لما بلغ هرقل(1) أن نبيًا ظهر في جزيرة العرب سأل: هل يتبعه فقراء الناس أم أغنياؤهم؟ فقيل له بل فقراؤهم، فعلم هرقل من هذه الأمارة ومن ضمائم أخرى أنه نبي حقًا. فهل معنى ذلك أن الأغنياء رفضوا الإسلام واجتمعوا على مناوأته؟ كلا. إن عددًا من الوجهاء وأصحاب الجاه دخلوا في الإسلام وناصروه بما يملكون، ولكنهم كانوا قلة محدودة، أما الكثرة الساحقة من رجال السلطة وعشاق اللذة، وعبيد الدنيا، فقد ناوءوا الإسلام وحاربوا الرسول بكل ما يملكون حتى نزل قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (الأنعام:123) ويظهر أن ما يسمى «نظام الطبقات» عرف في تاريخ البشر من عهد مبكر، فقد وجد أيام نوح عليه السلام، وتكاثر الفقراء في أتباعه، وأنف الكبراء أن يكونوا معهم أو ينضموا إليهم وقالوا لنوح: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (الشعراء:111 وطلبوا إليه أن يطردهم من حوله حتى يخلو المكان لهم! فكانت إجابة نوح: وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ {11/29} وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (هود:29-30) والغريب أن ما وقع لنوح والنبيين من بعده، وقع لمحمد عليه الصلاة والسلام، فقد ذهب إليه سادة قريش وأبدوا أنفتهم من أن يجمعهم بالفقراء مجلس واحد، وحرصهم على أن ينفردوا بالجاه والعظمة. قال سعد بن أبي وقاص: كنا مع رسول الله ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه –فكر في إجابة المشركين- فأنزل الله تعالى: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ {6/52} وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (الأنعام: 52-53) وقد لاحظت أن النبي كان شديد الحرص على إسلام هؤلاء الكبراء وإزاحة العوائق التي تمنعهم من التوحيد، ولا شك أن إسلامهم لو تم يختصر نصف أعباء الدعوة ويهيئ لها قاعدة الانطلاق إلى أنحاء الأرض، ولذلك أرجأ الوقوف مع «ابن أم مكتوم» إلى لقاء قريب وآثر عليه بعض أصحاب السلطة، ولكن الوحي النازل كان حاسمًا في رفض هذه السياسة، وكاشفًا أن الدعوة سوف تنتصر بأولئك المستضعفين، وتستغني عن أولئك المستكبرين، ويشاء الله أن ابن مسعود الذي احتقر السادة الجلوس معه هو الذي يجسم على صدر أبي جهل ويذيقه الحتوف في معركة بدر. إن البياض والسواد والضعف والقوة والغنى والفقر صفات لا تكوّن الشخصية الإنسانية، ولا ترجح كفتها لا في الدنيا ولا في الآخرة، إن القلب المشرق بالطيبة والتواضع واحترام الحق هو الجدير بالحفاوة والتقديم. عن عائذ بن عمرو المزني – وهو من أهل بيعة الرضوان- رضي الله عنه- أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذتْ سيوف الله من عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر رضي الله عنه لهم: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ وأتى النبي فأخبره. فقال: «يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر وقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي». وقد أسلم أبو سفيان مع الطلقاء في فتح مكة هو وأسرته، بيد أن منزلته دون منزلة السابقين الأولين وأصحاب البلاء المبين في رفع ألوية الإسلام أيام محنته وإدبار الدنيا عنه، ولذلك يقول جل شأنه: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (الحديد:10). إن موازين الآخرة لا تعترف إلا بالإيمان والجهاد فالمكثر منهما يسبق المقل منهما، يخمل وإن كان في الدنيا ذا شأن. فعن أبي هريرة عن رسول الله قال: «إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة»(2).