ليس من المؤكد أن المصادفة فقط هي التي حدت بالرئيس بوتين إلى أن يشن هجوماً حاداً على السياسة الخارجية الأمريكية في العاشر من فبراير/شباط الجاري من على منصة مؤتمر ميونيخ الثالث والأربعين للسياسة الأمنية، قبل ان يتوجه في اليوم التالي إلى المملكة العربية السعودية كمحطة أولى في جولة شرق أوسطية له شملت قطر والأردن. على الأرجح ان التوقيت كان في حسابات الرجل الذي يسعى لإعادة بلاده، التي لطالما كانت قوة عظمى في تاريخها، إلى المركز الذي تستحقه في قمة نظام دولي متعدد القطبية.
كانت الزيارة تاريخية بكل المعايير والمقاييس لاسيما وأنها الأولى لمسؤول روسي رفيع المستوى منذ عقود عديدة. وللتذكير كان ستالين قد أغلق سفارة بلاده في الرياض عام 1938 قبل ان تجري محاولات عديدة لإعادة العلاقات بين البلدين، آخرها في الثمانينات، باءت بالفشل. وكان ينبغي الانتظار حتى سبتمبر/ أيلول 1990 في ذروة الأزمة الناتجة عن الغزو العراقي للكويت حتى يتمكن البلدان من الاتفاق. وبعدها بثلاث عشرة سنة بالتمام والكمال (سبتمبر/ أيلول 2003) توجه الملك عبدالله وكان وقتها لا يزال ولياً للعهد إلى موسكو ليغدو أول مسؤول سعودي رفيع المستوى يزورها منذ عام 1932 عندما زارها الأمير فيصل الذي صار ملكاً في ما بعد.
في الرياض سمع بوتين واسمع مضيفيه كلاماً فيه الكثير من المودة والوعود بشراكة استراتيجية بين البلدين. ولم يتوقف الأمر عند حد الكلمات والمجاملات إذ انخرط عشرات رجال الأعمال وقادة الشركات الروسية العملاقة الذين رافقوا بوتين في التفاوض مع مضيفيهم. وقد وقع البلدان اتفاقات عديدة سيتم بمقتضى احدها اطلاق ستة أقمار اصطناعية سعودية الصنع للاتصالات والاستشعار. وعرض بوتين التعاون في مجال الطاقة النووية بعدما أقرت دول مجلس التعاون الخليجي، في نهاية العام الماضي، إنشاء برنامج نووي سلمي.
ومن المعروف أن روسيا هي المصدر الثاني للنفط في العالم بعد السعودية وبإمكان التعاون بين البلدين في هذا المجال أن يمارس تأثيراً كبيراً في السوق العالمي لهذه المادة الحيوية، وأن يقوي موقع البلدين في هذه السوق. أكثر من ذلك فقد جدد بوتين، من الدوحة، العرض بإنشاء منظمة لمنتجي الغاز على غرار اوبيك. ومن تابع الضغوط التي مارستها موسكو أخيراً على بعض الدول القريبة منها في موضوع النفط والغاز يدرك مغزى العرضين الروسيين في سياق السعي إلى تشكيل وقيادة تحالف دولي يسيطر على قطاع الطاقة الاستراتيجي في العالم.
لقاءات بوتين بزعماء السعودية وقطر والأردن والسلطة الفلسطينية تمخضت عن نتائج ايجابية، وأكدت مجددا على تطابق وجهات النظر العربية والروسية حيال المشكلة الفلسطينية وضرورة حلها في أسرع وقت وعن طريق مؤتمر دولي. وعلى خلفية فشل أمريكي في الشرق الأوسط، فإن مراقبين وسياسيين كثيرين بدأوا يتوقعون “عودة” روسيا إلى هذه المنطقة التي غادرتها عندما تفكك الاتحاد السوفييتي عام ،1991 وتركتها ساحة مفتوحة أمام الأطماع الأمريكية.
هذا الكلام عن عودة روسيا إلى الساحة الدولية، ربما انطلاقاً من الشرق الأوسط، بدأ منذ عام تقريباً وإن ازداد منسوبه بفعل زيارة بوتين التاريخية لشبه الجزيرة العربية. فمنذ أن شرعت إدارة بوش في تهديد إيران بالعقوبات وبالضربة العسكرية بسبب تخصيبها لليورانيوم، وجدت الدبلوماسية الروسية الفرصة لتلعب دورا جعل منها الرقم الصعب في هذا الملف. وفي العام الماضي في حين قاطع الغرب الحكومة الفلسطينية التي شكلتها حركة حماس إثر انتخابات جرت بطريقة شهد المراقبون على ديمقراطيتها ونزاهتها، استقبل بوتين بحفاوة ملحوظة ممثلي هذه الحركة (المصنفة إرهابية في أمريكا وأوروبا) في الكرملين. وفي حين تتعرض سوريا لحصار وتهديد غربيين تستمر روسيا في بيعها السلاح وتستقبل رئيسها في الكرملين وتقيم معها أوثق العلاقات. أكثر من ذلك فإن الأسلحة التي مكنت حزب الله من إيقاع “مجازر” بدبابات المريكافا “الإسرائيلية” هي مضادات روسية للدروع وصلت إلى الحزب عن طريق سوريا وإيران. وفي ملف المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة الذين اغتالوا الرئيس رفيق الحريري فان الحضور الروسي يبدو ملحوظا ولا ينفك يذّكر بنفسه كما فعل أخيراً عندما طالب مجلس الأمن بأن يوعز إلى المحقق البلجيكي سيرج براميرتس كي يكشف عن هوية الدول العشر التي يقول تقريره الأخير إنها رفضت التعاون مع التحقيق. وسعياً وراء المحكمة أو منعا لها “يحج” مسؤولون لبنانيون وسوريون وعرب إلى موسكو التي فرضت تعديلات كثيرة على مسودة القانون الأساسي للمحكمة قبل ان يوقع عليها مجلس الأمن.
هذا الحراك الروسي الذي في جله يسعى إلى موازنة النفوذ الأمريكي في غير مجال ليس مفاجئاً. المفاجىء في الأمر هو ان يجرؤ الروس، رغم الخلل الكبير في ميزان القوى، على الذهاب إلى معقل النفوذ الأمريكي التقليدي في أكثر المناطق اهمية بالنسبة للأمريكيين الخليج العربي بعد ان ثبتوا أقدامهم في إيران. ولاشك في أن الرئيس بوتين تلقى إشارات مشجعة من مضيفيه الذين يحتاجون إلى تهدئة الإسلاميين الناقمين على واشنطن، والحصول على هامش للمناورة في حال تزايدت الضغوط الأمريكية عليهم كما حصل غداة اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 عندما دعا بعض المحافظين الجدد إلى تغيير أنظمة عربية تغاضت عن صعود الإسلاميين.
رغم ذلك يصعب توقع تغير ملموس في المشهد الاستراتيجي الشرق أوسطي ناتج عن إعادة التموضع الروسية فيه. مثل هذا التغير ضروري لمصلحة شعوب المنطقة ومن أجل السلام في الشرق الأوسط بل وفي العالم، لكن المشكلة ان شروط مثل هذا التغير ليست متوفرة في هذه اللحظة رغم كل التعثر الأمريكي، فروسيا لم تعد تملك من مقومات القوة العظمى إلا السلاح النووي والمقعد الدائم في مجلس الأمن، وهذا يمنحها امكانية ممارسة ازعاج الأمريكيين وإعاقة مخططاتهم وليس القدرة على إحداث انقلاب أو تغيير ملموس في ميزان القوى الشرق أوسطي.
ثم هل كانت روسيا فعلاً في المنطقة وغابت عنها حتى يمكن الكلام عن”عودة” إليها؟ حتى الاتحاد السوفييتي نفسه عندما كان في اوج قوته اتسمت علاقاته إما بالقطيعة أو الفتور مع الدول العربية الموالية للغرب وإما بالهشاشة وضعف الثقة مع تلك التي وقع معها معاهدات اتسمت بالكثير من الفولكلورية والسطحية. هذه كانت حال العلاقات مع أنظمة سوريا والعراق وليبيا وغيرها، أما الرئيس السادات فقد قرر ذات مرة، هكذا بين عشية وضحاها، فك تحالفه مع موسكو وطرد الخبراء السوفييت والارتماء في الفلك الأمريكي منهياً علاقة استراتيجية بين بلاده والاتحاد السوفييتي عمرها عشرون عاماً ونيف.