تصريحات فلاديمير بوتين مؤخرا امام مؤتمر الامن الدولي الذي استضافته ميونخ والانتقادات اللاذعة لسياسة أمريكا الخارجية التي تضمنها خطابه استدعت من جديد رياح الحرب الباردة خاصة بعد ان انبري "روبرت جيتس" وزير الدفاع الامريكي بالرد عليه.. اما نقطة الخلاف الرئيسية اليوم بينهما فتنحصر في الاسلوب الذي يؤثره كل منهما، فعلي حين يفضل بوتين التعامل عبر الدبلوماسية فان امريكا تحبذ استخدام القوة العسكرية. التصدي لأمريكا وكأنما الحرب الباردة لم تنته ولم تطوي صفحتها الي الابد.. وما فعله بوتين من خلال خطابه انه حاول ان يظهر مدي تماسك الوحدة الداخلية اليوم في بلاده وهو امر استدعي منه ان يكون حادا وقاسيا تجاه القضايا الخارجية خاصة تجاه ما تقوم به امريكا.. بدا بوتين حريصا علي مصلحة بلاده ولهذا رأي من الضروري التصدي لامريكا التي تريد الاستحواذ علي كل شيء.. ومن ثم بدا حريصا علي تعزيز دور روسيا ومحاولة استعادة النفوذ الذي فقدته لاسيما في عهد "يلتسن" الذي دان بالتبعية لامريكا. فرضية الأحادية القطبية لقد رأينا كيف ان روسيا اليوم تحاول استخدام ورقة الطاقة كي يتسني لها الحصول علي مكاسب سياسية وجاءت انتقادات بوتين لتعكس معارضته لفرضية الاحادية القطبية التي تحتكرها أمريكا فبوتين يري ضرورة ان تكون هناك تعددية قطبية بحيث لا تنفرد أمريكا بالعالم وبالتالي أراد بتصريحاته الاخيرة اعادة دور روسيا كقوة ريادية لها ثقلها في المنطقة حيث العراق وإيران وقوة البترول والغاز الطبيعي وعلاقاتها مع دول مناهضة لامريكا مثل ايران وسوريا وحرصها علي بيع اسلحة حديثة لهما.. وفي الوقت نفسه وجدناه حريصا علي القيام بجولة عربية زار خلالها السعودية وقطر والاردن وهي دول حليفة لامريكا وكأنما أراد ان يثبت بذلك بان امريكا ليست وحدها في الساحة. العودة إلي المنطقة روسيا تشعر اليوم بثقة زائدة، فزيادة اسعار البترول والغاز عزز من قدرتها المالية كما ان الاخفاقات الامريكية في افغانستان والعراق وتراجع مصداقية ادارة بوش في المنطقة اتاح لروسيا من جديد المجال لدخول المنطقة وملء الفراغ الذي احدثته نكسات امريكا المتتالية، فكأن روسيا اليوم تحاول الاستفادة من مأزق امريكا في المنطقة لكي تعود الي وضع سابق كانت تحتله. كسر الاحتكار ولاشك ان انتقادات بوتين اللاذعة التي اطلقها ضد السياسة الامريكية - التي سبقت جولته الاخيرة في الشرق الاوسط - كانت أكثر الانتقادات قسوة وجرأة ولعل من بين الامور التي اقلقت بوتين وحملته علي مهاجمة امريكا هو منظومة الدفاع الصاروخي التي تعتزم امريكا وضعها في تشيكيا وبولندا حيث يعتبرها بوتين موجهة ضد روسيا ويرد التساؤل هل تملك روسيا ما يكفي لكسر الاحتكار الامريكي للعالم؟ روسيا يدفعها طموح ان تسهم في بناء نظام امني جماعي في الخليج وهي تريد من خلال ذلك ان تعود الي منطقة الشرق الاوسط بشكل قوي وثابت بحيث يكون لها موطئ قدم. دور ملموس لروسيا خطاب بوتين وكلماته تشي بان الرجل يعيش مرحلة يسترجع معها الماضي وكأنما أراد ان يحقق انجازا لبلاده قبل عام من تركه لمنصبه، ولا يمكن للمرء اليوم ان يغمطه حقه، ففي عهده حظيت روسيا باستقرار اكثر وبوضع اقتصادي افضل.. وبالنسبة للسياسة الخارجية فلقد لعبت روسيا دورا ملموسا في اللجنة الرباعية، كما ان الاسلحة الروسية هي التي مكنت حزب الله من هزيمة اسرائيل في لبنان، ولا ننسي دور روسيا في ايران فهي مازالت اللاعب الرئيسي هناك حتي الان خاصة فيما يتعلق بملف ايران النووي، وفي زيارته الاخيرة للسعودية تم الاتفاق علي صفقة اسلحة وكأنه يقول ليس المطلوب الاعتماد علي امريكا فقط وانما يجب ان تكون هناك خيارات اخري. رسالة بوتين لأمريكا لقد أثبت بوتين باطلالته الجديدة ولغته الحادة ضد امريكا بان روسيا قد تكون مؤهلة لدور جديد في عالم اليوم وانها من اجل ذلك شرعت في اعادة حساباتها بحيث لا تصبح امريكا هي اللاعب الوحيد في العالم، كان بوتين علي حق ولربما اراد بكلماته الزاعقة الحادة ان تشكل افاقة لامريكا الموغلة في الغرور والاستعلاء الذي حدا ب"تشيني" الي ان يقول: "روسيا ليست شريكا وعليها ممارسة القيم الغربية كي نعاملها كشريك!! ورغم ما يؤكده الكثيرون بأن امريكا ستبقي اللاعب الرئيسي علي الاقل في المنطقة عامة والخليج خاصة فان كلمات بوتين جاءت كمحاولة جادة لاستدعاء الماضي التليد ولتؤكد اليوم بانه جري بأمريكا ان تأخذ روسيا علي محمل الجد.. وهذا هو منطوق الرسالة الذي لابد ان يكون قد وصل بشكل واضح الي ادارة بوش.