقلانيين الرافضين لتوجيهات الدين من الحداثيين في مصرنا وفي عالمنا العربي: إنكم منذ ثلاثة أرباع قرن تدورون كما يدور السكارى بلا معالم ولا أهداف، تنقلون عن الحضارة الغربية نفايات أفكارها الميتة حتى تلك التي تجاوزها السادة الأوربيون، تظلون أنتم واقفين عندها كأنكم بلا عقل يا أدعياء العقلانية. فلقد تجاوزت الحضارة الأوربية الداروينية والحداثة وتكاد تتجاوز الحداثة وما بعد الحداثة، كما تجاوزت المادية الجدلية الشيوعية، وماتت وجودية سارتر. وحتى المفاهيم التي ارتبطت بمرحلة زمنية أوربية معينة وبمواقف معينة ضد اللاهوتيين المحاربين لحرية البحث العلمي، والذين يفرضون اللاهوت حتى على أصحاب النظريات العلمية بالتعذيب والإحراق هذه المفاهيم التي أفرزتها مرحلة ما يسمى بعصر التنوير المحارب لسيطرة الكنيسة، وأدت ردود أفعالها إلى حرية التطاول على الدين ورجاله بسبب هؤلاء الذين حاربوا الفكر والعلم بقسوة. حتى هذه المفاهيم الظرفية قد تجاوزها الفكر الأوربي واستعلى عليها، لكنكم لا تريدون أن تتجاوزوها كأنكم ببغاوات تردد أفكار الآخرين دون عقل، فأين العقلانية والحداثة إذن؟! وفي كثير من الصحف تصدر مقالات لهؤلاء التنويريين العقلانيين المزيفين، فيبدو للقارئ أن أصحابها لا يملكون إلا هذه المفاهيم، فهم يدورون في فلك المصطلحات نفسها لا يبرحونها، لدرجة أصبحت مملة، وأصبحنا نعرف سلفًا ما سيكتبون، فالموضوع مختلف لكن الجوهر واحد. فاعقلوا الآن يا دعاة الحداثة والعقلانية الملحدة، وعودوا إلى عقلانية إيمانية تستمد فاعليتها من الوحي، كما يستمد الطفل من أمه اللبن الصافي؛ فالعقل الصحيح ابن الوحي الصحيح. اعقلوا قبل أن يأتي يوم تندمون فيه ندم الحمقى والسفهاء، وتقولون لخزنة جهنم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. اعقلوا يا من تدَّعون كذبًا أنكم تقودون الأمة إلى الوعي والنهضة، وقودوا أنفسكم أولاً إلى الحق، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.