ما لقيت باحثا له صلة بالقانون فى مصر إلا ووجدته مصدوما بسبب ما يجرى فى ساحة القضاء خصوصا ما تعلق منه بمخالفة الدستور وانتهاك نصوصه. وهو ما اعتبره أغلبهم جرأة تشوه قيم العدالة، وتترك آثارا سلبية غائرة يتطلب علاجها عقودا فى المستقبل. لديهم نماذج عدة يستشهدون بها، لكن أكثر ما أزعجهم وأدهشم كان القرار الأخير لمحكمة الأمور المستعجلة بوقف تنفيذ حكم مجلس الدولة الخاص ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية واعتبار ذلك الحكم منعدما. مصدر الانزعاج والدهشة أن ثمة نصا صريحا فى الدستور تمت مخالفته والعصف به، لأن محكمة القضاء المستعجل لا ولاية لها على الموضوع، وممنوعة بنص الدستور من التصدى لأحكام مجلس الدولة. وهو ما يعنى أن اختصاص تلك المحكمة الأولى منعدم ولم يكن لها أصلا أن تنظر فى القضية. المادة 190 من دستور عام 2014 نصت على أن: مجلس الدولة جهة قضائية مستقلة يختص دون غيره (ضع خطا تحت دون غيره) بالفصل فى المنازعات الإدارية ومنازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه..إلخ. وهذا النص الصريح الذى أضيف لأول مرة على الدستور يعنى أنه ليس للقضاء المستعجل أو أى قضاء آخر مدنى أو جنائى أو دستورى أن يفصل فى المنازعات الإدارية. كما يعنى أن الجهة الوحيدة التى لها ذلك هى المحكمة الإدارية العليا، وما جرى فى شأن إبطال حكم معاهدة ترسيم الحدود، لا يعد عدوانا على نص الدستور فحسب ولكنه نوع من اغتصاب سلطة المحكمة العليا المختصة. قال لى أحد أساتذة القانون إن طالب السنة الثانية بكلية الحقوق إذا ردد ما ذكرته محكمة القضاء المستعجل فى حيثياتها لاستحق الرسوب على الفور، وقال آخر إن ما جرى وضعنا أمام مفارقة مثيرة خلاصتها أن جهة منعدمة الولاية، أصدرت حكما منعدما قضى بانعدام حكم آخر، وهى حالة سوريالية غير مسبوقة. هذا الذى قرره الدستور الأخير فى المادة 190 جاء تقنينا لما استقر فى الفقه القانونى المعمول به، وهو ما أثبته الدكتور محمد على راتب الذى يوصف بأنه أبوالقضاء المستعجل، (له كتاب شهير فى الموضوع من جزأين). إذ قرر أن: قاضى الأمور المستعجلة يعتبر فرعا من فروع جهة القضاء العادى، ومن ثم فحين تخرج المنازعة الموضوعية عن ولاية هذه الجهة، فإن شقها الحاد المستعجل يخرج بالتالى عن اختصاصه، بحسبانه فرعا يتبع هذه الجهة وينبثق عنها. (ص 862 من الجزء الثانى لمؤلفه قضاء الأمور المستعجلة). إن قاضى محكمة الأمور المستعجلة الذى لم يكن له أن ينظر القضية أصلا لم يكتف بوقف تنفيذ حكم محكمة مجلس الدولة، لكنه حكم فى الموضوع واعتبر الاتفاقية من أعمال السيادة التى تتميز بعدم خضوعها لرقابة القضاء عموما. وهو الشق الذى فنده ورد عليه حكم القضاء الإدارى، الأمر الذى ما كان لجهة أن ترده سوى المحكمة الإدارية العليا. وبتصدى القاضى الجزئى للموضوع فإنه اغتصب حق الإدارية العليا فى نظره. يلفت النظر فى هذا الصدد إلى أن القاضى المذكور نسب إلى محكمة مجلس الدولة أنها تغولت على اختصاصات السلطة التنفيذية، فى حين أن ما أقدم عليه لم يتغول به فقط على حق الإدارية العليا، لكنه تغول على نص الدستور ذاته. فى رأى الأستاذ خالد على المحامى ورئيس هيئة الدفاع عن مصرية الجزيرتين أن ما جرى كان التفافا على الدستور لم يكترث بانتهاك المادة 190 أريد به أن ينتهى الأمر إلى ما وصلنا إليه، حيث يصدر حكمان متناقضان مسلط فيه قضاء على قضاء آخر، لكى يتحول الأمر فى النهاية إلى نزاع قانونى، يعرض على المحكمة الدستورية العليا، وبذلك ينسى الشق السياسى فى الموضوع ويصبح مجرد جدل فقهى حول أعمال السيادة وحدودها.