تعيش مصر حاليا حالة من الصحوة سببها فيلم وثائقي اسرائيلي اثبت ان وحدة شكيد قتلت بدم بارد 250 اسيرا مصريا بعد انتهاء حرب عام 1967، حيث افردت الصحف المصرية مقالات نارية ضد الدولة العبرية، بينما وصف نواب في مجلس الشعب المصري السفير الاسرائيلي بالكلب والكافر وهددوا بذبحه اذا ما تم استدعاؤه للمثول امام المجلس للرد علي اتهامات قتل الأسري. الغريب ان الضجة ثارت بعد ورود هذه المعلومات عن المجزرة المذكورة في فيلم وثائقي اسرائيلي، وبعد ثلاثين عاما علي وقوعها، بينما تحتوي ملفات الحكومة المصرية علي شهادات موثقة تبين التفاصيل الكاملة والدقيقة المتعلقة بها، ولم تتحرك الحكومة المصرية مطلقا لإنصاف هؤلاء الشهداء، بل الاكثر من ذلك انها وقعت اتفاقات سلام مع الدولة العبرية، ورفعت علمها في وسط مدينة القاهرة، وصدرت لها النفط والغاز وتعاملت معها تعامل الاصدقاء علي مدي ربع قرن تقريبا. والاكثر من ذلك ان فؤاد بن اليعازر قائد وحدة شكيد التي نفذت هذه المجزرة بدم بارد كان الصديق الشخصي والحميم للرئيس حسني مبارك، يزوره بشكل دوري في منتجعه المفضل في شرم الشيخ، ويقضي في صحبته مسامرات مطولة، سواء عندما كان وزيرا للدفاع او بعد مغادرته هذا المنصب الاخطر في الدولة العبرية. وحدة شكيد هذه لم تقتل 250 اسيرا مصريا، بل عشرة اضعاف هذا الرقم حسب الوثائق الرسمية المصرية. وبعض هؤلاء حوصروا في معسكرات اعتقال شبه عرايا تحت شمس سيناء الحارقة لعدة ايام حتي ماتوا عطشا، وتعفنت جثامينهم الطاهرة، وعندما عثر عليهم بدو سيناء في هذه المعسكرات لاحظوا امرا غريبا، وهو انهم كانوا يحفرون الرمال الملتهبة بأظافرهم بحثا عن الماء لارواء ظمئهم. وبعض هؤلاء البدو ما زالوا احياء ويمكن ان تذهب لجنة تحقيق للقائهم وأخذ شهاداتهم وتملك بعض الاسماء التي يمكن ان تعرّف عليهم. الحكومات المصرية المتعاقبة، خاصة تلك التي وقّعت المعاهدات مع الدولة العبرية هي التي اخفت هذه الحقائق عن الشعب المصري، وهي التي يجب ان تستدعي الي مجلس الشعب المصري للمساءلة والمحاسبة علي جريمة التستر البشعة. اسرائيل ارتكبت مجازر عديدة ضد المصريين الشرفاء واطفالهم، وارتكبت مجازر ضد القوات المصرية المنسحبة من سيناء بعد هزيمة عام 1967، وارتكبت مجازر مدرسة بحر البقر ومدن القناة، مثلما ارتكبت مجازر ضد الفلسطينيين في قطاع غزة في الفترة نفسها، وتكفي الاشارة الي مجزرة خان يونس التي اعدمت فيها القوات الاسرائيلية 1350 شابا معظمهم تتراوح اعمارهم بين 17 35 عاما عندما دخلت المدينة في تشرين الاول (اكتوبر) عام 1956. ومن المؤسف ان فؤاد بن اليعارز قائد هذه المجزرة البشعة يبررها بقوله ان ضحاياها كانوا من الفلسطينيين وليس من المصريين، وكأن هناك فرقا بين الاثنين، او كأن قتل الفلسطينيين امر مشروع ومحلل، ويمكن ان يعفيه من أي لوم من قبل المسؤولين المصريين، بحيث يواصل زياراته الي ارض الكنانة ويلقي الترحيب الحار من قبل اصدقائه فيها. العالم الغربي المتحضر اقام الدنيا ولم يقعدها بسبب ارتكاب الصرب مجزرة سربينتشا اثناء حرب البوسنة، وما زال يطارد المجرمين المتورطين فيها لتقديمهم الي العدالة الدولية للقصاص منهم، ولكن هذا العالم لن يتحرك، ولم يتحرك لمجزرة الأسري المصريين، او اي مجزرة اسرائيلية اخري في حق العرب الآخرين، مثل مجازر قانا وصبرا وشاتيلا وبيت حانون وشاطيء غزة، لان مرتكبي هذه المجازر محصنون كونهم اسرائيليين من احفاد ضحايا المحرقة، وكون الحكومات العربية استمرأت العجز والضعف وتعودت علي الهوان والإذلال. فالحكومة المصرية اكتفت بالايعاز ل بطل هذه المجرزة بن اليعازر بعدم المضي قدما في زيارته الي القاهرة، وتأجيلها الي موعد لاحق، واستدعت السفير الاسرائيلي بشكل روتيني للاحتجاج، وكفي الله المؤمنين شر القتال. النواب المصريون يطالبون بقطع العلاقات وطرد السفير الاسرائيلي من مصر واغلاق سفارته، وتجميد معاهدات كامب ديفيد كأبسط رد علي هذه الجريمة البشعة في حق اسري مصريين من قبل دولة لا تحترم القوانين والمعاهدات الدولية، ولا تحتكم لاي معايير اخلاقية، غير معايير القتل وسفك الدماء، ولكن الحكومة المصرية لن تستمع الي هؤلاء النواب ولن تلبي أيا من مطالبهم، وباتت تتعامل معهم ومع مجلسهم المنتخب مثلما تتعامل مع الصحافة المصرية المعارضة، اي تتركها وكتابها يصرخون كيفما شاءوا لامتصاص النقمة، وتمرير العاصفة، وتنفيس الاحتقان، ثم تقرر هي ما تريد في نهاية المطاف. الشعب المصري ينتفض لكرامته وأرواح شهدائه، وأسراه، ويتحرق وطنية وشهامة، ولكن الشعب المصري في واد وقيادته في واد آخر مختلف تماما، وهذا ما يفسر تراجع مصر ومكانتها، وتهميش دورها في المحيطين الاقليمي والدولي، بحيث باتت دون اي نفوذ، وهي الدولة القائدة والرائدة علي مر العصور. بعض الكتاب المصريين ينتقدون المملكة العربية السعودية بشدة لانها استولت علي دور مصر، وسلبتها قيادتها للأمة والمنطقة، بانجازها المصالحة بين رأسي السلطة الفلسطينية فتح و حماس ونقل القمة العربية من شرم الشيخ الي الرياض، وقيادة تجمع سني اسلامي لمواجهة ايران يتقزم فيه دور مصر الي عضو ثانوي، وهي التي تستضيف علي ارضها الازهر الشريف المرجعية السنية الأبرز، ولكن هؤلاء، او معظمهم، ينسون ان العيب ليس في السعودية او الاردن او باكستان، وانما في قيادتهم التي اوصلت بلادهم الي هذا الوضع المخجل. مصر بحاجة الي حركة تصحيح جذرية تعيد اليها كرامتها واحترامها ودورها الطليعي الذي يتناسب مع مكانتها وعظمة شعبها، وارثها الحضاري الضخم، ومن المؤلم اننا لا نري اي مؤشرات ايجابية في هذا المضمار طالما ان هناك من يربط كرامة مصر وسمعتها في برنامج عن بائعات هوي مزورات تقدمه قناة تلفزيونية سعودية.