بداية أعتذر قارئى العزيز عن تأخرى فى متابعة ما بدأناه فى المقالتين السابقتين، فقد كان أقرب الناس إلى يمرون بظروف صحية حرجة، نسأل الله الشفاء لمرضانا جميعا.. وأتمنى أن يلقى عذرى القبول. تابعنا حالات الدول والقوى التى تمد مفهوم الحدود ليصل إلى أربعة أركان المعمورة، والدول التى توسع المفهوم وتتنازل عن بعض أو معظم مظاهر سيطرة الدولة على حدودها لصالح مفاهيم السيادة الأعم والأمن القومى الأشمل. فكيف ننظر فى بلادنا إلى هذه المفاهيم الحاكمة؟! وهل تحكمنا خطوط سايكس بيكو لترسيم الحدود؟! أم تجاوزناها لمفاهيم أعم وأهم وأشمل؟! أم ضاقت حدودنا علينا بما نحمله من مفاهيم؟! أولا: الجدار الخائب.. ودعونا هنا نتحدث عن مفهوم الحدود فى ذاته وبصرف النظر عن علاقته بالسيادة والأمن القومى.. فالحدود هى منافذ للحركة، وأعماقا إستراتيجية بالمفاهيم السياسية والإقتصادية والعسكرية، ولم يعرف التاريخ دولا تقيم أسوارا على حدودها، تمثل فى المحصلة الأخيرة عائقا أمام تحركاتها تجاه أى عدوان محتمل، اللهم إلا الكيان الصهيونى الذى يقيم جدارا حول أراض ال 48 المحتلة، وهو يسيطر على الجدار من جانبيه، وكذلك ما أقامه الإحتلال الإيطالى على الحدود مع مصر.. لاحظ أن إقامة مثل هذه الجدر لم تأت إلا من سلطة إحتلال لحصار أبناء الوطن، لا حمايتهم... فهل من الممكن أن يكون هذا الجدار مفروضا على الإرادة السياسية، والعسكرية المصرية التى بلغت من الوعى والاحتراف مستوى صنعت به حرب أكتوبر المجيدة؟! إن كل عسكرى مصرى وطنى يعلم علم اليقين، أن الحدود مع فلسطينالمحتلة هى جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى، وأن المقاومة الفلسطينية الباسلة فى قطاع غزة، هى خط دفاع أول عن سيناء المنزوعة السلاح، والتى ضمن العدو الأمريكى للعدو الصهيونى إعادة إحتلالها فى حال حدوث تغيرات تؤثر على أمن الكيان، وأن العمق المصرى هو الحاضن الطبيعى للمقاومة الفلسطينية الورقة الوحيدة الباقية لستر عورة النظام العربى الرسمى المتهاوى .. كما يعلم الجميع أنه حتى حدود سايكس بيكو قد تقلصت السيادة عليها بنزع أم الرشراش المصرية (إيلات)، والنزع الكامل لسلاح المنطقة (ج) والنزع شبه الكامل لسلاح المنطقة (ب) والتسليح المحدد والذى لا يشمل المضادات الجوية والأسلحة الهجومية للمنطقة (أ).. كما لا يخفى على أحد وجود قوات دولية (أمريكية) على أرض سيناء لضمان "تحقيق بنود الاتفاقية".. فلماذا الجدار إذن وهل تبنيه مصر لأهداف مصرية تتعلق بأمنها القومى وحدودها وسيادتها؟!. ثانيا: المحيط العربى.. السودان.. ومنابع النيل... رسم السياسات تجاه إفريقية وفق مفهوم سايكس بيكو والتعامل مع الحدود والسيادة والأمن القومى بإعتبارها مفاهيم تنطبق على ما يدور داخل الجدران التى وضعها المستعمرون على الخرائط، إنسحب بالفعل السياسى المصرى إلى الداخل منذ بداية السبعينات، تاركا السودان أولا وبالتالى دول حوض النيل، ناهيك عن مجمل دول وسط إفريقية وغربها والتى تمثل مجالا حيويا طبيعيا.. وضروريا.. لحياة مصر الدولة.. فتوغل العدو الصهيونى شاغلا الفراغ الذى تركته مصر، ووضع يديه فى الجنوب السودانى، وحسم الساحة فى إثيوبيا لصالحه، وسقط الصومال وأريتريا واليمن فى غياهب طاحونة الصراعات المدعومة، أما المحيط العربى فحدث ولا حرج، فبداية من إستراتيجية (مصريون لا عرب)، فقدت مصر مجالها الحيوى الطبيعى وقوتها وسيادتها، والأهم أنها فقدت هويتها وعمقها الاستراتيجى الطبيعى.. ولو إلى حين!!. لقد تعاملت السياسة المصرية مع مفاهيم الحدود والسيادة والأمن القومى، ومنذ بداية السبعينات، على مستوى المدارس الإبتدائية، ولم تدرك.. أو لم تحاول أن تدرك ضرورات العصر، وأبجديات الفعل السياسى.. فأصبح العدو الرئيسى هو صاحب أوراق اللعبة والمرجعية الوحيدة فى إستراتيجياتها، وتحول العدو المباشر إلى شريك فى سلام بلا دلالات ولا أمل، وتبدل العمق الاستراتيجى العربى والإفريقى، إلى محيط التهديدات الوهمية التى تستنذف الجهد، وتفقدنا الاتجاه.. لتصبح السودان مصدرا للإرهاب، والمقاومة الفلسطينية خطراً يستوجب إقامة جدار عائق للتواصل اللازم لأمننا القومى وممارسة سيادتنا... إلخ. لابد إذن من التعامل مع الحدود باعتبارها خطوط الحد الأدنى للفعل السياسى، والامتداد بالنظر إلى آفاق حدود الأمن القومى، الذى لم يعد قاصرا على حدود الخرائط، وليصل إلى أبعاد المشترك والمتعارض على مدى المعمورة.. حينما يبحث فى مسائل السيادة.. فالسيادة لم تعد تقف عند خطوط جباية الجمارك والسماح والمنع للمسافرين والبضائع... لابد إذن من فهم جديد، مختلف تمام الاختلاف لمفاهيم الحدود والسيادة والأمن القومى، حتى يمكن أن نبنى على ما تبقى من عناصر هذه المفاهيم لتحدياتنا القائمة والمقبلة.. وهى كثيرة وشديدة الخطورة.