هذه دراسة غير منشورة وغير مكتملة بعد لمجدي حسين رئيس حزب الاستقلال ورئيس تحرير جريدة الشعب الذي يقبع الآن مغيبا خلف أسوار السجون بأحكام ظالمة وغير دستورية.. لقد تم ترتيب الجزء المكتوب من الدراسة في حلقات وسننشر تباعا الحلقات الموجودة لدينا لحين خروجه من محبسه وإكمال عطائه الفكري والسياسي والذي نأمل أن يكون قريبا بإذن الله.. كثيرا ما يركز المفسرون والباحثون الاسلاميون على إعجاز القرآن الكريم في مجال البلاغة والعلوم الطبيعية، وفي حدود علمي لم يتحدث أحد عن الاعجاز القرآني في مجال السياسة والجغرافيا والجغرافيا السياسية والتاريخ والاستراتيجية. وهذه هي مجالات هذه الدراسة ان شاء الله. ولكن الدراسة لا تقتصر على اكتشاف ما هو عجيب ومعجز مما ورد في القرآن الكريم في هذه المجالات، ولكن تهتم الدراسة أساساً بكيفية الاستفادة من الرؤية القرآنية في إدارة شئون حياتنا اليومية من الآن، ووسائل وطرق إقامة الدولة الاسلامية المعاصرة. وهذه الدراسة تبدأ بجغرافية القرآن الكريم ولكنها تجد نفسها تنتقل إجباريا إلى علم حديث اسمه (الجغرافيا السياسية geopolitics) ثم تجد الدراسة نفسها إجباريا تنتقل إلى التاريخ كعلم وفلسفة ووقائع عالمية وسنن ومن ثم تجد الدراسة نفسها إجباريا تنتقل إلى علم "الاستراتيجية" والاستراتيجية مصطلح غربي يعني في تقديري الخطة الشاملة للصراع الاقليمي والعالمي، الخطة الشاملة للانتصار في هذا الصراع. الاستراتيجية كانت تعني خطة الصراع العسكري (وفقاً للغة اللاتينية) ولكنها تطورت لتشمل مختلف جوانب الصراع الاقتصادي- السياسي- الثقافي- الحضاري.. وقبل أن يصاب القارئ العزيز بالحيرة لابد أن أدخل في الموضوع مباشرة حتى يتضح ما هو المقصود. نحن المؤمنين بالله المسلمين نؤمن بأن القرآن الكريم كتاب منزل من عند الله سبحانه وتعالى، وماورد فيه هو كلام الله. ولذلك فإننا نأخذ كل ما ورد فيه باعتبارها أمورا ملزمة. وهذا أمر سهل عندما يتعلق الأمر بالقوانين والشرائع كالمواريث والحدود فهي مكتوبة بشكل قطعي لا تحتمل التأويل إلا في تفاصيل التنفيذ. ولكن هناك أمور تحتاج إلى تحليل مركب وفقا لمنهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، حيث يتم جمع كل الآيات المتعلقة بموضوع معين والقيام بعملية تفسيرها، وتركيبها، مثل ملامح وقواعد النظام السياسي في الاسلام، أو ملامح وقواعد النظام الاقتصادي في الاسلام...الخ. ولكن موضوعنا أكثر تركيباً من ذلك حيث لا يصرح القرآن الكريم بالنتائج التي وصلنا إليها، رغم أنها نتائج حتمية لا يختلف حولها عاقلان من المؤمنين طبعا بقدسية هذا الكتاب. هذا الكتاب منزل من عند الله، نأخذ كل ما ورد فيه، ولكن يجب أن نفكر مليا في الأمور والوقائع التي استبعدها القرآن أي استبعدها الله عز وجل، أي القصد الالهي في هذا الاستبعاد. موضوعنا هو الجغرافية القرآنية، أي كل ما ورد في القرآن من أسماء ومواقع وبلاد ومدن ومساجد. وتقوم عملية الحصر الجغرافي على ما ورد صراحة في القرآن الكريم وليس من خلال التفاسير. لأن القرآن يرسل إلينا رسائل شتى، ونحن نريد أن نقف أمام هذه الرسالة الجغرافية. أي عبقرية المكان ودور شعوب معينة في تاريخ العالم. والأمانة العلمية تقتضي أن نشير إلى أن د.عبد العزيز كامل وزير الأوقاف في عهد جمال عبد الناصر (وقد كان منتميا للاخوان المسلمين من قبل) صاحب الدراسة الوحيدة في هذا المجال، وان كانت دراسة مختصرة وشملت المرحلة الأولى مما قمنا به من بعد في مراحل تالية. وهي مرحلة الرصد والحصر الجغرافي. ولكن هذه الدراسة التي بين يديك تحاول أن تبني نظرية متكاملة من هذا الرصد الجغرافي. جغرافية القرآن الكريم: سنجد الأسماء (أسماء الأماكن) التي ذكرت في القرآن الكريم محصورة جغرافياً فيما نسميه الجانب الآسيوي من الوطن العربي+ مصر وهو أمر لا جدال فيه ولا يمكن الاختلاف حوله. وهو ما يمكن أن نسميه المستطيل القرآني أو ما يسميه العالم الآن خاصة العالم الغربي (الشرق الأوسط). سنرى أن كل مسرح الأحداث القرآني، كل قصص الأنبياء وغير الأنبياء، كل الأماكن، داخل هذه الخريطة القرآنية. ثم سنكشف ان هذا المسرح (أو الخريطة) هو هو..أو هي هي..منذ فجر التاريخ وحتى الآن 2017 لا تزال هي مسرح الحداث الأساسية في العالم أو محور الصراع العالمي، وتسمى (الشرق الأوسط). بينما القرآن الكريم لم يسم هذه المنطقة باسم معين ولكنه كان ملتزما بحدودها. والقرآن ليس كتاب تاريخ، انه كتاب هداية، ولكن عندما يستأثر بمساحة محدودة من الكرة الأرضية ويستبعد معظمها فان الأمر لابد وان يحتاج إلى وقفة تأمل. ورغم أن القرآن أكد في أكثر من موضع ان كل أمة أرسل اليها رسول (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) إلا أن كل الرسل والأنبياء المذكورين بالاسم وبالوقائع هم على وجه الحصر في هذا المستطيل. والقرآن الكريم أبعد ما يكون عن العنصرية والأدلة على ذلك كثيرة فأمة الاسلام تفضل الأمم الأخرى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس للانتماء إلى أي عرق (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). نحن هنا أمام إشارة إلى المكان، وان قيادة العالم الاسلامي ستكون لهذا المكان لأسباب عدة (سنوضحها)، وان العرب لهم محل القيادة في الاسلام ولكن العربية- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- اللسان. ولذلك قاد أمة الاسلام من الفرس ووسط آسيا فقهاء وأئمة الحديث: النيسابوري- البخاري- الترمزي- الرازي- الطبري- الغزالي- الخرساني- الشهرستاني- الكيلاني- الاسترابادي- الخوارزمي- الجرجاني – الأصفهاني. نحن هنا أمام اشارة صريحة في أن هذا المستطيل القرآني (الشرق الأوسط) هو مركز قيادة العالم ولكن عندما تكون هذه القيادة اسلامية فهي لابد أن تكون عربية اللسان. وهذا أيضا ما أكده القرآن مرارا. (وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا..). نحن هنا نتحدث عن أهمية الدور لهذا الوضع أو عبقرية المكان بلغة عصرنا حسب تعبير د.جمال حمدان وإن كان يقصد به مصر وحدها. لذلك لم يكن من قبيل السهو (حاشا لله) عدم ذكر اسم أي نبي من بلد آسيوي خارج الوطن العربي أو بلد أفريقي سوى مصر، وعدم ذكر اسم أي نبي أوروبي أو أمريكي لاتيني أو شمالي!! وسنقول أسباب ذلك- وفقا لما نتصور والذي نرجو أن يكون صحيحا. ولكن الوقائع لا خلاف عليها.. وسنواصل تصورنا لهذه الحكمة الالهية، ولكن لابد أن ننهي عرض الوقائع التي يعرفها قارئ القرآن ولكنه غالبا لم يفكر فيها.. ولماذا جاءت هكذا؟ رصد الأماكن: (1) أماكن ومدن في الجزيرة العربية 59 مرة..(تقريبا) {مكة- المدينة- البيت الحرام- عرفات- المشعر الحرام-الصفا والمروة- بدر- حنين...الخ} (2) مصر مع وضع سيناء بها 14 مرة (3) الشام 13 مرة (4) اليمن (سبأ) مرتان (5) العراق يقول د. عبد العزيز كامل في دراسته: ان 1200 كيلومتر تفصل بين القاهرةومكة وأن 1200 كيلومتر تفصل بين بغدادومكة وان 1200 كيلومتر تفصل بين صنعاءومكة أي أن مكة واسطة العقد في هذا المستطيل. ذكر القرآن اسم 25 نبياً وأكد ان هناك أنبياء آخرين لم يذكرهم وسنجد الرسالات الأساسية في هذا المستطيل القرآني.. الذي يشمل بخريطة الآن: المشرق العربي (سوريا- العراق- فلسطين- لبنان- الأردن- الجزيرة العربية- اليمن)+ مصر ونبدأ بالرسل الذين حملوا رسالات مكتوبة.. (1) موسى- التوراة- وكانت حركته بين مصر وبادية الشام وسيناء ووفقاً لنص القرآن فان موسى لم يدخل فلسطين ولكن كان على أطرافها. (2) المسيح عيسى بن مريم: ولد في فلسطين وحركته في الشام، ودخوله مصر طفلاً غير وارد في القصة القرآنية. وهذا لا يؤثر على أن حركته ظلت في المستطيل القرآني إن كانت الرواية المسيحية صحيحة. وأنزل معه الانجيل. (3) سيدنا ابراهيم ورحلته من العراق (وإن لم تذكر صراحة في القرآن) ثم إلى الشام (الشام تشمل الأردنوسورياوفلسطينولبنان) وحركته كانت أساساً في الأردنوفلسطين ثم الجزيرة العربية. والقرآن لم يشر إلى زيارته لمصر. وابراهيم أنزلت معه صحف (صحف ابراهيم وموسى) (4) سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولد وعاش في جزيرة العرب وزار الشام مرتين. (والنبي الخامس هو داود وسيأتي ذكره) (5) لوط ( ونجيناه- أي ابراهيم- ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) وهو وصف للشام ولوط غالبا كان في الضفة الغربية لنهر الأردن. ولاحظوا أن الملائكة زاروا ابراهيم أولا وهم في طريقهم لتدمير قوم لوط (كان المكان مجاورا). (6) هارون كان مع سيدنا موسى أي بين مصر وبادية الشام وسيناء. (7) هود وقومه عاد أقوى بطون الشعوب السامية ويشكلون الطبقة الأولى من طبقات العرب البائدة أما منازلهم فكانت بوادي الأحقاف والرأي الغالب أنها هي ما يسمى الآن الربع الخالي في جنوب شرقي الجزيرة العربية. واتفق الثقات من أعلام المسلمين على أن الأحقاف بأرض اليمن الحالية أي في واد بين عُمان وأرض مهرة. أو (عن ابن عباس وعن ابن خلدون) بين عمان وحضر موت. (8) ثمود أهل صالح وهم يشكلون الطبقة الأولى من طبقات العرب البائدة مثل عاد، وقد ورد ذكرهم في نقوش الملك سرجون الآشوري سنة 715 ق.م ضمن الشعوب التي أخضعها هذا الملك في شمال الجزيرة العربية. أما مساكنهم فإنها كانت بالحجر المعروفة بمدائن صالح في وادي القرى. أي بين الشام والحجاز بجوار ساحل البحر الأحمر، وبيوتهم منحوتة في الجبال.(هم أيضا أصحاب الحجر). (9) اسحاق ابن ابراهيم- ولد في الشام (ووهبنا له اسحق ويعقوب). (10) يعقوب ابن اسحاق: في بادية الشام (جاء بكم من البدو- سورة يوسف) (11) يوسف ابن يعقوب- بين بادية الشام ومصر (12) شعيب في أهل مدين- بادية الشام. (13) داود هو النبي الخامس الذي ذكر القرآن انه نزل معه كتاب (وآتينا داود زابورا)- ونجد قصته تبدأ في نهاية قصة طالوت وجالوت على حدود فلسطين بعد أن قتل جالوت (وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء). والمفترض انه أقام دولته في فلسطين.(14) ويؤكد ذلك أن ابنه سليمان النبي ورث منه حكم فلسطين (الشام) ووصفها القرآن بأنها الأراضي التي باركنا حولها أو فيها. ويقول قائل كيف تأكدت أن هذه الصفة للشام أو فلسطين (مركز الشام)، طبعا المفسرون أجمعوا على ذلك ولكن القرآن الذي نعتمده وحده كمرجع قال في مفتتح سورة الاسراء (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ). وبالفعل فان فلسطين توصف بأنها عش الأنبياء. ثم (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) الأنبياء 81. (15) اسماعيل عليه أفضل السلام تربى حول المسجد الحرام وعاش في جزيرة العرب (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ابراهيم 37. (16) زكريا كان في فلسطين ويؤكد ذلك ما جاء في سورة مريم وهو يدعو الله كي يهبه غلاما زكيا (يرثني ويرث آل يعقوب) ومعروف أن يعقوب كان في بادية الشام. وحسب النص القرآني فإن أم مريم عندما نذرت ما في بطنها لله ثم جاءت أنثى (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران 37) إذن زكريا في قلب قصة مريم والمسيح على أرض فلسطين بل وكان كفيلها بنص القرآن. (17) يحيى: ثم استجاب الله لدعاء زكريا فكان ابنه يحيى نبياً في فلسطين أيضا (أي في المستطيل القرآني). (18) ادريس: لا يوجد مكان واضح لادريس، ولكن كثيرا من الروايات في التفاسير تربطه بمصر. ولكننا في هذه الدراسة نقيمها على نصوص القرآن حتى لا يصبح الأمر محلاً لأي جدل، وحتى ندرك الرسالة الربانية المباشرة من هذا التحديد الجغرافي. هنا نجد القرآن ربط ادريس بذرية اسرائيل (أي يعقوب). (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) ***************** وبعد ذلك يبقى اليسع، يونس، ذا الكفل، آدم- نوح- أيوب- إلياس. (انتظر الحلقة القادمة ان شاء الله). وهؤلاء غير محددي المكان أي اننا لا نجد أي نبي مذكور في القرآن محدد له مكان غير المستطيل القرآني ومع ذلك فهناك بعض الروايات والعلامات ، نحن لا نحتاج إليها لأنه يكفينا عدم تحديد القرآن لمكانهم ولكن إذا كانت الروايات المتوفرة كلها تدور في نفس المكان (المستطيل) فلا مانع من ذكرها على سبيل التدليل الاضافي، والمرجح لأسباب أخرى سنأتي لذكرها وعلى رأسها وجود المسجد الحرام (الكعبة المشرفة). المهم أن هذه هي الخطوة الاولى في رسم خريطة القرآن من خلال أماكن ولادة وحركة الرسل والأنبياء وكلها في المستطيل القرآني أو ما يسمى الشرق الأوسط (الوطن العربي الآسيوي+ مصر) واصبر وانتظر!! (نواصل)