جاء إعلان أوباما "باستدارة" بلاده وجهها ل"كوبا" وتطبيع العلاقات معها، صادمًا "لجيل الحرب الباردة"، إلا أنه لم يأتِ من فراغ بل كمحطة توجت توجه الرئيس أوباما عقب فوزه بولاية رئاسية ثانية، عام 2012، واتخاذه القرار بضرورة إجراء مراجعة شاملة للسياسة الأمريكية حيال كوبا. بهدوء وثبات أعلن رئيس الولاياتالمتحدة "استدارة" بلاده لتطبيع العلاقات مع كوبا ونظامها الاشتراكي، واكبه إقرار صريح بفشل سياسة الحصار الأمريكي الممتدة لخمسة عقود ونصف؛ ووعد الرئيس أوباما "ببدء عهد جديد مع كوبا .. وإنهاء نهج قديم في السياسة" نحوها، مناشدًا الكونجرس "البدء بإجراءات لرفع العقوبات عن كوبا"، التي أرساها الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور، ونفذها الرئيس كينيدي، إذ " لا نفع للعقوبات مع دولة تساعدنا في مكافحة الإرهاب". بعض أعضاء حلف الناتو اعتبر الإعلان "مصالحة تاريخية"، خاصة وأن عددًا من الدول الأوروبية وكندا لم تشاطر واشنطن إجراءاتها بالمقاطعة، وعارضتها أيضا أغلبية ساحقة من الدول الأعضاء في الأممالمتحدة وحاضرة الفاتيكان. يذكر أن قرار أيزنهاور ومن ثم كنيدي جاء تطبيقًا لمذكرة وزارة الخارجية الأمريكية قدمتها ربيع عام 1960، حثت فيها الرئيس على اتخاذ "سلسلة خطوات عملية .. تتسبب في إحداث مجاعة (ومن ثم تؤدي) للإطاحة بحكومة" الرئيس كاسترو، وهذا الوضع الشاذ كان حاضرًا بقوة في إعلان الرئيس أوباما غير المسبوق في إقرار صريح وواضح بفشل السياسة الأمريكية الرسمية. الإعلان الجديد جاء ثمرة جهود مكثفة مباشرة بين هافانا وواشنطن، تحت رعاية كنداوالفاتيكان، استمرت 18 شهرًا شهدت جولات مد وجزر هددت بإفشال المسعى بالكامل، سيما لإصرار الولاياتالمتحدة على ضرورة إطلاق كوبا سراح 58 سجينًا معتقلين لديها ثبتت عليهم تهمة العمالة لليانكي – كما توصف واشنطن في أمريكا الجنوبية، فضلا عن إطلاق سراح الأمريكي آلان جروس بالمقابل، طلبت كوبا من واشنطن إنهاء الحصار أحادي الجانب المفروض عليها، وتطبيع العلاقات، واستعادة مواطنيها الثلاثة المحتجزين مقابل إطلاقها سراح الأمريكي "جروس" وسجين واحد بمفرده، من أصول كوبية، رولاندو صراف تروخيو، معتقل منذ نحو 20 عامًا بتهمة التجسس لصالح وكالة الاستخبارات المركزية. سبق الإعلان مكالمة هاتفية أجراها الرئيس أوباما مع الرئيس الكوبي راؤول كاسترو، استعرضا فيها تفاصيل اللحظات الأخيرة لترتيبات الإعلان دامت 45 دقيقةً، واتفقا على التوجه لمواطني بلديهما في وقت متزامن لاطلاعهم على "الحدث التاريخي"، ما غاب عن وسائل الإعلام، أو تجاهلته، امتثال واشنطن لشرط الجانب الكوبي بأن الطائرة الأمريكية لن يسمح لها مغادرة الأراضي الكوبية إلا بعد مرور 5 دقائق على وصول الطائرة التي تقل المواطنين الكوبيين الثلاثة إلى أرض الوطن؛ تجسيدا للخشية من غدر اليانكي وتنصله من تعهداته مما اضطره الانصياع واحترام سيادة الدولة والشعب الكوبي، وهذا ما نالته كوبا قبل مغادرة الطائرة الأمريكية. انتصرت كوبا وثأرت لجيفارا وكرامتها على الرغم من أن الإعلان جاء صادمًا "لجيل الحرب الباردة"، إلا أنه لم يأتِ من فراغ بل كمحطة توجت توجه الرئيس أوباما عقب فوزه بولاية رئاسية ثانية، عام 2012، واتخاذه القرار بضرورة إجراء مراجعة شاملة للسياسة الأمريكية حيال كوبا، أثمرت تلك الجهود بعقد اللقاء الأول منتصف عام 2013 بين نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي، بن رودس، ومدير مجلس الأمن القومي في كوبا، ريكاردو زونييجا، كما أتت استجابة متأخرة لنحو "23 عامًا .. طالبت فيها الجمعية العامة للأمم المتحدةالولاياتالمتحدة سنويًّا رفع الحصار المفروض على كوبا". ردود الفعل الأمريكية جاءت متباينة، من كلا الحزبين، لتعكس حالة الانقسام السياسي داخل المؤسسة الحاكمة، قادة الحزب الديموقراطي بمعظمهم رحبوا بقرار الرئيس أوباما بتطبيع العلاقات، ووضع سياسة الإقصاء والحصار في الخلف، والتأكيد على أن سياسة العزل لم ولن تجدي نفعًا، وينبغي إطلاق مبادرات سياسية جديدة. بعض القادة الديموقراطيين لفت النظر إلى إحدى أهم القضايا التي تضمنها إعلان الرئيس أوباما، بقوله "أتطلع بشوق لاشراك الكونجرس في نقاش صادق وبناء لرفع الحصار؛" معربين عن اعتقادهم أنها ستكون معركة حامية الوطيس ليس مع نواب الحزب الجمهوري فحسب، بل مع عقلية الحرب الباردة المتجسدة "بشيطنة" كوبا والرئيسين كاسترو؛ وهم الذين أُخذوا على حين غرة في مناسبة "مصافحة الرئيس أوباما للرئيس كاسترو أثناء اشتراكهما في تأبين الرئيس نيلسون مانديلا"، في ديسمبر الأول من العام الماضي. مستشار الأمن القومي الأسبق زبجنيو بريجينسكي وصف تطبيع العلاقات بأنه "يشكل نجاحًا لكلا الرئيسين أوباما وكاسترو، وغذاء فكريًّا للرئيس فلاديمير بوتين". المرشحة المحتملة للرئاسة عن الحزب الديموقراطي، هيلاري كلينتون، تدعم قرار الرئيس أوباما بالانفتاح، مرشح الرئيس أوباما لمنصب نائب وزير الخارجية، أنثوني بلينكن، حضر جلسة استجواب في مجلس الشيوخ مخصصة لنيل موافقته على المنصب، قبل بضعة أيام، أشار مواربة إلى التقارب الأمريكي الكوبي وتوجهه في منصبه الجديد لعدم معارضة إجراءات تتخذ لتخفيف الحصار والعقوبات على كوبا "شريطة إفراج نظام الرئيس كاسترو عن آلان جروس". صقور الحرب ينددون على الجانب المقابل، سارع أقطاب الصقور ومعسكر الحرب في التنديد بالانفتاح الأمريكي، لا سيما المتشددين في الحزب الجمهوري، وعلى رأسهم العضوان من أصول كوبية والمرشحان المحتملان للرئاسة، تيد كروز و ماركو روبيو، إذ اعتبر الأخير أن الرئيس أوباما فرّط في مكانة وهيبة الولاياتالمتحدة، وقدم تنازلات تضر بالمصالح القومية – وفق توصيفه. الجالية الكوبية، ذات التأثير البالغ في ولائها للحزب الجمهوري، وتعتبر نفسها في "حالة حرب دائمة ضد كوبا"، شهدت انقسامًا أيضًا عبر عنه الرئيس أوباما بأنه "صراع بين جيل القدامى وجيل الشباب؛" إذ يعتقد الجيل القديم أنه يستحق وصف السجناء السياسيين، وهو الذي تربى على شيطنة الرئيس فيدل كاسترو، وأنه لا يجوز للولايات المتحدة الإقدام على اتخاذ أي خطوة من شأنها أن تؤدي لإضفاء الشرعية على الحكومة الكوبية، أما "أولاد المهاجرين الكوبيين لا يتبنون تلك النظرة المتشددة لآبائهم .. بل يميلون للاعتدال في كافة مناحي الحياة"، كما وصفها بعض المراقبين المختصين بشؤون الجالية الكوبية، ومراقبة مسار سجلات تصويتها في الانتخابات الأمريكية. وأوضح أولئك الأخصائيين أن "المؤسسة السياسية للكوبيين الأمريكيين لم تعدل أيا من مواقفها حول التعامل مع كوبا، بيد أنها لم تعد تتحدث بالنيابة عن المهاجرين الكوبيين بشكل عام"، للدلالة على التحولات المذكورة، نشرت جامعة فلوريدا الدولية نتائج استطلاع للرأي أجرته في فصل الصيف المنصرم في مدينة ميامي الكبرى التي دلت على أن "غالبية الأمريكيين الكوبيين يؤيدون إنهاء حالة الحصار في واقع الأمر – سيما فئة الوافدين منذ عام 1995 الأشد حماسة للمطالبة بإنهاء الحصار، إذ أعرب نحو 90% منهم عن تأييده لتطبيع العلاقات" بين البلدين. هاجم الرؤساء الأمريكيون منذ بدء الحصار على كوبا التصدي أو الحد من تهوّر الكوبيين الهاربين، وارتكابهم أعمالا معاديةً ضد كوبا. الكاتبة الأمريكية التقدمية، أليس ووكر، وصفت نزعة الجبن وقلة الحيلة بالقول "عدد من زعمائنا ينظر إلى الجالية الكوبية المحافظة في فلوريدا، والتي تتضمن القتلة والإرهابيين، أنها بمجموعها تشكل زخمًا انتخابيًّا". (كتاب الهاوية الجذابة، )2004 مسألة الاستحقاقات السياسية في الجولة الانتخابية القادمة أيضًا كانت حاضرة بقوة في ردود الفعل المختلفة، خاصة إعلان نجل الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، جيب بوش، نيته الترشح للانتخابات الرئاسية عن الحزب الجمهوري، في اليوم السابق لإعلان الرئيس أوباما، واصطفاف الطامعين في الترشح لا سيما ذو الأصول الكوبية، ماركو روبيو، يذكر أن بوش وروبيو يمثلان ولاية فلوريدا، وترشح بوش يهدد حظوظ روبيو بشكل خاص، ليس لانتمائه العائلي فحسب، بل لسجله وإنجازاته أثناء توليه منصب حاكم الولاية. معركة إسقاط ورفع العقوبات استغلت دومًا ككرة سياسية يتجاذبها الحزبان وما بينهما من آراء وتوجهات لتحقيق نصر آنٍ أو الشعور به، والمسألة الكوبية تعد باحتدام المعركة لتنافر مصالح الطرفين، الديموقراطي والجمهوري. من المتوقع أن يشكل عامل انخفاض أسعار النفط قاعدة تبرير قوية لعدم المساس بإجراءات العقوبات القائمة ضد كوبا، يعززه دعم روسياوفنزويلالكوبا واللتين استهدفهما مباشرة القرار السياسي بتخفيض سعر النفط، في ظل اشتداد الحملة الأمريكية على روسياوفنزويلا تحديدًا سيضغط أنصار استمرار العقوبات باتجاه المضي فيها إلى أبعد مدى بغية إلحاق أكبر قدر من الضرر باقتصاد ونفوذ البلدين، جسدته واشنطن بتصعيد إجراءات المواجهة ضد فنزويلا بالتزامن مع إعلان انفتاحها على كوبا، أو تراجعها بشكل أدق. يجادل المتطرفون في الحزبين بضرورة إبقاء العقوبات سارية المفعول، والتي من شأنها الضغط على كوبا لإدخال إصلاحات ليبرالية على نظامها السياسي والاقتصادي؛ لفتح باب حضور الشركات الأمريكية على مصراعيه، لأول مرة منذ خمسة عقود، كما يعتقدون. العقوبات الأمريكية لها بعد يخص السلطة التشريعية، والذي لا يملك الرئيس أوباما خيار غض الطرف عنه، سيما أمام جدل التيارات المتشددة لإبقاء العقوبات بأن تطبيع العلاقات دون الحصول على تفويض أو موافقة من الكونجرس يشكل انتهاكًا للقوانين الأمريكية الخاصة بتشديد العقوبات على كوبا: قانون ليبرتاد لعام 1996؛ قانون ديمقرطة كوبا لعام 1992؛ قانون الثنائي هيلمز-بيرتون؛ وقانون حظر الإتجار مع العدو، قانون الثنائي هيلمز-بيرتون ينص على تقييد إنشاء علاقات ديبلوماسية مع هافانا باشتراط إطلاقها سراح كافة السجناء السياسيين وإقامة انتخابات حرة. بالمقابل، ليس هناك نص قانوني يترتب عليه صراع الصلاحيات بين السلطتين إن لجأ الرئيس أوباما لتطبيق رمزي بطيئ للقوانين المذكورة الخاصة بكوبا، مثلا باستطاعة الحكومة الأمريكية غض الطرف عن معاقبة الشركات الأمريكية التي تنشط التبادل التجاري مع كوبا دون التهديد بانتهاكها القانون، بيد أن الطرف الآخر استبق توجه الرئيس أوباما وحفز السلطة القضائية على إصدار قرار ملزم يقر بانتهاك الرئيس أوباما للدستور عند لجوئه لاستخدام صلاحية إصداره قرارات رئاسية عوضًا عن السلطة التشريعية. وقال القاضي الفيدرالي آرثر شواب، في مقاطعة بنسيلفانيا، إن قرارات الرئيس أوباما الخاصة بالهجرة غير صالحة وهي بمثابة "تشريعات" صادرة عن السلطة التنفيذية. الكونجرس يتسلح دومًا بسيطرته على إقرار الميزانية، ويلوح باستمرار استخدامها لإفشال سياسات الرئيس أوباما، خاصة في ظل سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الكونجرس بدءًا في مطلع العام الجديد، يضاف إلى ذلك أن مجلس الشيوخ يحتفظ بالحق الحصري للمصادقة على تعيين السفراء الأمريكيين، ومن المستبعد أن يلبي توجه الرئيس أوباما تعيين سفير مقترح للسفارة الأمريكية في هافانا. في ظل هذا الوضع المتشابك والمليئ بالمواجهات المقبلة والحادة بين السلطتين، يُطرح سؤالٌ مشروع حول إلى ما يستند إليه الرئيس أوباما من أوراق ضغط تخوله المضي بالمواجهة، خاصة في ظل حشد إعلامي وسياسي متصاعد يندد بفشل سياساته الخارجية، وتراجع الدعم لبرامجه الداخلية؛ إضافة لولعه بإنجاز شيئ ما ملموس قبل نهاية ولايته الرئيسية يضاف لرصيده وارثه السياسي، في هذا السياق يمكن المرء استيعاب "استدارته" نحو تطبيع العلاقات مع كوبا، والتقدم في مفاوضات التوصل لاتفاق مع إيران. البابا والفاتيكان لخدمة السياسة الأمريكية يشير البعض إلى رغبة الرئيس أوباما بإصلاح ما تردى من علاقات مع حاضرة الفاتيكان، لا سيما إبان عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، الأمر الذي يضفي أهمية استثنائية على حرص الرئيس أوباما اللجوء لنفوذ الفاتيكان الطاغي في أمريكا اللاتينية تحديدًا، وتوظيفه في إصلاح العلاقات مع كوبا، ولم يتأخر بابا الفاتيكان، إذ بادر بمخاطبة رؤساء البلدين، وعرض استضافته لمحادثات ثنائية لبحث الملفات العالقة بينهما. كما لا يجوز إغفال أهمية عامل الفاتيكان ودعمه للرئيس أوباما في حشد تأييد، أو تحييد المعارضة، داخل المشهد السياسي الأمريكي، سيما وأن الحبر الأعظم الحالي يتمتع بتأييد نحو 68% من الكاثوليك الأمريكيين، المنفعة متبادلة أيضًا، إذ تعززت سيطرة البابا فرانسيس على الكنيسة الكاثوليكية، التي بدأت تشهد بعض الانقسامات والتباين في دعم سياسة الفاتيكان في عدد من المواضيع الاجتماعية "الشائكة"، لا سيما الموقف من المثليين جنسيًّا، فضلا عن ما يوفره النفوذ المتجدد للحبر الأعظم التدخل سياسيًّا في أمريكا اللاتينية. شغل البابا فرانسيس (خورخي ماريو بيرغوغليو) أعلى مرتبة كنسية في الأرجنتين خلال حكم الطغمة العسكرية في البلاد، 1976-1983، والدور الذي لعبه وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر في الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال خورخي فيديلا برعاية وكالة الاستخبارات المركزية، والذي أطاح بحكومة إيزابيل بيرون. تخلى المجلس العسكري عن السلطة، 1983، لصالح الرئيس المنتخب راؤول ألفونسين الذي أنشأ لجنة تقصي الحقائق؛ لكشف النقاب عن "الحرب القذرة" وجرائمها بحق القوى التقدمية والعمالية والطلبة؛ وكذلك الجرائم التي نفذت في إطار "عملية كوندور – النسر الأمريكي"، شارك فيها مختلف النظم الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية بإشراف واشنطن وأجهزتها المختلفة لمطاردة وتعذيب واغتيال واختفاء عشرات الآلاف من معارضي الأنظمة العسكرية، بمن فيهم الكهنة والراهبات المعارضات للحكم العسكري. إدانة الديكتاتورية العسكرية، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان بشكل خاص، كان من المحرمات داخل الهرم القيادي للكنيسة الكاثوليكية الذي دعم المجلس العسكري بالكامل مقابل معارضة القاعدة الشعبية. في عام 2005، قدم المحامي في مجال حقوق الإنسان ميريام بريجمان دعوى جنائية ضد "الكاردينال خورخي بيرجوجليو" متهمًا إياه بالتآمر مع المجلس العسكري في عملية خطف اثنين من الكهنة اليسوعيين المعارضين للحكم العسكري، عام 1976، تلاه اتهام الناجين من "الحرب القذرة" علنًا "الكاردينال خورخي بيرغوغليو" بالتواطؤ في خطف الكهنة فرانسيسكو خاليكس و أورلاندو غوريو، إضافة لستة أعضاء من "رعيتهم"، أربع مدرسات واثنين من أزواجهن. الكاهن المختطف "غوريو" أطلق سراحه بعد خمسة أشهر، واتهم بيرغوغليو مباشرة بتسليم المجموعة لفرق الموت، بل الأهم ما ورد على لسان يوريو خلال محاكمة قادة المجلس العسكري عام 1985، إذ قال "أنا واثق من أنه نفسه (بيرغوغليو) اعطى قائمة بأسمائنا للقوات البحرية ."، التي احتجزتهم في مدرسة تابعة لهم – ESMA بالقرب من بوينيس آيرس. جدير بالذكر، لمن يهمه الأمر، أن بيرغوغليو "استخدم حقه برفض المثول أمام المحكمة المدنية بموجب القانون الأرجنتيني .. وعندما أدلى بشهادته عام 2010 كانت إجاباته مراوغة". فضلا عما ورد في مذكرة سرية للحكومة العسكرية، أدرجت سجلات المحكمة لاحقًا (تاريخ 24 ايار 1976)، أكدت ان "الأب بيرغوغليو اتهم الكاهنين (خاليكس و غوريو) بإقامة اتصالات مع العصابات الثورية .. ورفضا الانصياع" لتعليماته. ما ورد شكل قمة جبل الجليد في تواطؤ هرم الكنيسة الكاثوليكية مع الديكتاتورية العسكرية، شهد عليها الجنرال خورخي فيديلا، الذي يقضي الآن حكمًا بالسجن مدى الحياة، في مقابلة صحفية جاء فيها "بقي التنظيم الهرمي الكاثوليكي في البلاد على علم بسياسة النظام الخاصة باختفاء المعارضين السياسيين، وقدم الزعماء الكاثوليك النصيحة (للمجلس العسكري) بشأن كيفية إدارة المسألة". لمزيد من توضيح تواطؤ الكنيسة مع الطغم العسكرية، لعب الفاتيكان تحت رعاية البابا بولس السادس والبابا يوحنا بولس الثاني (البولندي) دورًا محوريًّا في دعم المجلس العسكري الأرجنتيني. في الشق المقابل، لا ينبغي إغفال ما تمثله النزعات التحررية وإرساء النظم الاشتراكية في عموم القارة الجنوبية من أهمية بالغة، وانتهاج قادتها سياسة اقتصادية وسياسية بمعزل واستقلالية عن واشنطن، وربما شكل ذلك أحد أهم العوامل التي أدت لترشيح البابا فرانسيس، لمنصبه الحالي كي يتولى مهمة الإطاحة بالنظم الاشتراكية (فنزويلاوكوبا وبوليفيا) وتقويض استقلال البرازيل وبلدان أخرى في أمريكا اللاتينية، وإعادتها لتبعية حظيرة اليانكي الأمريكي، أسوة بما أوكل من مهمة مشابهة للبابا يوحنا بولس السادس، بولندي المولد، ودوره البالغ في تفتيت النظم الاشتراكية في بولندا وأوروبا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي. ينظر للبابا الحالي (ومن ورائه) بأنه يحاول جاهدًا تقديم صورة متواضعة وشعبوية لموقع الحبر الأعظم تؤدي إلى تبييض صفحته السابقة التي تعرضت للانتقاد في الأرجنتين، وتشكيل رأس حربة القوة الناعمة على المسرح الدولي. التداعيات السياسية لانفتاح أوباما إذا نظرنا إلى إعلان الرئيس أوباما بالانفتاح على كوبا من منظار استدرار عطف، وتأييد الجالية الكوبية المهاجرة في أمريكا، فلن يسعفه الأمر في ظل تشبث القوى التقليدية المسيطرة داخلها بمواقفها المعادية والرافضة لتطبيع العلاقات مهما كلف الأمر، والمتآمرة على وحدة وسيادة بلدها الأم، بل تنطح أحد اهم زعماء الحزب الديموقراطي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب مننديز، ذو أصول كوبية أيضًا، لقرار رئيس حزبه واتهمه بأنه بذلك "يبرر السلوك الوحشي للحكومة الكوبية"، وأضاف أن هذه "الصفقة غير المتماثلة ستستنهض المزيد من مشاعر العداء ضد حركة المعارضة الكوبية (وتسهم) في تقوية سيطرة الحكومة الديكتاتورية على مواطنيها". نظيره الجمهوري، ماركو روبيو، وعضو لجنة مننديز للعلاقات الخارجية اعتبر الخطوة "عبثية"، والرئيس "أوباما أسوأ مفاوض في منصب الرئيس منذ (الرئيس) جيمي كارتر على أقل تعديل"، وزعم روبيو أن الكونجرس لا يؤيد رفع الحصار عن كوبا، مهددًا باستخدام الجمهوريين نفوذهم في إقرار الميزانيات، وحجب التمويل عن البعثة الديبلوماسية الأمريكية في هافانا وعدم المصادقة على تعيين سفير أمريكي هناك. ينبغي النظر إلى ذلك المشهد في سياق التنافس على الانتخابات الرئاسية المقبلة، 2016، ومراهنة الجمهوريين على توظيف عداء الجالية الكوبية في فلوريدا لتطبيع العلاقات لصالح مرشحيهم، ولاية فلوريدا تعد من بين الولايات بالغة التأثير والأهمية وبإمكانها التأرجح في تأييد الحزبين، كما شهدت "عمليات التزوير المنظم" التي أدت لفوز المرشح جورج بوش الابن في ولايته الأولى. الضلع الثالث في المثلث الكوبي المتشدد داخل الكونجرس، تيد كروز، أيضا شارك في حملة انتقاد قاسية للرئيس أوباما واتهامه بعدم الاتعاظ من "مساعي تقارب إدارته مع نظم مارقة مثل روسياوإيران، والتي أدت إلى تقلص النفوذ الأمريكي وتشجيع أعدائنا"، يذكر أن والد السيناتور كروز اضطهد وعذب لمناهضته نظام باتيستا العميل، والتحق للقتال مع فيديل كاسترو، وترك الساحة إراديًّا عام 1957. الثنائي من أصول كوبية، كروز وروبيو، ينتهزان كل فرصة متاحة للتعبير عن نيتهم الترشح للانتخابات الرئاسية، والتي سيراهن كليهما على نيل دعم وتأييد الجالية الكوبية المعادية للتطبيع، خاصة المقيمة في ولاية فلوريدا، وإدراكهما المشترك للأهمية البالغة للولاية، وحجم ممثليها الكبير من المندوبين للمؤتمر السنوي للحزب الجمهوري. الدورة المقبلة لمجلس الشيوخ، تحديدًا، تنذر بمزيد من المتاعب والعقبات السياسية أمام الرئيس أوباما، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار أن ماركو روبيو سيتسلم رئاسة اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية لشؤون أمريكا اللاتينية، وستعزز مكانته لإبطاء أو التعرض لبند إقرار ميزانية السفارة الأمريكية، وتعيين السفير لدى هافانا، اللذين سيجري تداولهما داخل لجنته في المرحلة الأولى. في الشق الدستوري الصرف، يستمر العمل بقوانين المقاطعة ضد كوبا؛ بيد أن نفوذ القطاع التجاري الطاغي داخل الحزب الجمهوري قد يؤدي لبروز صيغة للتبادل التجاري بما يضمن عدم انتهاك صريح للقوانين الأمريكية؛ أو الانتظار لحين مغادرة الرئيس أوباما منصبه للحصول على شروط أفضل، سياسية وتجارية.