شغل بوش العالم ولازال، بتعدد الاستراتيجيات لانقاذ مشروع الاحتلال من السقوط. وكلما اعلن عن واحدة زاد الطين بلة، سواء علي المستوي العسكري او السياسي. هل يحتاج الامر الي التفاصيل لاثبات هذه الحقيقة؟ ام يكفي لجوء بوش الي زيادة عدد القوات واستجداء الدعم من االقريب والبعيد لتحقيق الانتصار حتي وان كان محدودا؟. هل نزيد ونشير الي موت العملية السياسية وفشل كل المحاولات لبعث الروح فيها؟ ام نشير الي فشل مشاريع ما يسمي بالمصالحة الوطنية او الوفاق الوطني؟ وما دمنا نتحدث بالجملة، الا يستحق الاعلام الامريكي بكل جبروته نصيبه من الفشل، لعجزه عن تلميع وجه الاحتلال البشع وتزيين صورة بوش وانقاذ شعبيته من الانحطاط وتجنيبه دخول كتاب غينيس كأغبي رئيس عرفته امريكا؟ ثم لماذا الذهاب بعيدا، لماذا لا نسأل بوش عن الجديد في استراتيجيته الخائبة، اللهم الا تلك الزيادة في عديد القوات الذين سيدخلون النار بارجلهم. واذا تركنا بوش مشغولا بالاجابة وسألنا التاريخ، هل يوجد في صفحاته مثال عن نجاح مشروع احتلالي في ظل وجود مقاومة مسلحة قررت تحرير البلاد والعباد شبيهة بالمقاومة العراقية او اقل منها؟ نطرق هذا الباب مجددا ليس من اجل تأكيد الفشل المريع لاستراتيجيات بوش القديمة والجديدة، ولا الحديث عن اسبابه الظاهرة والمتمثلة بقوة المقاومة العراقية وبسالتها، وانما البحث عن الاسباب الاكثر قوة والتي لم تحظ بالاهتمام الكافي، او جري تجاهلها او الابتعاد عنها. والمقصود هنا استراتيجية المقاومة العراقية التي بفضلها هزم مشروع الاحتلال وهزمت معه تلك الاستراتيجيات المتعاقبة. ولعل منشأ هذا التوجه يعود الي حقيقة، كون الحروب مهما تعددت وتنوعت اشكالها، لايمكن كسبها دون استراتيجية واضحة وثابتة، ثم تأتي لاحقا العناصر الاخري مثل التكتيك لجهة تنفيذ العمليات في المعارك المختلفة، ثم التقدم العلمي الذي يحسم الكثير من المواقف واخيرا الخطة او مجموعة الخطط التي تتعلق بمجمل عملياتها وهي في حقيقة امرها توظيف للعناصر الثلاثة السابقة في زمان ومكان بعينهما. وكما يذكر خبراء حروب التحرير، فان استراتيجية المقاومة لابد لها وان تستند علي عناصر او مبادئ مكملة، تأتي في المقدمة منها العمل من خلال حزب او مجموعة احزاب او تجمعات عقائدية تتمتع بارادة صلبة لا تلين وايمان عميق بالتحرير، واللجوء الي الحرب الشعبية الطويلة الامد، بدل الحسم العسكري، لان ذلك يفوق قدرات المقاومة وكذلك المرحلية في الصراع والاعتماد علي التأييد الشعبي واخيرا العمل علي توفير دعم عالمي مناسب. يمكننا القول بان المعركة الدائرة علي ارض العراق هي معركة استراتيجيات، مثلما هي معركة سلاح ومقاتلين، علي الرغم من ان البعض يعتقد بان المقاومة الشعبية هي نوع من الدفاع التلقائي غير المنظم، يلجأ إليه الشعب عاطفيا لمقاومة قوات محتلة، ودون الحاجة الي تنظيمات سياسية معينة. ويترك لتطورها لاحقا اكتساب المبادئ الاخري في كل الاحوال. علي ان ما يعنينا في هذا المجال هو استراتيجية المقاومة بشقيها العسكري والسياسي والتي اثبتت صحتها علي ارض الواقع. في حين يدخل ما عداها تحت هذه المظلة. ففي الجانب الاول اعتمدت فصائل المقاومة علي الحرب الشعبية الطويلة الامد، علي الرغم من، ادراكها ضخامة المسؤولية كون الظروف العربية والعالمية علي المستوي الرسمي، لا تسير في صالحها كبقية المقاومات الاخري، الامر الذي يشكل خطورة علي ديمومتها، فلا معين عربيا ولا دوليا ولا اعتراف بها من قبل المنظمات والهيئات الدولية. بل علي العكس من ذلك لان الجميع قد برر وساهم او شارك كل حسب قدرته في احتلال العراق والاعتراف به وتكريسه. مما جعل هذه المقاومة تخوض تجربة غير مسبوقة تكون نبراسا ودرسا بليغا لكل شعوب الارض، عبر اثبات حقيقة مفادها ان الاعتماد علي الذات وتحقيق النصر هما امكانية قابلة للتحقيق. ولم يأت قرار المقاومة المسلحة من فراغ، فطبيعة الاحتلال وضخامة اهدافه والاصرار علي تحقيقها وغطرسة المحتل وعنجهيته واعتماده علي لغة القوة، قطع الطريق علي العراقيين في الاعتماد لتحرير العراق، علي الوسائل السلمية والديمقراطية، او اللجوء الي المنظمات العالمية كهيئة الاممالمتحدة او مجلس الامن او غيرها. وفي هذه الحرب الشعبية كان الشعار المركزي حرمان الغزاة من تحقيق النصر وانجاز اهدافه الغادرة كخطوة لازمة لهزيمته لاحقا. واسندت هذه المهمة في البداية الي الفصائل الفدائية المنظمة التي تعتمد علي الانسجام والانضباط وروح التضحية بين عناصرها. وكون هذه الفصائل الناشئة تفتقر الي الامكانات الكافية في السلاح والعتاد والمال والتموين اضافة الي المواقع الحصينة كالجبال والغابات او الاهوار او حتي الدفاعات الحصينة، لجأت الي الجماهير للحصول علي الحماية والدعم والمساندة، ثم انتقلت الي تسيسيها وتأطيرها الاجتماعي وكسب الشرعية من داخل وسطها الذي تحيا فيه. الأمر الذي فتح المجال امامها لتوسيع اطار الفصائل الفدائية الطليعية بحيث اصبحت قادرة علي حماية هذا الكيان الاجتماعي من أي إعتداء أو تهديد من قبل الغزاة. وعلي الرغم من خصوصية المقاومة العراقية والمميزات التي طبعت عملها وخصوصية الصراع وآليته واهدافه الا انها تشترك في السياق العام مع المقاومة الشعبية في البلدان الاخري مثل المقاومة الصينية ضد الغزاة اليابانيين، والسوفيتية ضد الألمان، والجزائرية، ضد الفرنسيين والفيتنامية ضد الأمريكيين، فليس غريبا والحالة هذه اندلاع المقاومة العراقية ضد الغزاة وتهيئة مستلزماتها بالوسائل المتاحة وبما يكفل لها الانتصار الاكيد. وكان من بين ابرز مفاهيمها هو ان النصر الحاسم لن يأتي دفعة واحدة وانما من خلال تحقيق الاف من الانتصارات الصغيرة. فالمقاومة الشعبية هي حرب السياسة في مواجهة القوة، وحرب الأضعف في مواجهة الأقوي. ومن اجل هذا لجأت فصائل المقاومة الي اطالة امد الحرب حتي اذا ادي ذلك إلي التراجع من هذا الموقع او ذاك إذ لا يهم هذا التراجع المكاني مادامت الرقعة السياسية تزداد يوما بعد يوم. ولإطالة أمد الحرب، انتهجت المقاومة عقيدة الحركية من الناحية العسكرية، وتعني هذه العقيدة الديناميكية الدائمة، فضلا عن الفعالية والمبادرة وسرعة اتخاذ القرار في مواجهة الأوضاع المتغيرة. بحيث تظل الحرب سائرة إلي الأمام دوما. فعقيدة الحركية واستمراريتها تحمي رجال المقاومة من الفتور وفقدان الحماسة الامر الذي يؤدي حتما الي زيادة عدد المقاتلين ويضاعف من قوتهم كل يوم. في حين تولد هذه الحركية واطالة امد الحرب حالة اليأس لدي الغزاة جراء قناعاتهم المسبقة بالنصر الحاسم والسريع. فضلا عن ذلك فان المقاومة العراقية قد اولت اهتماما بالغا لعنصر الالتزام والانضباط والسرية اذ بدونه، لن تستطيع هذه الفصائل الزام المقاتلين وكبح جماحهم، وتقديم المعاونة لمن يحتاج إليها من تشكيلاتها المنتشرة هنا وهناك للوصول الي التنسيق المشترك لعملياتها العسكرية وهي بهذه الاساليب قد افشلت استراتيجية بوش بجانبها العسكري. اما الجانب السياسي فقد كان محط اهتمام كبير من قبل المقاومة العراقية حيث سارت به وفق القوانين ذاتها التي انتهجتها جميع المقاومات وفي مختلف البلدان، حيث رهنت تطور البرنامج السياسي وآفاقه المستقبلية بتطور الصراع علي ارض المعركة لينضج لاحقا عبر موجة من التعبئة الجماهيرية والمجابهات مع الغزاة التي من شأنها ان توضح اكثر العلاقة بين قوي المجتمع الوطنية داخل حركة التحرير. وهذا لا يعني بان فصائل المقاومة العراقية لم تمتلك الرؤية الواضحة لمفاصله الرئيسية والمتمثلة بالتحرير الكامل وبناء العراق الديمقراطي الموحد. بل ان بعض فصائل المقاومة وبعض الاحزاب الوطنية المناهضة للاحتلال قد انجزت خطوات هامة علي هذا الطريق حيث اقامت الجبهة الوطنية والقومية والاسلامية كخطوة اولي علي طريق اقامة الجبهة العريضة، التي يراد لها ان تشمل جميع القوي المسلحة والقوي السياسية المناهضة للاحتلال، ايمانا منها وليس ارضاء للاخرين، بان انجاز مثل هذه الخطوة الاولية، من شأنها ان تجسر العلاقة مع الجماهير وتوسع دائرة التأييد الشعبي للمقاومة، كونه يمثل الحليف الرئيسي للمقاتلين، وقد اجمع الخبراء في هذا الصدد، علي ان اساس هذا التوجه يحقق أمرين متلازمين : أولهما، احتياج المقاتلين لمثل هذا التأييد لتعويض التفوق المادي المعادي ويوفر في نفس الوقت إمكانية النمو والتخفي بين الجماهير، والحصول منهم علي المؤن اللازمة للاستمرار. وثانيهما، ان المقاومة الشعبية تعتبر حربا سياسية يسعي بها رجالها لتنفيذ برنامجها السياسي المتكامل، وكما هو معروف فان جميع البرامج السياسية تحتاج بجوار القيادة والحزب السياسي إلي قاعدة شعبية. يحق للبعض ان يتهمنا بتبسيط الامور وخاصة بالنسبة لبعض المثقفين، الذين يكرهون شيئا اسمه القتال والمقاومة المسلحة، ويفتنهم العمل السياسي ويضعونه في مصاف العمل المسلح، بل ويذهبون ابعد من ذلك ويحكمون علي المقاومة المسلحة بالفشل ان هي لم تف هذا الجانب حقه وبكل تفاصيله. لكن هذا البعض نسي او تناسي رابطة الدم التي جمعت فصائل المقاومة، وهي اقوي من اي برنامج سياسي كتب علي الورق وسرعان ما يجري التخلي عنه في اغلب الاحيان. نقول هذا دون ان نستهين بهذا الجانب ولكننا لا نبالغ به الي تلك الدرجة. فالفرنسيون مثلا لم يشترطوا للانخراط في صفوف مقاومة النازية، ان يكون الكتاب السياسي في يمين المقاتل والبندقية في يساره، ومثلهم اكثر حركات التحرر، رغم ذلك فان لكل فصيل عراقي مقاوم برنامجه السياسي المعلن والذي يتفق فيه مع برنامج الفصائل الاخري علي القاسم المشترك الاعظم. والذي سيمهد الطريق امام الجهود المبذولة لصياغة برنامج سياسي موحد. وما يهمنا في هذه المرحلة والصراع بلغ اشده ان الكل متفق علي الخط العام لهذا البرنامج وهو كما ذكرنا التحرير الكامل وبناء العراق الديمقراطي الموحد. ناهيك عن التقاء العديد من فصائل المقاومة الرئيسية والعديد من الاحزاب الوطنية المناهضة للاحتلال، في جبهة وطنية وقومية واسلامية واحدة دون ان يتوقف العمل لاجل الوصول الي الهدف المنشود. ولاجل هذا تسعي اطراف الجبهة الي تحشيد قوي الشعب بكل مكوناته عبر توضيح الهدف المركزي للمقاومة وبذلك تكون نتائج استراتيجيتها هذه علي ارض الواقع، بشقيها المسلح والسياسي، راسخة ومتينة. وهذا ما حصل فعلا بدليل الانتصارات الباهرة التي تحققت ووضعت المحتل في مأزق لايمكنه الخروج منه الا باعلان الانسحاب الكامل وغير المشروط. تخوض المقاومة في هذه المرحلة بل وفي هذه الايام المعركة الفاصلة في بغداد وهي قد اعدت العدة لهذه المعركة الكبري وفق هذه الاستراتيجية الناجحة، في حين تخوض قوات الاحتلال معركتها وفق استراتيجية مخالفة تماما تنطوي علي جميع عناصر الفشل، هذا الفشل الذي نأمل في ان يكون نتيجة معركة بغداد القادمة، مما قد يجبر بوش علي التسليم بالهزيمة او توريثها الي الرئيس او الرئيسة القادمة.