إن المتابع عن كثب لحركة حماس و أسلوب إدارتها للأزمات الجارية على الساحة الفلسطينية سرعان ما يدرك أنه أمام تنظيم سياسي إحترافى بكل ما تعنيه الكلمة وظهرت هذه الحرفية أكثر في إدارة أزمة العدوان الإسرائيلي على القطاع، لقد كان الفعل الحمساوى يبعث بالفعل على الدهشة ويجعلك ترفع القبعة احتراما وإجلالاَ لهذا النبت الطيب المبارك ولعلنا هنا نقدم قراءة سريعة، تحتاج بكل تأكيد لمزيد من العمق لنعطى لهذه الحركة قدرها وحتى تستطيع كافة حركات التحرر في العالم الاستفادة من هذه التجربة الثرية التي لا ينضب معينها بإذن الله .
ماذا فعلت حماس مع الأنظمة العربية ؟
تعاطت حماس مع الواقع العربي بواقعية فلم تعول كثيرا َعلى الحكام العرب ولكنها حرصت وعلى لسان قادتها على وضعهم أمام مسئولياتهم وثمنت كل موقف داعم للمقاومة وأشادت به واختلفت و( عتبت ) على كل نظام يتصادم مع المقاومة و لعتاب هنا لغة مهذبة اعتمدتها حماس في إدارة اختلافاتها مع الأنظمة العربية حتى لا تزيد الأمور تعقيداَ، وحرصت في حوارها مع المختلفين معها أن يكون الحوار بلغة الأرقام واستدعاء التاريخ القديم والبعيد فكانت تدلل على كل موقف بعشرات الأدلة المنطقية والموثقة التي تلجم الطرف الآخر وتربكه.
كان الموقف الأكثر حساسية بالنسبة لحماس هو الموقف المصري المنحاز بالكلية للموقف الإسرائيلي وإن لجأ في نهاية العدوان لمحاولة إطلاق بعض التصريحات للاستهلاك المحلى والدولي لتحسين الصورة التي تشوهت وأصبحت أكثر بشاعة من الاحتلال ذاته لأنها من الأخ والصديق.
ماذا فعلت حماس إزاء هذا الموقف ؟ وخاصة أنها تدرك جيداَ أن روح القطاع – معبر رفح – بيدها ؟، في البداية حرصت حماس على عدم الدخول في صراع مباشر ومعلن مع النظام المصري واعتمدت حماس في إدارتها للصراع معه على أسلوب التلميح والإحراج دون التصادم معه، بينما تركت مهمة التصادم للمتعاطفين مع الحركة سواء من النخب أو الشعوب وكان هجومهم قاسياَ على النظام المصري وظلت إدارة الأزمة مع النظام المصري تتحرك في خطوط متوازية، خط تفرضه المقاومة بصمودها ويوصل للجميع رسالة مفادها أن عمر حماس في غزة أكبر مما يتوقعه البعض، خط آخر لجأ للمواجهة مع النظام المصري بالتلميح والإحراج حتى لا تستعدى حماس النظام المصري المعادى أصلاَ بمواقفه والخط الثالث هو خط المواجه المكشوفة وحمل راية هذا الاتجاه هو المتعاطفين مع حماس ومع مشروع المقاومة وكانت هذه الجبهة هي الأكبر والأكثر تأثيرا َ لأنها لم تقتصر على المثقفين والمفكرين فقط ولكنها شمل كل الشعوب الحرة حول العالم والمتتبع لتصريحات خالد مشعل يجد في كل حديث تقريباَ مطالبته للشعوب باستمرار انتفاضتها الداعمة للمقاومة وللأمانة لم تكن الشعوب في حاجة إلى من يوجهها فالحدث كان موجعاَ وفاجعاَ للدرجة التي لا يحتاج أحد إلى من يطالبه بالتحرك، وكانت نتيجة هذا الفعل السياسي هو أن حماس كسبت المعركة مبكراَ وقبل أن تضع الحرب أوزارها كان العدو الإسرائيلي والحليف المصري يصابا بتخبط في الحركة تحت ضربات الحراك الشعبي العربي والعالمي وخرجت حماس من المعركة وهي تمثل كل رمزية الصمود والمقاومة لمعظم شعوب العالم بينما خرج النظام المصري الرسمي منكس الرأس مكروه من الجميع. ومما يوضح مدى حرفية حماس في عدم فقد هذا الزخم والرصيد العالمي، هو عدم لجوء حماس لسلاح الاستشهاديين داخل العمق الإسرائيلي حتى لا يحدث أي اهتزاز لصورة حماس أو للدعم المعنوي الذي وفرته لها الشعوب. كيف تعاملت حماس مع العدو في حربه الوحشية ضد الشعب الفلسطيني ؟
أدركت حماس منذ اللحظة الأولى أنها تتعامل مع عدو مفرط في القوة والوحشية على حد سواء، لذلك حرصت حماس منذ بداية الحرب على توحيد الكلمة والسلاح في غزة ونجحت في ذلك نجاحاَ باهراَ بحيث أن المرء لم يشعر طيلة الحرب بأن هناك ( فصائل ) تحارب ولكن ( فصيل ) واحد يتحرك بتنظيم وتنسيق متميز، كما أدركت الحركة أن تحقيق النصر على إسرائيل لا يتحقق بالمواجه المباشرة ولكن بإفشال أهدافها، بحيث يكون النصر لا بتكسير عظام العدو وإن كان هذا غاية المنى ولكن بإفشال مهامه التي أعلن عنها وبرر بها حربة البربرية ضد الشعب الفلسطيني، لذلك اعتمدت حماس على إستراتيجية المواجهة غير المباشرة مع العدو للحفاظ على بنيتها التحتية مع استخدام الحرب النفسية وإحداث توازن الرعب عبر تدفق الصواريخ على المدن والبلدات الإسرائيلية التي كانت – الصواريخ اليومية - تعلن فشل الحملة الإسرائيلية حتى انتهت الحرب ولم تحقق إسرائيل هدفاَ واحداَ مما أعلنته وكان هذا الفشل الذريع هو لب انتصار حماس فحين تكون الحرب بين طرف مفرط في القوة وطرف آخر مفرط في الضعف – المادي – يصبح الثبات على الموقف هو أعظم انتصار.
كيف تعاملت حماس مع المنظمات الدولية ؟ حماس هي أكثر من يعرف أن معظم المنظمات الدولية وجدت من أجل أمن إسرائيل وتبرير مواقفها، لذلك لم تلتفت إليها كثيراَ بل اعتبرت أن اللجوء إليها من الأنظمة العربية هو من باب العبث والعجز بل يصب في صالح الاحتلال ذاته، حيث ساوت هذه المنظمات بين الجاني والضحية، لكن حماس من جانب آخر حرصت على أن تكسب معركتها مع المنظمات الدولية غير الحكومية والتي تحظى بمصداقية لدى شعوب العالم وكان وسيلة حماس هو توثيق الحدث بالصوت والصورة فسهلت قدر المستطاع مهمة وسائل الإعلام ووفرت لهم كل دعم ممكن للقيام بعملهم ونقل كل هذا الزخم الهائل من صور ومشاهد الدمار وقتل الإنسان واستخدام الأسلحة محرمة دوليا َإلى هذه المنظمات بل دعوتهم إلى غزة لرؤية الجريمة بأم أعينهم، وكسبت حماس أيضاَ هذه الجولة وبفضل العدو المجرم الذي لم يترك فرصة إلا وأثبت فيها مدى خسته ونذالته، فأدانت معظم المنظمات الحقوقية ما حدث في غزة بل بدءوا في رفع قضايا أمام المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة قادة العدو كمجرمي حرب.
كيف إدارة الحركة علاقتها مع أبومازن والسلطة الفلسطينية ؟
استخدمت حماس مبدأ المكاشفة والمواجهة مع نظام عباس وخصوصاَ أن تواطئه كان مفضوحاَ للجميع، وأدركت حماس منذ اللحظة الأولى أن يد عباس ونظامه ملوثه بدماء الشعب الفلسطيني فكشفت حماس حجم تواطئه وعرّته أمام الجميع وبينت أن اغتيال سعيد صيام لم يكن ليتم بدون مساعدة من السلطة ثم جاء غياب عباس عن قمة الدوحة كاشفاَ بلا مواربة عن حجم الخيانة وتكفّل هو بفضح نفسه ، نعم استجابت حماس لدعوات الحوار التي وجهت إليها ولكنها كانت تدرك أنها دعوات لإضاعة الوقت فتعاملت معها بحجمها وقدرها، كما ظهر سمو ونبل حماس أثناء العدوان، فرغم أنها أعلنت قبل بدأ العدوان أنها لن تعترف بعباس رئيساَ لفلسطين بعد التاسع من يناير إلا أنها لم تجعل هذا معركتها الأساسية أثناء العدوان، حاولت حماس رأب الصدع ولكن لمّا أصبحت رائحة الخيانة تزكم الأنوف لم يكن أمام حماس سوى المصارحة حتى يحدث التمايز بين الحق والباطل وحتى يعرف الشعب الفلسطيني من يشارك في قتله وسفك دمه.
كيف أدارة حماس علاقتها بالشعب الفلسطيني ؟ علمت حماس أنها لا يمكن أن تنجح في صد العدوان دون احتضان شعبي لها، فعملت منذ اللحظة الأولى على التعبئة المعنوية الإيمانية وإيضاح الحقائق للجميع والقيام بواجبها كحكومة شرعية من الوفاء باحتياجاته قدر المستطاع.
لم تكن هذه التعبئة الشعبية بالطبع وليدة المعركة فحسب ولكنها جزء أساسي من مشروع حماس الحضاري وكان أهم ما قدمته حماس للشعب الفلسطيني هو النموذج والقدوة في التضحية والفداء فقدمت من دماء قادتها الكثير وبالتالي أصبح الشعب أكثر اقتناعا بها لأنها أصبحت في مقدمة من يضحى في سبيل الأرض والعرض والدين. إن إدارة حماس لأزمة العدوان يدل على نضج سياسي وفكرى وحركي على أعلى مستوى ولا أدعى أن ما فعلته حماس في إدارتها للأزمة يمكن أن يحتويه مقال ولكنها إطلالة سريعة على حركة احتلت بالفعل مرتبة عالية في ضمير هذه الأمة بل لعلى لا أكون مبالغاَ إذا قلت أن حماس أصبحت نموزجاَ يحتذي لكافة حركات التحرر في العالم.