"أوروبا القديمة" و"أوروبا الجديدة".. في أوروبا الشرقية، تهيَّأت للولايات المتحدة فرصة لتطويق "الدب الروسي" مع مَصْدَري قوَّته الاستراتيجية ، "الترسانة النووية" و"الغاز"، عَبْر ضَمِّ دولها إلى حلفها، "حلف الأطلسي"، وعَبْر "العلاقة الثنائية"، بأوجهها كافة، فتفتَّق ذهن رامسفيلد عن هذه "الفكرة التمييزية"، متوقِّعاً أن تُتَرْجَم بابتناء قلاعٍ للنفوذ الاستراتيجي للولايات المتحدة في تلك المنطقة الوسطى ، أي التي تتوسط بين روسيا وأوروبا الغربية.
استراتيجياً، تتصوَّر الولاياتالمتحدة أوروبا الشرقية، أو "أوروبا الجديدة"، على أنَّها موقع متقدِّم ل "درعها" ضد الصواريخ النووية الروسية، وممرَّاً لأنابيب نفط وغاز (إلى أوروبا الغربية) تسيطر هي عليها، وعلى مصادِر الطاقة التي تتدفق فيها، فروسيا يجب النيل من قوَّتها النووية، ومن قوَّة نفوذها الطاقيِّ في أوروبا الغربية، التي يجب أن تخضع للنفوذ الطاقيِّ للولايات المتحدة، من خلال تَحكُّم "الحكومة العالمية" في"الأنابيب الجديدة البديلة (من الأنابيب الروسية)"، وفي مصادِر الطاقة في آسيا الوسطى وبحر قزوين.
وتريد الولاياتالمتحدة لتركيا أن تكون جسراً لنفوذها الطاقي في أوروبا الغربية، من خلال جعلها مركزاً لشبكات الأنابيب الجديدة البديلة، فعضوية تركيا في هذا "الحلف الطاقيِّ" الذي تقوده الولاياتالمتحدة ضدَّ روسيا، ومن أجل إحكام قبضتها الاستراتيجية على "القلعة الأوروبية"، أهم بكثير من عضويتها في "حلف الأطلسي". وتوصُّلاً إلى الغاية ذاتها، تصارِع الولاياتالمتحدة من أجل السيطرة على "النفط الإفريقي" الذي يملك كثيراً من الخواص التنافسية. وبدعوى تقليل تبعيتها ل "النفط الخليجي"، وللسعودي منه على وجه الخصوص، وَجَّهت الولاياتالمتحدة شركاتها النفطية العملاقة إلى زيادة استثماراتها في تلك المصادِر العالمية الجديدة للطاقة. وها هي رايس قامت ب "زيارتها التاريخية" لليبيا، قائلةً إنَّ من أهداف هذه الزيارة أن تُظْهِر الولاياتالمتحدة وتؤكِّد أنْ ليس لديها من أعداء دائمين. وإعلامياً، نَشَرَت إدارة الرئيس بوش فكرةً مؤدَّاها أنَّ الغاية هي أن تُثْبِت رايس ل "النوويين" في كوريا الشمالية وإيران أنَّ حذوهم حذو ليبيا (على الصعيد النووي) سيعود عليهم بما عاد على الليبيين من "نفع" و"فائدة". كلاَّ، ف "الدافع" و"الهدف" مختلفان تماماً؛ ولولا شركة "غازبروم" الروسية العملاقة لما اكتشفت رايس أهمية ليبيا في سعي الولاياتالمتحدة إلى إقامة الدليل على أنْ ليس لديها من "أعداء دائمين"، ولما أقامت وزناً ل "الأخلاق النووية الحميدة" لطرابلس الغرب. قبل أن تقوم رايس ب "زيارتها التاريخية"، وقبل أن يشتعل فتيل الصراع الدولي الجديد في الثامن من أغسطس المنصرم، عرضت تلك الشركة التي تملكها الحكومة الروسية "شراء كل المتاح من الغاز الليبي (مع بعض إنتاج ليبيا من النفط)". وبعد لقاء مع الزعيم الليبي العقيد القذافي، أعلن رئيس الشركة الروسية أنَّ شركته ترغب في شراء "كل الكميات المتاحة مستقبلاً من الغاز الليبي بسعر السوق".
وشركة "غازبروم" هي من أهم أدوات النفوذ الاستراتيجي للكرملين في أوروبا الغربية، فهي تلبِّي ل "أوروبا القديمة" أكثر من رُبْع احتياجاتها من الغاز؛ وقد وقَّعت سنة 2006 اتفاقاً مع الجزائر للتعاون في مجال الغاز. وهذا الاتفاق أثار في أوروبا الغربية مخاوف من أن يتعاون أكبر مُصَدِّرين للغاز إليها (روسياوالجزائر) على رفع أسعار الغاز أكثر فأكثر، أي كما تفعل منظمة الدول المُصَدِّرة للنفط (أوبك). إنَّ اللعبة الاستراتيجية التي تلعبها الحكومة الروسية، في مجال الطاقة، عبر شركة "غاز بروم"، هي ما حَمَلَت رايس على القيام ب "زيارتها التاريخية" لليبيا، وعلى أن تضرب صفحاً عن تهمة "الإرهاب" التي كانت توجِّهها الولاياتالمتحدة إلى العقيد القذافي، كما ضربت فرنسا صفحاً عن "قضية الحريري"، وعن اتِّهامها دمشق، غير مرَّة، بالتورُّط في اغتياله. ويخطئ كل من يتصوَّر دوافع وأهداف "القمَّة الرباعية (الدولية الإقليمية العربية)" في دمشق بما يتعارض مع "المسار الدولي الجديد" الذي بدأ في جورجيا في الثامن من أغسطس المنصرم، فساركوزي إنَّما هو نفسه رايس التي قامت ب "زيارتها التاريخية" لليبيا. لقد خشيت الولاياتالمتحدة من الطريقة التي فهم فيها الرئيس السوري بشار الأسد ما حدث في جورجيا. الرئيس الأسد سارع إلى إظهار رغبته في أن تطوِّر دمشق علاقتها (الاستراتيجية) مع موسكو بما يساعد روسيا في أن تعود قوَّة عالمية عظمى. أخشى ما خشيته الولاياتالمتحدة هو أن ترى شيئاً من "أوكرانيا" و"جورجيا" في علاقة دمشقالجديدة مع موسكو، فالأسطول الروسي قد يتمتَّع في ميناءي طرطوس واللاذقية بما يتمتَّع به في شبه جزيرة القرم في أوكرانيا؛ كما أنَّ شيئاً من "جورجيا" يمكن أن تقوم به سوريا في لبنان. وربَّما تتطوَّر علاقة دمشق أكثر مع موسكو فنرى شيئاً من "بيلاروسيا" في سورية، التي حاولت (على ما يبدو) أن تقنع روسيا بأهمية الموقع السوري في مواجهة خطة الولاياتالمتحدة لنشر أجزاء من "درعها الصاروخية" في بولندا وتشيكيا. لقد شرع يأفُل نجم القوَّة العظمى في العالم، فما كان للولايات المتحدة أن تشذَّ عن القانون الفيزيائي لحياة النجوم الضخمة. "النجم الضخم" لا يمكنه أن ينعم زمناً طويلاً بضخامة كتلته، فهو يستنفد طاقته سريعاً، ويموت، بالتالي، قبل النجم الذي يصغره كتلةً؛ ولكن دوي موته يهزُّ السماء. ولن تشذَّ عن "قانون نابليون"، فالولاياتالمتحدة، وفي عهد الرئيس بوش، امتلكت من غرور القوَّة ما يَعْدِل، إنْ لم يَفُقْ، ما امتلكت من القوَّة نفسها، فنفث "شيطان القوَّة" في روع رئيسها أنَّ "الحراب" يمكن فِعْل كل شيء بها، فامتثل واستخذى لوسوسته، ضارباً صفحاً عن "نصيحة نابليون".. "إنَّكَ تستطيع فِعْل كل شيء بالحراب عدا الجلوس عليها". التاريخ عَقَد للولايات المتحدة على العالم، فهل "تقود" أم "تحكم"؟ إنَّها لم تكن (على عظمتها اقتصادياً وعسكرياً) بأهل ل "القيادة"، فأجابت، إذ استبدَّت بها مصالحها، على البديهة قائلةً إنَّها "ستَحْكُم"، و"ستُحرِّر" العالم شبراً شبراً، حتى تغدو "الحكومة العالمية"، فأرسلت جيوشها إلى الحرب بدعوى محاربة "الإرهاب" تارةً، وبدعوى نشر "الديمقراطية" طوراً! وعلى الولاياتالمتحدة، الغاضبة الآن على روسيا، ومنها، ألاَّ تنسى أنَّ من غرور القوَّة الذي أستبدَّ بها، ومن عواقبه، في العراق وأفغانستان وسائر العالم، استمدَّت روسيا جزءاً كبيراً، إنْ لم يكن الجزء الأكبر، من قوَّتها.. وليس بوتين سوى الابن الشرعي ل "الضرورة التاريخية الروسية"؛ وأكاد أن أقول ل "الضرورة التاريخية العالمية"، فالعالم الكاره للولايات المتحدة، أي العالم الذي حبَّبت إليه الولاياتالمتحدة كراهيتها، هو الذي في تربته يضرب "التحدي الروسي" جذوره عميقاً.. كيف لا، وهو الذي جرَّبها واختبرها إذ عَقَدَ لها التاريخ على العالم؟!
روسيا اليوم، لا تستمدُّ قوَّتها من "غازٍ" يجري في شرايين اقتصاد الاتحاد الأوروبي كما يجري الدم في شرايين الحياة؛ ولا من "الغلاء النفطي العالمي" الذي يملأ خزائنها ب "القطع النادر"؛ ولا من نهوض اقتصادي لم تعرفه قبل عهد بوتين؛ ولا من "ترسانتها النووية" التي تسعى الولاياتالمتحدة في جعلها "خُرْدَة"؛ ولا من موقعها الجيو استراتيجي في القوقاز والذي أثبتت أهميته حماقة ساكاشفيلي التي تعيي من يداويها. إنَّها مستمدَّةٌ من انفجار الروح القومية للروس ضدَّ الإذلال الغربي لها، وضدَّ "إسرائيل الجورجية"، فروسيا (النووية) المتماسكة بقوَّة الشعور القومي، هذه المرَّة، هي التي ينبغي للغرب أن يخشاها، مُتذكِّراً، في الوقت نفسه، عواقب الإذلال القومي الأوروبي للألمان. وإنَّها مستمدَّةٌ أيضاً من اشتداد حاجة معظم العالم إلى قوَّة عالمية جديدة، توازِن وتردع القوَّة العالمية للولايات المتحدة، ف "روسيا الموازِنة الرادعة" هي الآن، وأكثر من ذي قبل، "مطلب عالمي"، و"حاجة عالمية (وإنسانية وحضارية)"؛ ولسوف يقف كثيرٌ من المتضررين من حُكْم الولاياتالمتحدة الأوتوقراطي للعالم مع "القط الروسي" مهما كان لونه إذا ما أرادوا لعالمٍ من "قوس قزح" أنْ يُوْلَد. أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا "استقلَّتا".. هذا ليس ب "الخبر"، ف "استقلال روسيا" الكامن في "استقلالهما" هو وحده "الخبر"! لقد حَلَفَت الولاياتالمتحدة (لروسيا) أغلظ الأيمان أنَّ صواريخها المضادة للصواريخ في بولندا، مع رادارها في تشيكيا، ليست ضدَّ صواريخ روسيا، وإنَّما ضد صواريخ إيران، فلم تُصدِّقها لأسباب عِدَّة، أهمها أنَّها لا تثق بنيَّاتها. ولو سُئِلت عن السبب الذي يَحْمِلها على مناصبة البرنامج النووي الإيراني العداء لأجابت على البديهة قائلةً إنَّها "لا يثق بالنيَّات الإيرانية"، فطهران تُضْمِر شرَّاً نووياً عسكرياً، وينبغي للعالم أن يمنعها (بالعقوبات.. وبالحرب في آخر المطاف) من تطوير هذا البرنامج الذي ظاهره مدني، وباطنه عسكري. أمَّا روسيا فلا ينبغي لها أن تقف من "الدرع المضادة للصواريخ" موقفاً مشابهاً لموقف الولاياتالمتحدة من البرنامج النووي الإيراني، فهنا، أي في الموقف الروسي من تلك "الدرع"، يجب أن يُغَضُّ النظر عن "النيَّات"، وعن "الاستخدام المزدوج"! لِتُصَدِّق واشنطن المزاعم النووية لطهران حتى تُصَدِّق موسكو مزاعم واشنطن في أمر "الدرع الصاروخية"! ولكن هل لدى الولاياتالمتحدة الآن من المصالح والأهداف ما يَحْملها على خفض منسوب التهوُّر في سياستها بوجهيها الكلامي والعملي؟ كلاَّ، ليس لديها الآن، أو حتى الآن، فأخشى ما نخشاه أن تكون الغاية هي إخضاع الاتحاد الأوروبي ل "النفوذ الطاقي" للولايات المتحدة، فتحريض أوروبا الغربية (والشرقية) على معاداة روسيا قد يضطَّر موسكو إلى شنِّ حربٍ من نفط وغاز على الأوروبيين، فيصبح ممكناً، بالتالي، أن تقنعهم الولاياتالمتحدة بجدوى وأهمية وضرورة بقاء "المارينز" في العراق (بما يتمتَّع به من أهمية نفطية) مع إحكام قبضتها على مصادِر الطاقة في أماكن أخرى، وكأنَّها لا تريد للعالم أن يبقى إذا لم يبقَ خاضعاً لسلطانها إلى الأبد! جواد البشيتي* *كاتب فلسطيني الأردن