محافظ أسيوط يوجه بمتابعة أعمال صرف وتوزيع الأسمدة الزراعية على أرض الواقع    الري: 85% نسبة تنفيذ المسار الناقل لمياه الصرف الزراعي لمحطة الدلتا الجديدة    الزراعة تصدر 429 ترخيص تشغيل لأنشطة الإنتاج الحيواني والداجني خلال النصف الأول من نوفمبر    الأمم المتحدة: الذخائر غير المنفجرة تشكل تهديدا خطيرا لسكان غزة    مصدر سوري ينفي وقوع انفجار المزة بسبب خلل أثناء تدريب عسكري    روسيا: استسلام جماعى لمقاتلين فى القوات الأوكرانية فى مقاطعة خاركوف    مكالمة الوداع.. أسامة نبيه يروي تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة محمد صبري    بسبب تأشيرة.. استبعاد علي معلول من قائمة تونس لمواجهة البرازيل    اليوم.. الأهلي يبدأ استعداده لمواجهة شبيبة القبائل    القبض على المتهم بسرقة أبواب المقابر بمركز بلبيس في الشرقية    وصول طفل دمنهور إلى محكمة إيتاي البارود لحضور جلسة الاستئناف    اليوم..بدء نظر جلسة الاستئناف الخاصة بسائق التريلا المتسبب في حادث فتيات قرية السنابسة    مهرجان القاهرة السينمائي يعرض 32 فيلما اليوم    عمرو أديب: المتحف المصري الكبير ليس مكانا للرقص وجري العيال.. لو خلصت زيارتك امشي    أسيوط: الأتوبيس المتنقل لمكتبة مصر العامة ينشر المعرفة في القرى والمراكز    وزير الصحة يطلق الاستراتيجية الوطنية للصحة الرقمية 2025–2029 خلال فعاليات مؤتمر PHDC'25    لو مريض سكر.. كيف تنظم مواعيد دواءك ووجباتك؟    في ذكرى وفاته| محمود عبدالعزيز.. ملك الجواسيس    إلغاء رسوم الخدمات الإدارية لطلاب المعاهد الفنية المتوسطة (مستند)    أمريكي يعتدي على شباب مسلمين أثناء الصلاة في ولاية تكساس.. فيديو    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    أيمن عاشور: التحضير للمؤتمر الدولى للتعليم العالى فى القاهرة يناير المقبل    اللجنة المصرية بغزة: استجابة فورية لدعم مخيمات النزوح مع دخول الشتاء    مدفعية الاحتلال تقصف شرق مدينة غزة ومسيرة تطلق نيرانها شمال القطاع    إصابه 4 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ملاكي بطريق سفاجا-الغردقة    الطقس اليوم.. أمطار واضطراب بالملاحة على عدة مناطق    ترامب يلغي الرسوم الجمركية على اللحم البقري والقهوة والفواكه الاستوائية    تراجع فى بعض الأصناف....تعرف على اسعار الخضروات اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى اسواق المنيا    وزارة التخطيط تقدّم الدعم الفني واللوچستي لإتمام انتخابات نادي هليوبوليس الرياضي    الصحة العالمية: «الأرض في العناية المركزة».. وخبير يحذر من التزامن مع اجتماعات كوب 30    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    النادي المصري ينعى مشجعه معتز مشكاك    حارس لايبزيج: محمد صلاح أبرز لاعبي ليفربول في تاريخه الحديث.. والجماهير تعشقه لهذا السبب    جامعة القناة تقدم ندوة حول التوازن النفسي ومهارات التكيف مع المتغيرات بمدرسة الزهور الثانوية    آخر يوم.. فرص عمل جديدة في الأردن برواتب تصل إلى 33 ألف جنيه    الصين تحذّر رعاياها من السفر إلى اليابان وسط توتر بشأن تايوان    جامعة القاهرة تطلق قافلة تنموية لقرية أم خنان بالحوامدية    مصطفى كامل يكشف تطورات الحالة الصحية للفنان أحمد سعد    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    مواعيد مباريات اليوم السبت 15 نوفمبر 2025 والقنوات الناقلة    ضوابط تلقي التبرعات في الدعاية الانتخاببة وفقا لقانون مباشرة الحقوق السياسية    انتخابات النواب، تفاصيل مؤتمر جماهيري لدعم القائمة الوطنية بقطاع شرق الدلتا    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    محاكمة خادمة بتهمة سرقة مخدومتها بالنزهة.. اليوم    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 15 نوفمبر 2025    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    الاتجار في أدوية التأمين الصحي «جريمة»    نقيب المهن الموسيقية يطمئن جمهور أحمد سعد بعد تعرضه لحادث    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    أوروبا حاجة تكسف، المنتخبات المتأهلة لنهائيات كأس العالم 2026    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    عمرو عرفة يحتفل بزفاف ابنته بحضور ليلى علوي ومحمد ورامي إمام وحفيد الزعيم    بيان من مستشفى الحسينية المركزي بالشرقية للرد على مزاعم حالات الوفيات الجماعية    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصّديقُ العزيزُ مُصطَفَى لَبِيبٍ
نشر في الشعب يوم 28 - 04 - 2016

مِنْ بعيدٍ تعارفنَا. أنا في غُربتي الغربيّةِ وهو في غُربتِهِ الشّرقيّةِ. وفي ساحاتِ الفكرِ تقاربنَا، وفي ميادينِ الثّقافةِ تلاقينَا.
عِندما تتلاقَى الأرواحُ، وتنسجمُ النّفوسُ، تتصاغرُ قيمةُ الأجسادِ، وتتضاءلُ أهمّيّةُ اللِّقَاءَاتِ.
مرّتِ السّنونَ كلمحِ البصرِ، قبلَ أن يرحلَ عَنْ عالمنَا الصّديقُ العزيزُ، والعالمُ الجليلُ مصطفى لبيبٍ. وَبَعْدُ.
قصّةُ حياتِه تُذكّرني بقولٍ لصديقي العَالمِ محمّدِ منصورٍ، أستاذِ التّحكّمِ الآليّ في جَامعةِ زيورخَ، الّذي قالَ: «إِنّ مَن يبرعُ ويتفوّقُ في مجتمعٍ متخلّفٍ، فَهُو لَا محالةَ أقوى من الظّروفِ المحبطةِ المحيطةِ بِهِ».
كثيرًا ما تألّمتُ من الأحوالِ المزديّةِ الّتي يعيشُ فِيها عُلماؤنا، ويعاني منهَا بَاحثونَا في مصرِنا الحبيبةِ.
وَقَدِ اضطرّتنَا - نَحنُ المصريّينَ - الظّروفُ الصّعبةُ الّتي طالما ابتلانَا البارئُ تعالَى بهَا إلَى تَطويرِ فَنٍّ للتّأقّلمِ والتّعايشِ مَعَ أيّ ظروفٍ تواجهُنا، وأيّ محنٍ تقابلنَا.
ولنتأمّلْ مثلًا البعدَ السّياسيّ لقولِ المعتزلةِ إنّ مرتكبَ الكبيرةِ «في منزلةٍ بينَ المنزلتينِ». فهُم لو قالوا - مثلُ الخوارجِ - إنّ مرتَكِبَ الكبيرةِ كافرٌ، لكانَ هذا إعلانَ حربٍ على السّلطةِ، ببطشِهَا، وقمعِهَا، وخساستِهَا، وغرورِهَا.
والشّيءُ نفسُهُ ينطبقُ على كثيرٍ منَ العلماءِ الأبرارِ الّذينَ يدركونَ ظلمَ الحكّامِ، واستشراءَ الفسادِ في شتّى مستوياتِ المجتمعِ الّذي يعيشونَ فيهِ، لكنّهم مضطرّونَ إلى التّعايشِ معهُ، لكي يواصِلُوا بحوثَهم، ويداوِمُوا دراسَاتِهم، ويظلّوا على صِلَةٍ بالعلمِ الّذي هُوَ لهم مثلُ الهواءِ للمخلوقاتِ جميعًا. وبعدُ.
أَحَبّ الصّديقُ مُصطفى لَبيبٍ العلمَ، وَعَشقَ المعرفةَ. وتميّزَ بالفضولِ الّذي ينبغي أن يكونَ من ثَوابتِ صحيحِ الإيمانِ، إِنْ شِئنَا اعتبارَ الإسلامِ: عِلمًا، وَعَمَلًا، وَأَخْلَاقًا. وَبَعْدُ.
نقلَ الصّديقُ مصطفى لبيبٍ كتابَ المرحومِ هاري ولفسونَ الّذي زاملَ بدورهِ أستاذتِي وصديقتي أنّا ماري شيملَ في جَامعةِ هَارفردَ قبلَ عدّةِ عقودٍ.
أحببتُ هَاري ولفسونَ كثيرًا، عِندمَا اشتغلتُ بتاريخِ المعتزلةِ وعلمِ الكلامِ. أعجبنِي أسلوبُ تحليلِهِ الدّقيقُ، وفضّلتُه عَلَى مُعظمِ مُستشرقِي ألمانيَا الّذينَ يميلُونَ إلى عَالمِ الخيالِ، عِندمَا يكتبونَ عنْ تاريخِ الإسلامِ.
كَانَ ولفسونُ هَذا عالمًا فذًا صَبورًا. قَالتْ لي أنّا ماري شيملَ إنّها كانتْ تراهُ جَالِسًا فِي مكتبةِ جامعةِ هارفاردَ طوالَ الوقتِ، يقرأُ، ويتأمّلُ، ويكتبُ.
تَركَ لنَا ولفسونُ، ضِمْنَ مَا تركَ، ثَلاثةَ كتبٍ فَريدةٍ حقًّا، لُم يدركْ أهمّيتهَا مُعظمُ مُعَاصِرِينَا. فَهو قَدْ خَصّ علمَ الكلامِ الإسلاميِّ بدراسةٍ وافيةٍ، وكرّسَ حياتَه لدراسةِ عَلَمينِ من جَهابذةِ العُلماءِ اليهودِ، هُمَا سبينوزَا وَفِيلونُ الإسكندرانيّ.
يَقِينًا نستطيعُ أن نقولَ إنّ العالمَ كانَ ولا يزالُ قريةً صغيرةً.
فالعالمُ الأمريكيّ ولفسونُ كرّسَ حياتَه للكتابةِ عن ثلاثةِ علماءَ وموضوعاتٍ لها علاقةٌ بَعَالَمِنَا العربيِّ الإسلاميِّ وبمصرَ بالذّاتِ.
فَفِيلونُ الأسكندرانيّ كانَ مصريًّا يهوديًّا، واسبينوزَا ينحدرُ مِن أُصولٍ أسبانيّةٍ-برتغاليّةٍ، أيْ مِنِ الأندلسِ الإسلاميّةِ، قبلَ أن تهاجِرَ أسرتهُ إلَى هُولندَا، وَيتخصّصَ هُو في نقدِ الكتابِ المقدّسِ. مع الإشارةِ إلى تقزّزي الشّديدِ منْ تجاهلِ اسبينوزا الإِشَارَةَ إِلَى فَضلِ ابنِ حَزمٍ القُرطبيّ عليهِ.
وَعِلمُ الكلامِ هو جزءٌ أصيلٌ منَ العقيدةِ الإسلاميّةِ. وَبَعْدُ.
تولّى الصّديقُ مُصطفى لبيبٍ نقلَ مَوسوعَةِ ولفسونَ عنْ «فلسفةِ الكلامِ» إِلَى العربيّةِ. فقدّمَ بذلكَ خِدمةً جليلةً للقارئِ العربيّ المعاصرِ، وَالباحثينَ العربِ.
فنظرًا لفسادِ منظومةِ التّعليمِ في عالمنا العربيّ الإسلاميّ ظلّتْ صورةُ المعتزلةِ وعلمِ الكلامِ مشوّهةً في أذهانِ النّاسِ جميعًا.
وأنا شَخصيّا لم أتعلّمْ، ولم أفهمْ أصولَ علمِ الكلامِ، إلّا عندما رحلتُ عن العالمِ العربيّ، والتحقتُ بالجامعاتِ الأوروبيّةِ.
ترجمةُ الصّديقِ مصطفى لبيبٍ لكتابِ هاري ولفسونَ عنْ «فلسفةِ الكلامِ» هو إنجازٌ عظيمٌ مشكورٌ، يَنبَغِي أَنْ يُدركَه النّاسُ فِي مصرَ والعالمِ العربيّ.
لكنّ لا قيمةَ للعلمِ عندَ العربِ المحدثينَ، للأسفِ.
فهذه التّرجمةُ المحترمةُ الّتي أنجزَها الصّديقُ مصطفى لبيبٍ، طَبعوها طباعةً رخيصةً، ركيكةً، لا تليقُ بالمترجمِ، ولا بالمؤلّفِ، ناهيكَ عنْ موضوعِها الخطيرِ. وَبَعْدُ.
اهتمّ الصّديقُ مصطفى لبيبٍ أيضًا بالفكرِ الغربيّ الحدِيثِ.
وعندما علمَ بصداقتي لِكَبيرِ عُلماءِ اللّاهوتِ المعاصرينَ هَانسَ كُينجَ، سَارعَ يعرضُ عليّ المشاركةَ بدراسةٍ عنْهُ في مؤتمرٍ دوليّ ساهمَ في تنظيمِهِ سنةَ 2006م في جَامعةِ القَاهرةِ عِنِ «المشتركِ بينَ الثّقافاتِ».
وبالفعلِ حَرصتُ على نَقلِ صُورةٍ أمينةٍ عنْ فِكْرِ هانسَ كينجَ للقَارئِ العَربيّ والباحثِ المسلمِ، بدراسةٍ مستفيضةٍ عنهُ، نشرُوهَا في كتابِ المؤتمرِ لاحقًا.
وعندمَا شرعتُ أنقلُ كتابَ صدِيقي هانسَ كينجَ «لماذا مقاييسُ عالميّةٌ للأخلاقِ؟» إلَى اللّغةِ العربيّةِ، كانَ الصّديقُ مصطفى لبيبٍ من أوائلِ المرحّبينَ بالفكرة، والمشجّعينَ لهَا.
بلْ إنّه أوصَى بعضَ تلامذتِه بِدراسةِ فكرِ هَانسَ كينجَ، والإسهامِ في تقديمهِ للمثقّفِ العربيّ. وَبَعْدُ.
مرّتِ السّنونَ كلمحِ البصرِ. وَكانَ الصّديقُ مصطفى لبيبٍ يحرصُ عَلى إرسالِ إبداعاتِه الجديدةِ لي، مثلمَا كنتُ أحرصُ على تقديمِ أيّ جديدٍ أنشرُه لَه.
فكانَ من أوائلِ الأصدقاءِ الّذينَ تلقّوا كتابي: «الإسلامُ في عيونِ السّويسريّينَ»، قبلَ أكثرَ منْ عشرِ سنواتٍ.
كما أنّه تلقّى كتابي عَن صديقتي أنّا ماري شيملَ الّتي كانَتْ لا تُوقّعُ خطاباتِهَا لِي، إِلَّا بعبارَةِ: «الفقيرةُ إِلَى رَحمةِ اللّهِ، أُمُّ هريرة»، حيثُ كانتْ تعشقُ القططَ !!
والتقتْ نفوسُنا جميعًا، شيملَ ولبيبًا وَأنا، عَلى حبّ الصّوفيّةِ، ومقتِ الفكرِ الحنبليّ، الوهّابيّ، السّلفيّ المزعومِ.
فأنا في أطروحتي للماجستيرِ أوضحتُ جمودَ الفكرِ الحنبليّ، وفي أطروحةِ الدّكتوراةِ أظهرتُ العواقبَ الوخيمةَ لهذا الفكرِ الهدّامِ على الحضارةِ الإنسانيّةِ. وَبَعْدُ.
كانَ الصّديقُ مصطفى لبيبٍ يحرصُ على لفتِ الانتباهِ إلى سفاهةِ المدعوّ محمّد بنِ عبدِ الوهّابِ، وتافهتهِ، وكثيرًا ما ذكّرني أنّ شقيقَه كانَ من أوائلَ من فضحوهُ.
وكانتِ الصّديقةُ شيملُ تعشقُ التّقرّبَ إلى البارئ تعالى من خلالِ الأدعيةِ الصّوفيّةِ الجميلةِ الّتي تفيضُ حُبًّا وَإِيمانًا.
وأتذكّرُ أنّ وهّابيّةَ السّعوديّةِ جَعلوا يتردّدونَ طويلًا، قبلَ أن يقرّرُوا تكريمهَا عَلى مضضٍ.
فهمْ قدِ اطّلعوا على كتاباتي عَنها. فأُعجبوا بِحَماسِهَا للإسلام، لَكِنَّهمُ اعترضُوا على مُيولهَا الصّوفيّةِ.
حكتْ لي شيملُ أنّها تلقتْ مكالمةً من السّفارةِ السّعوديّةِ في بونَ، عندمَا كانتْ عاصمةَ ألمانيا الغربيّةِ، وبعدَها أرسلوا إليها سيّارةً أخذتهَا إلى المطارِ، وَدسّوها في طائرةٍ إلى السّعوديّةِ، ومن المطارِ إلى أحدِ القصورِ الملكيّةِ، حيثُ استقبلوهَا بحفاوةٍ وترحابٍ، قبل أن يعيدوهَا إلى ألمانيا، بدونِ أيّ صخبٍ إعلاميّ!! وَبَعْدُ.
اهتمّ الصّديقُ مُصطفى لبيبٍ بالفكرِ الصّوفيّ، وبالعلماءِ المصريّينَ الّذين درسُوا الصّوفيّةَ في الجامعاتِ الغربيّةِ، وكتبوا دراساتٍ قيّمةً عن أعلامِ الفكرِ الصّوفيّ.
اهتمامُنَا المشتركُ بالصُّوفيّةِ جَعلنا نلتقي منْ جديدٍ عندَ تراثِ العالمِ المصريّ أبي العلا عفيفي الّذي درسَ في بريطانيا، وكانَ له إسهاماتٌ متميّزةٌ في تعميقِ فهمِنَا للفكرِ الصُّوفيِّ.
أتذكّرُ أنّ الصّديقَ لبيبًا قد بعثَ لي بترجمتِهِ لأحدِ أعمالِ عفيفي، دُونَ أن تسمحَ الظّروفُ بعقدِ مناقشةٍ عميقةٍ عنْ هذا العالمِ الفذِّ. وَبَعْدُ.
عِنْدَمَا درستُ تاريخَ العلمِ، سارعَ الصّديقُ العزيزُ مصطفى لَبيبٍ بمساعدَتِي بإرسالِ بعضِ كُتبِهِ القيّمةِ عنْ تاريخِ العلمِ عندَ العربِ لِي.
وَفي السّنواتِ الّتي أمضيتُها في دراسةِ المخطوطاتِ الطّبيّةِ العربيّةِ، كنّا لا نتوقّفُ عنْ مناقشةِ إسهاماتِ كبارِ الأطبّاءِ العربِ في تطويرِ العلمِ الإنسانيِّ. وبعدُ.
فِي السّنواتِ الأخيرةِ عندما أبلغتُ العزيزَ مصطفى لبيبٍ بمشروعي المتواضعِ لدراسةِ فكرِ العملاقِ هيلموتَ شميدتَ، لم يتردّدْ في تَشجيعي، برغمِ استغرابِهِ مِنْ تحوّلاتِي، وَتَنَقُّلَاتِي!!
فأنا بَدأتُ بعلمِ الكلامِ، ثمّ انتقلتُ إلى الصّوفيّةِ، قبلَ أن أدرسَ اللّاهوتَ المسيحيّ، وَالدّيانةَ اليهوديّةَ، لأصلَ إلى التّاريخِ الألمانيّ وَالأمريكيّ الحديثِ، وَمازلتُ أشقّ طريقي بحثًا عن المعرفةِ الّتي ينبغي أن تكونَ ضالةَ المؤمنِ.
بعثتُ إلى الصّديقِ مصطفى لبيبٍ بمسودةِ ترجمتي كتابَ: «قَرننا هذا» للمرحومِ هيلموتَ شميدتَ وصديقِهِ فريتسَ شترنَ.
كنتُ أودّ نشرَ التّرجمةِ مع التّعليقاتِ، مِثلمَا فعلتُ مع ترجمةِ هانسَ كينجَ. لكنّي أدركتُ أن التّعليقاتِ ستستَغرقُ المزيدَ من الوقتِ، فقرّرتُ إصدارَ التّرجمةِ أوّلًا، حتّى انتهيَ من التّعليقاتِ.
وَبِالمُناسَبَةِ فإنّني نوّهتُ بفضلِهِ في مقدّمتي كتابَ: «قَرنُنا هَذا»، معَ سائرِ الأصدقَاءِ.
كنّا نتشاورُ كثيرًا في موضوعاتٍ شتّى، وكانَ لا يتردّدُ في تقديمِ النّصيحةِ السّديدةِ، أو الإشارةِ المفيدةِ، إلى مرجعٍ مهمّ، أو ترجمةٍ قيّمةٍ. وَبَعْدُ.
جمعَنَا أيضًا الاهتمامُ بالعملاقِ المصريّ عبدِ الرّحمنِ بدويٍّ الّذي سَعَى بعضُ أشقّائِه إلَى إعادةِ نشرِ أعمالِه في القاهرةِ، دونَ أن أسمعَ شيئًا عن نتائجِ عملِهمْ.
فأنا كنتُ على صلةٍ غيرِ مباشرةٍ بالعملاقِ بدويٍّ عندَما كَانَ يَعيشُ في باريسَ، وَالصّديقُ ليببٌ كانَ عَلَى صِلَةٍ مباشرةٍ بعائلةِ بدويٍّ فِي القَاهرةِ.
جَمعنا أيضًا عشقُ اللّغةِ العربيّةِ. وَشَاءَتِ الأقدارُ أن يلتحقَ الصّديقُ لبيبٌ بمجمعِ اللّغةِ العربيّةِ في السّنواتِ الأخيرةِ، حَيثُ سمعتُ أنّه ارتبطَ بعلاقةِ صداقةٍ مَع رئيسِهِ المحترمِ. وَبَعْدُ.
عِنْدَما زَارَ ألمانيا مؤخّرًا، كُنْتُ أُريدُ مقابلتَهُ شخصىًّا في فرانكفورتَ، لَولا انشِغَالِي بِالإعدَادِ لِرِحلَةٍ إلَى الأندلسِ.
وعدتُه أنْ أبعثَ إِلَيْهِ بصديقي الصّوفيّ الشّيخِ عثمانَ الّذي أوصيتُهُ بتكريمِ عالمنا لبيبٍ، ودعوتِهِ إلى العشاءِ في «مطعمِ أيفوري» الشّهيرِ.
لكنّ الشّيخَ عثمانَ لمْ يتمكّنْ منْ زيارةِ الصّديقِ لبيبٍ في فرانكفورتَ، فأهدرَ فرصةً ثمينةً لمعرفةِ عالمٍ جليلٍ. وبعدُ.
عِندما مرضَ، لم أتوقّفْ عنِ السّؤالَ عنهُ، وتشجيعِه عَلَى مُواصلةِ الكفاحِ، والإصرارِ عَلى العودةِ متألقًا. كنتُ أقولُ لَهُ: «نحنُ بحاجةٍ إلى إبداعاتِكَ، وأعمالِكَ الجميلةِ».
لكنّي أعترفُ أنّني لم أكتشفْ بعدُ حكمةَ البارئِ تعالى في تقريرِ لحظةِ الفراقِ، وحسمِ ساعةِ الرّحيلِ.
يقنيًا نحنُ نتألّمُ كثيرًا، ونبكي طويلًا، على فرَاقِ أحبائِنَا وأصدقائنَا. لكنْ علينا أيضًا أن نتذكّرَ أنّ الصّديقَ مصطفى لبيبٍ كانَ عاشقًا للصّوفيّةِ، ومؤمنًا بالفكرِ الصّوفيّ الأصيلِ.
والصّوفيّةُ في الإسلامِ تؤمنُ بالحبّ الإلهيّ، وتعتقدُ أنّ ملاقاةَ العاشقِ للمعشوقِ لا يحولُ بينها إلّا الموتُ الجسديّ.
ولذلكَ فهم يعتبرونَ الموتَ «تاجَ المؤمنِ»، لأنّه بالموتِ فقطْ يستطيعُ المؤمنُ أن يتّحدَ بالبارئِ تعالى ويعودَ إليهِ.
ولهذا السّببِ حرصَ جلالُ الدّينِ الرّوميّ على تنبيهِ تلامذتِهِ ألّا يبكوا، عِندمَا يَزورونَ قبرَه، بَلْ ينبغِي أنْ يرقصُوا، ويفرحُوا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.