إلى أين أنتم ذاهبون بمصر؟ أنهار من الدماء تسيل وقمع وقهر واعتقال للمعارضين وشباب ضاع عمره ومستقبله لأنه كان يحلم بتطهير مصر من الفساد والفاسدين، وأمهات ثكالى وزوجات رملت وأطفال يتيموا وأهالي أحرق العسكر الانقلابيون قلوبهم في كل يوم يذهبون فيه لزيارة أبنائهم أو ذويهم في سجون الانقلاب، فإن كان للإنسانية معنى وللضمير استفاقة ما مر أكثر من عامين يعيش فيها الشعب المصري أسوأ عصور الاستبداد والظلم والطغيان. كتبت "أم نور" قصة معاناتها في كل مرة تذهب فيها لزيارة زوجها في سجن العقرب في طره، إذ تم منعها عن زيارته للمرة الثالثة على التوالي دون إبداء أسباب، ووسط مشاعر ينتبها الألم تطلعت أم نور للأمهات والأطفال والأهالي القادمون من أقصى المناطق والمحافظات ودارت أحاديث بينها وبينهم، فما بين أم سألتها أن تدعو لابنها المحكوم عليه بالإعدام في قضية "عرب شركس" وبين طفل ينتظر لقاء والده. وامتد طابور الزيارة لأكثر من ساعتين انتظار وتفتيش ومعاملة غير آدمية لهم، كل هذا فقط لأن ميليشيات السيسي تتبع أسوأ أساليب القمع والإذلال للثوار وأهاليهم في محاولات فاشلة لصد وردع الحراك الثوري الصامد، الذي كلما زاد القمع زادت الثورة اشتعالا وتقدما ولكن الانقلابيين الخونة لا يعلمون، فاتركوهم يرتفعوا لأعلى قمم الطغيان حتى يسقطوا سريعا إلى أدنى غياهب القصاص والانتقام. وهذا نص الرسالة التي كتبتها إحدى زوجات المعتقلين السيدة "أم نور": للمرة الثالثة على التوالي، أذهب لزيارة زوجي ويمنعوني من الزيارة! كنتُ أمام طرة الساعة السادسة والنصف صباحا. قابلتُ الأم التي حُكم على ابنها بالإعدام في قضية عرب شركس، قالت لي بصوت يملؤه الحزن وعيون دامعة: ادعيلي ربنا ينجيه! قابلتُ زوجة معتقل وأمه وأخته قادمين من كفر الزيات، خرجوا من بيتهم قبل الرابعة فجرا، وكان معها طفلها (أربع أعوام)، قلت لها: حبيبتي إنتي متعرفيش إن زيارة الأطفال ممنوعة حتى لو مكتوبين في التصريح؟ قالت: ما احنا مش جايين نزور، احنا بس عايزين نشوفه وهو رايح النيابة. لم أرد أن أخبرها أنهم في الآونة الأخيرة أصبحوا يُدخِلون عربة الترحيلات إلى الجراج بحيث يركب المعتقل دون أن يراه أهله أو يراهم هو! حتى هذه اللحظات يستكترونها علينا. ولكنها سمعت من يقول ذلك، فردت: مش مشكلة، ممكن هو يشوفنا من العربية ولا حتى ننادي عليه! قابلتُ الأم التي حُكم على ابنها يوم السبت بالمؤبد، وكان كل همها أن تقابله لتخفف عنه الأمر رغم علمها بصبره واحتسابه، كان كل همها أوصله الخبر أم لا؟! قابلتُ الزوجة التي حُكم على زوجها يوم السبت بالإعدام، وجدتها صابرة بشوشة تصبر من حولها، ورأيتُ ابنته الجميلة وهي ترتدي الأحمر حتى إذا دخلت على أبيها ووجدته بزي الإعدام الأحمر، قالت له كلنا كذلك، كلنا محكوم علينا بالإعدام، وكلنا في سجن كبير، ولكن الله اصطفاكم بالثواب. وغيرهم الكثيييير أتوا من أماكن شتى ليروا ذويهم خمس دقائق من وراء زجاج. وبعد انتظار ساعتين ونصف في طابور طرة - لذي لو كان رجلا لقتلته- وبعد تفتيش وانتظار وصلنا العقرب قبل الموظفين، فإذا بالمعتوه محمود البسيوني يمر أمامنا، وعندما حاول أحد الأهالي سؤاله عن الزيارة رد صارخا بعتهه المعهود: "معرفش، معرفش لما أشوف جوة النظام إيه"، أي لما يدخل يشوف أوامر أسياده. وبعد ساعة ونصف انتظار، خرج الموظف (أسامة) بدفتره لتسجيل الزيارات. - هاندخل؟ - معرفش أنا معرفش حاجة. - طيب اسأل لنا. - والله معرفش أنا مليش دعوة. - طيب يعني ممكن تسجل وميدخولوناش. - ممكن، معرفش، ما هو بيحصل. - طيب لو مدخلناش هاترجع التصاريح. - معرفش حاجة. سيبوها على الله انتوا ونصيبكم. - طيب الناس اللي عندها نيابة جلسات مش هايخرجوا؟ - لا مفيش نيابات انهاردة. فعاد من جاء ليرى حبيبه من بعيد، من حيث أتى داعين عليهم أن يبتليهم الله في أحبابهم وأن يمنعهم من رؤيتهم. ثم جاء الدور على الزائرين. معظم الزائرين أعطوه التصاريح إلا قليل منهم (وكنتُ منهم)، وكانت مجازفة من القليل، فلو دخلت الزيارات لن يسمحوا بدخول هذا القليل لأنه لم يُسجل الزيارة!!! وبعد انتظار ثلاث ساعات، خرج علينا الموظف نفسه اللي ملوش ذنب ولا يعرف حاجة، أن روحوا مفيش زيارة! - طيب والتصاريح! - تصاريح ايه؟؟!! - اللي انت اخدتها! - هو أنا خدت منكم حاجة؟؟!! اثبتوا!! ولما تعالت الأصوات بالدعاء عليهم، قالوا: بتدعوا علينا ليه؟ احنا ملناش دعوة، روحوا خدوا حقكم من اللي حبسهم ولا قبض عليهم. احنا ملناش دعوة بحاجة. وخرجنا من هناك الساعة الثانية ظهرا، بعد انتظار ثمان ساعات. اللي معه تصريح يفكر هل يأتي يوما آخر أم لا. واللي سُرق منه التصريح يفكر ماذا يفعل. نفكر في أحبابنا بالداخل، ياترى عاملين ايه؟ ايه اللي بيحصل جوة ومش عايزينا نعرفه ولا نشوفه؟ يا ترى عارفين اننا بنجيلهم وبنحاول ولا لا؟ والأهم من كل ذلك نفكر، وماذا بعد؟ ما الحل؟ وما آخر ما نحن فيه؟ ولكن ظننا بالله خير، ويقيننا أنه لن يضيعنا، هو مولانا ونعم النصير والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون زيارة العقرب