تختلف التحليلات السياسية والإعلامية بالجزائر منذ مدة طويلة في توصيف وتشخيص نظام حكم البلاد بين من يصفه بحكم الجنرالات، خاصة مع الأزمة الأمنية التي عرفتها البلاد قبل خمس عشرة سنة مضت، وبين من يصفه بالنظام الدكتاتوري في ثوب الرئاسي المستغل للديكور الديمقراطي (التعددية) الذي تذيعه وسائل الإعلام الرسمية ومختلف المؤسسات التي تساهم في خدمة السّلطة وصاحب القرار. المتفق في كل هذه التحليلات هو شدة الغموض التي تميز نظام الحكم لدى الجميع، وعدم الوصول إلى تشخيص حقيقي لسلطة القرار بالجزائر منذ الاستقلال إلى الآن، رغم تداول 7 رؤساء جمهوريات، حيث عرفت الجزائر بهذا التداول جميع الحالات والمواقف والأزمات السياسية بالنسبة للرؤساء من انقلاب وعزل واستقالة وإقالة واغتيال ووفاة، وسنحاول من خلال هذا التقرير تسليط الضوء أكثر على التركيبة وعلى الخلفيات وعلى العلب السوداء لهذا النظام. ويتفق العارفون بشأن النظام السياسي الجزائري أن النفوذ دائمًا ما تركز في أيدي المؤسسة الأمنية العسكرية منذ استقلال البلد إلى يومنا هذا، ولم يتمكن أي رئيس في الجزائر من تجاوز هذا النفوذ إلا في حالات نادرة تجسدت خلال حكم الرئيس الراحل “هواري بومدين” وقد كان هذا منطقيًّا بحكم أن “بومدين” جاء من قلب قيادة تلك المؤسسة إلى سدة الحكم، كما تجسدت نسبيًّا خلال حكم الرئيس الحالي “عبد العزيز بوتفليقة” لأسباب منطقية أخرى تعود لإيجاد مخرج آمن لعدد من جنرالات الجيش بعد أزمة أمنية أدت لمقتل 250 ألف ضحية وتشريد مئات الآلاف من السّكان. عدا ذلك من الرؤساء لم يكسب أي أحد آخر معركة “النفوذ” مع العسكر والمخابرات، فحسمت المعركة مع الرئيس “بن بلة” بالانقلاب عليه وحسمت مع الرئيسين الشاذلي و”اليامين زروال” بإجبارهما على الاستقالة وحسمت مع الرئيس “بوضياف” بالتصفية الجسدية على المباشر أمام الكاميرات في مشهد دراماتيكي يوثق لحظة فارقة في تاريخ الجزائر المستقلة. 1 ويطرح الكاتب السياسي “مصطفى هميسي” من خلال كتابه ((كيف تحكم الجزائر؟)) عدة أسئلة في هذا الشأن الذي يحوي أكثر من 740 صفحة، تطرق فيه إلى مختلف الحقب والعصور التي مرت بها الجزائر – من بربروس إلى بوتفليقة-، وأهم ما تميزت به البلاد من تحولات، يقول المؤلِف: “… في مطلع العشرية الثانية من القرن العشرينات ما زال تساؤل كبير يشغل النخب بالخصوص: لماذا تحكم الجزائر بهذه الطريقة؟ هل هو اختيار النخبة الحاكمة أم هو حال تاريخية موضوعية؟”. ويوضح الدكتور “ناصر جابي” من خلال رؤيته وتحليله الخاص بتركيبة النظام الجزائري أن مجموعة سلطة القرار ورثت عبر فترتي الحركة الوطنية وثورة التحرير الكبرى خصائص عدة وتركيبة داخلية وموازين قوى، تتميز بمركزية السلوكيات وضعف الشفافية وتفضيل العمل السري وسيطرة العسكري على المدني وأفضلية قيم الانضباط شبه العسكري وعدم تحبيذ النقاش السياسي العلني. ويوضح “جابي” دائمًا من خلال مقاله المنشور عبر (كيف يصنع القرار في الأنظمة العربية؟) لمركز دراسات الوحدة العربية، إن الصراع الكبير بين زعيم الحركة الوطنية “مصالي الحاج” والأجيال الجديدة من أبناء الحركة الذين قادوا الكفاح المسلح، وتمردوا على الزعيم الوطني، انتقل إلى الأجيال ومجموعات صناع القرار التي سيطرت على السلطة وساهمت بقدر في استقلال البلاد. كما أن فشل الحركة الوطنية التي عرفت تعددًا حزبيًّا في حل المسألة الوطنية، بل وعطلتها حسب الكاتب دائمًا، أدّى إلى حد التخوين في بعض الحالات، وهو ما يبرر حسبه رفض صناع القرار للتعددية والنقاش العلني. تغييرات عميقة.. وليلة رعب بإقامة الرئيس
2 وأوردت يومية الخبر الجزائرية مؤخرًا تقارير وملفات خاصة تسلط الضوء حول التغييرات التي أحدثتها قيادة أركان الجيش الجزائري بخصوص عدد من وحدات تابعة لمديرية الأمن العسكري وتحويلها إلى جهات عسكرية وأمنية أخرى، في محاولة لتحجيم دور الجنرال توفيق “محمد مدين” في الحياة الأمنية والسياسية بالبلاد. وفي تقرير منشور بعنوان ((3 ملفات فجّرت الصّراع بين الرئاسة والجيش والمخابرات)) تؤكد مصادر جريدة الخبر أن غياب الرئيس “بوتفليقة” لمدة طويلة عن أرض الوطن خلال مرضه المطوّل بفرنسا، والملفات الأمنية المعقدة كاختطاف الدبلوماسيين الجزائريين شمال مالي والاعتداء الإرهابي على حقول الغاز تيقنتورين واستبدال الجنرال “عبد المالك قنايزية”، واعتقال الجنرال “حسان” المعروف بإدارته لملف متابعة الجماعات الإرهابية سنوات الأزمة الأمنية، جعلت المؤسستين الأمنية والعسكرية تقعان في إشكال تنظيمي بخصوص بعض المديريات والصلاحيات في ظل الصراع التاريخي الممتد والمستمر منذ عقود بين الموالين للرئاسة ونظرائهم الموالين للأمن العسكري، ويتضح الإشكال بمديرية أمن الجيش التابعة لمديرية الأمن والاستعلامات وفي نفس الوقت خاضعة لقرارات قادة النواحي العسكرية، وهما ما جعل رئيس البلاد “بوتفليقة” يخلف بعده الوزير الأول عبد المالك سلال للتنسيق وترؤس المجلس الأعلى للأمن الذي يجتمع غالبًا أثناء التهديدات الأمنية الكبرى للبلاد. كما لم تعرف الجزائر من قبل تغييرًا للولاة على المستوى الوطني منذ الاستقلال كالتغيير الذي حدث بداية هذا الشهر (أوت آب أغسطس 2015)، فقد مس هذا التغيير الذي جاء بمرسوم رئاسي وقعه رئيس البلاد “عبد العزيز بوتفليقة” 35 ولاية من أصل 48، و17 ولاية منتدبة لولاية العاصمة واستحداث بعض الولاياتجنوب البلاد. وسبق هذا التغيير استبدال لثمانية وزراء بحكومة الوزير الأول “سلال”، وأبرز المغادرين “الطيب بلعيز” وزير الداخلية، و”يوسف يوسفي” وزير الطاقة، و”نادية لعبيدي” وزيرة الثقافة، و”محمد جلاب” وزير المالية، ومحمد تهمي وزير الشباب والرياضة، و”فاطمة الزهراء دردودي” وزيرة البريد وتكنولوجيات الإعلام والاتصال. كما شمل تغيير كبير على مستوى بعض المؤسسات الهامة على مستوى البلاد كالوكالة الوطنية للإشهار وشركة سوناطراك والمدير العام للخطوط الجوية الجزائرية وعدد من البنوك الجزائرية، وقرأت بعض وسائل الإعلام في هذا التغيير على أنه تحضير مسبق لمرحلة ما بعد بوتفليقة، واستعداد لانتخابات مسبقة. وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي خبرًا – لم يتأكد- مفاده أن مستشار الرئاسة شقيق رئيس البلاد “السعيد بوتفليقة” ورجال الأعمال “علي حداد” والوزير الأسبق للتجارة “عمارة بن يونس” تبادلوا إطلاق النار بإقامة الرئيس، وقد سُمع الحادث بضواحي زرالدة غرب الجزائر العاصمة، وهي التفسيرات التي رافقت إقالة مدير الأمن الرئاسي واستبدال قائد الحرس الجمهوري وإقالة غير متوقعة للوزير “بن يونس”. ولم تكتب أي وسيلة إعلامية جزائرية عن الحادثة سوى بعض المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي المعروفة، والتي تستغل مثل هذه الحوادث. ومؤخرًا تم تسريب تعرض الأمين العام للحزب الحاكم جبهة التحرير الوطني (الآفلان) “عمار سعيداني” للرقابة القضائية بباريس بتهمة تبييض الأموال وتهريبها، وهو ما تناقلته كذلك العديد من المواقع الإلكترونية الفرنسية والجزائرية، الخبر الإشاعة فندها الناطق باسم الحزب “السعيد بوحجة” جملة وتفصيلًا، قائلًا إن الأمين العام للحزب يقضي عطلته بباريس. وسيكون خلال هذا الأسبوع لانعقاد الدورة العادية للجنة المركزية بحر هذا الأسبوع، كما أوردت جريدة البلاد الجزائرية مشاهدة “سعيداني” بجنازة والدة المدير العام للأمن الوطني “نورالدين الهامل” بمدينة سبدو بولاية تلمسان أقصى الغرب الجزائري. الشخصيات الغامضة في المشهد السياسي الحالي أحد الشخصيات الغامضة والتي لا يعرف منها الرأي العام الجزائري سوى الاسم، التحقت حسب مصادر بالثورة الجزائرية عام 1957، وبعد الاستقلال دخل الجنرال “توفيق” مدرسة KGB العسكرية (دفعة السجاد الأحمر) بموسكو الاتحاد السوفيتي، حيث تلقى تكوينًا عسكريًّا مختصًا في مجال الاستخبارات. وتولى بعدها عدة مسؤوليات كمسؤول الأمن العسكري لولاية وهران ومدير للأمن الرئاسي، حتى عينّه الرئيس “الشاذلي” سنة 1989 مديرًا للأمن والاستعلامات، والتي تعتبر جهاز المخابرات الجزائرية، ومنذ ذلك الوقت وهو المسؤول الأول عن الجهاز إلى الآن. يعتبر كذلك إحدى الشخصيات التي يتحدث عنها السياسيون والنّشطاء بشكل كبير، مع عدم حضور إعلامي ولا رسمي ولا سياسي لشخص مستشار الرئيس المدعو “السعيد بوتفليقة” باستثناء كاميرات التلفزيون الرسمي التي تغطي مشهد رئيس البلاد “عبد العزيز بوتفليقة” مع عائلته أثناء تأدية الواجب الانتخابي، أو عند استقبال الرئيس كذلك لنجم كرة القدم العالمي “زين الدين زيدان”. عُين بمنصب مستشار الرئيس بدون وظيفة رسمية ولم تعلن في أي جريدة رسمية سابقة هذا التعيين، كما تحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة باريس 7 تخصص ذكاء اصطناعي، وكان عضوًا بنقابة الأساتذة الجامعيين بجامعة باب الزوار للتكنولوجيا والعلوم التقنية (العاصمة الجزائر)، ليلتحق بالرئاسة مع فوز “عبد العزيز بوتفليقة” بالرئاسة عام 1999. وتتهمه عدة دوائر سياسية بالبلاد بالتورط في ملفات الفساد التي عرفتها الجزائر منذ سنوات، وسيطرته على رئاسة الجمهورية مع مرض شقيقه “عبد العزيز بوتفليقة” منذ 2005 إلى اليوم، وتحكمه في رقاب الجزائريين، وإضعاف مؤسسات الدولة. سيناريو سياسي غامض أمام مستقبل اقتصادي مجهول
يتفق الكثير من المتابعين ومحللي الشأن السياسي في البلاد أن الصراع داخل السلطة وصل إلى مرحلة كسر العظام والتحضير الفعلي لما بعد الرئيس الحالي “بوتفليقة”، وتؤكد هذه التخمينات السياسية التغييرات الكبيرة في الكثير من القطاعات الحكومية والإدارية والأمنية والعسكرية بمؤسسات الدولة، وحتى لدى أحزاب السّلطة بعودة مدير ديوان الرئيس “أحمد أويحيى” للأمانة العامة بالنيابة لحزب التجمع الوطني الديمقراطي. كما انضمت عدة وجوه حكومية جديدة كانت تحسب على التكنوقراط إلى الحزب الحاكم جبهة التحرير الوطني (الآفلان) مع المؤتمر العاشر الذي أقيم نهاية نيسان/ أبريل الفارط، على غرار الوزير الأول “عبد المالك سلال”، والأمين العام برئاسة الجمهورية، وعدد من الوزراء الحاليين بالحكومة. ومع انخفاض أسعار البترول والتهديدات الأمنية عبر طول الحدود الجزائرية خاصة بالجنوب الكبير، وتجمع المعارضة الجزائرية لأول مرة منذ الاستقلال ومرض الرئيس “بوتفليقة”، يتضح جليًّا أن البلاد مقبلة على سيناريوهات متعددة شبيهة لحد كبير بأحداث 1986. وهو ما يحذر منه رؤساء حكومات سابقون أمثال “غزالي” و”بن بيتور”، وما يتخوف منه رجال السّلطة أمثال “أويحيى” و”سلال”.