في خطاب هو أقرب للنقد الذاتي لسياسة بلاده، أقرَّ وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند، بسلسلة من الأخطاء التي تسببت في توتير علاقتها مع العالم الإسلامي، منها أنها وضعت الحركات الإسلامية كلها في سلة واحدة، وصنفت المسلمين إلى معتدلين ومتطرفين، وشاركت مع دول غربية أخرى في الإبقاء على المسلمين في "الحضيض" منذ زمن الحروب الصليبية وحتى الآن. وأمام المئات في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، تحدث ميليباند في كلمة ألقاها مساء أمس عن حاجة بلاده لتغيير جذري في سياستها تجاه العالم الإسلامي قائلا: "لقد أخطأنا عندما وضعنا التنظيمات الإسلامية كافة في سلة واحدة بعد اعتداءات 11 سبتمبر بالولايات المتحدة، ولم نفرق بين التنظيمات التي تكافح من أجل استعادة أراضيها، وبين تلك التي لديها أهداف عالمية، أو بين تنظيمات يمكن إشراكها في العملية السياسية الداخلية وأخرى تعارض العمل السياسي ولا تفهم إلا لغة العنف". واعتبر أنه بسبب هذا الخلط "صار يتم النظر إلى الغرب ليس على أساس أننا ضد الإرهاب، كما كنا نتمنى أن يُنظر إلينا، بل على أساس أننا ضد الإسلام"، بحسب ما نشرته صحيفة "الحياة" اللندنية اليوم الجمعة. وقال إنه من أجل توسيع التحالفات والحصول على رضا المسلمين "علينا أن نحترم المسلمين، ونفهم العالم الإسلامي في شكل أفضل"، منتقدا استخدامه في السابق مصطلحي "المعتدلين" و"المتطرفين"، وهما مصطلحان يستخدمها كثير من ساسة الغرب للتفريق بين الدول التي تتعاون مع الرؤية الغربية في الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب، وتلك التي لا تتعاون معها. ويُعد هذا الموقف التغيير الأساسي الثاني في رؤية ميليباند لتعامل بلاده مع العالم الإسلامي؛ حيث سبق أن قال قبل شهور إن استخدام عبارة "الحرب ضد الإرهاب" كان خطأ. "الحضيض" وفي تصريح ندر ما أظهره مسئول غربي قال ميليباند: "أؤمن بأن لاحتجاجات المسلمين ضد الغرب ما يبررها؛ فهم يرون أنه (الغرب) يريد إبقاءهم في الحضيض، والأمر كذلك فعلا"، بحسب ما نشرته "بي بي سي" العربية نقلا عن الصحافة البريطانية. وفي استرجاع لعدد من الوقائع التي ساهم بها الغرب في إبقاء المسلمين في "الحضيض" عاد الوزير البريطاني بذاكرته إلى فترة الحروب الصليبية، ثم سياسة بلاده الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، مشددا بشكل خاص على دورها في تمكين اليهود من أرض فلسطين، ثم وقوفها بعد ذلك ب55 عاما إلى جانب أمريكا في غزو العراق. وعلق على هذه الوقائع بأنها "ولَّدت شعورا بالمرارة وعدم الثقة والنفور من بلادنا، وكانت سببا في كثير من الضيم الذي لحق بكثيرين في الشرق الأوسط وجنوب آسيا". وعن بداية إصلاح هذا الخلل في العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي قال ميليباند: "يجب علينا الإقرار بأن هناك اختلافات بين الجانبين، وأنه ليس هناك طريقة واحدة تُحدد كيف يجب أن نحيا، وإذا أردنا بناء علاقات وتحالفات أوسع فعلينا أن نُظهر احتراما أكبر للمسلمين". ورأى أن "الأمن في هذا العالم لم يعد يمكن أن تضمنه قوة عظمى وحيدة، ولا حتى اجتماع قوى عظمى مع بعضها.. إن التهديدات الناشئة عن التغييرات المناخية والإرهاب وانتشار الأوبئة والأزمات الاقتصادية واسعة جدا؛ ما يجعلها أكبر من طاقة دولة واحدة لمواجهتها بمعزل عن غيرها من الدول". وأضاف: "الأمن يحتاج إلى عنصرين لا يمكن الاستغناء عنهما، الأول هو أننا نحتاج إلى أوسع تحالف للدول والحركات السياسية، الأمر الذي يعني أن نكون مستعدين لتشجيع المصالحة مع المنظمات التي ربما لا نتفق مع قيمها لكنها قد تكون مستعدة لقبول أن هناك مصالح تجمعنا". والعنصر الثاني- يتابع ميليباند- هو "أننا نحتاج إلى رضا الناس.. في القرون الماضية، كانت التحالفات تُقام من خلال الملوك أو المعاهدات التي يوقّعها الملوك وتحترمها -أو لا تحترمها- الطبقة الحاكمة، لكن السلطة في العصر الحديث لا يوجد فيه هذا الأمر". وقال إنه "فيما تحتاج الدول الغربية إلى التمسك بقيمها فإن أي تحالف يجب أن يشمل في بعض الأحيان مجموعات لا نشترك معها في الأهداف، ويمكن أن نجد قيمها غير مقبولة، أو أن طرقها مشبوهة". خطوات عملية وفي إشارة إلى تطبيقات فعلية للسياسة الجديدة لبلاده التي تحدث عنها قال ميليباند: "ندعم الرئيس الصومالي الجديد شيخ شريف شيخ أحمد (في مواجهة معارضيه في الداخل) على رغم ماضيه في المحاكم الإسلامية"، مبررا ذلك بأن شريف الآن "يسعى إلى منع استغلال الشباب الصومالي، ومنع تشويه صورة الإسلام". كذلك تحدث عن الحوار مع أطراف في حركة طالبان، قائلا: إن هذه الحركة عبارة عن تنظيم فضفاض بعضه لا علاقة أيديولوجية له بتنظيم القاعدة، وأقر بخطأ استبعاد بعض الأطراف البشتونية التي كانت جزءا من طالبان عن مؤتمر بون الذي أطلق عملية بناء السلطة الأفغانية بعد إطاحة حكم "طالبان" في نهاية 2001. وقال إن حكومة بلاده ستدعم الانتخابات التي ستجرى الشهر المقبل في لبنان وإيران والمغرب، وقبل نهاية السنة في تونس وأفغانستان "ما دامت ستجري وفق معايير مقبولة". وردا على من يقول إن بلاده رفضت التعامل مع حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات الفلسطينية عام 2006، قال إن لندن "لم تقل إن حماس لم تفز في الانتخابات، ولم تقل إن الاقتراع لم يكن شرعيا، بل رفضت التعامل مع حكومة حماس لأنها رفضت السير في عملية سياسية تهدف إلى الوصول إلى حل على أساس دولتين (إسرائيل وفلسطين)". ولفت إلى أن بريطانيا وعددا من شركائها في الاتحاد الأوروبي رفضوا التعامل مع الحكومة النمساوية عام 2000 بسبب آرائها اليمينية المتطرفة، ما يعني أن الإجراء ضد حماس "لم يكن يستهدفها بوصفها حركة إسلامية، بل بسبب مواقفها". وليس من المعلوم إن كانت رؤية ميليباند هي ما ستأخذ بها بريطانيا في الفترة المقبلة أم لا؛ حيث كشفت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أمس الخميس أن رئيس الوزراء جوردون براون، يستعد لإجراء تعديل حكومي يطيح بوزير الخارجية من منصبه. وأضافت الصحيفة أن هناك توقعات كبيرة بأن يحل اللورد بيتر ماندلسون محل ميليباند كوزير للخارجية على أن يوكل للأخير منصب وزير الداخلية، في خطوة نظر إليها بأنها تنزيل من رتبة شخص تحدى زعامة براون على حزب العمال في العام الماضي.