يصعب على المرء أن يتصور كيف مُنح سلمان رشدي لقب الفروسية علماً ان جميع البريطانيين والغربيبن عامة يعرفون مشاعر المسلمين حيال هذا الكاتب والروائي ، خاصة في هذه المرحلة الحساسة والحرجة من "المواجهة" بين الشرق والغرب ،الإسلام المتشدد والعولمة. من الآن وصاعداً سيحضر سلمان رشدي جميع الإحتفالات الملكية والمناسبات الرسمية "فارساً" سوية مع كبار الفاتحين والمكتشفين ورجال الدولة ، إضافة إلى ما تبقى من أعضاء فريق الخنافس أو البيتلز الشهير. عندما اصدر سلمان رشدي كتابه السيّئ الصيت المعنون (آيات شيطانية) الذي يمس فيه شخص الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وآل بيته وصحابته (رضي الله عنهم)، فإنه قد اثار زوبعة إعلامية وسياسية كبيرة أدت إلى "الإفتاء" بسفك دمه ، كما فعل الخميني وآخرون آنذاك. وكان الكتاب "ضربة" رشدي، كاتباً، للنجومية (حسب المنظور الغربي) حيث تهافت عليه الجميع (في الغرب خاصة) كي يقرأون أفكارهم المضادة للإسلام على صفحاته بعد أن خطت وحبرت بقلم رجل مسلم في الأصل. كانت الفكرة وقتذاك تتلخص ب"من فمك أدينك". وبكلمات أخرى ، حقق الكتاب أعلى المبيعات عبر تلك الفترة التي لم تكن خلالها هناك ثمة مواجهة بين الإرهاب والأصولية الإسلامية من ناحية، وبين الغرب، من الناحية الثانية. لقد صدر الكتاب في عصر الحرب الباردة. ولكن رشدي توارى عن الأنظار واكتفى بعدة أمتار من مكان سري كي يبتعد عن مخاطر مهاجمته وربما قتله. ومع هذا فتحت العاصفة التي أحدثتها روايته، آيات شيطانية، شهيته للمزيد من المؤلفات والروايات التي لم ترق بنفسها وآثارها الإعلامية إلى مستوى "الآيات". وإذا كان سلمان رشدي قد أحرز نجاحاً مهولاً في العالم الغربي ، فإنه قد أحرز عداءً مقابلاً وموازناً في العالم الإسلامي ، الأمر الذي أدى إلى توظيف "التجربة" من قبل العقل الغربي لمهاجمة العالم الإسلامي بشتى الطرق والأساليب ، ومنها وصمه بإحتقار حرية الكاتب أو الفنان. واحد من أهم الأساليب التي استعملها العقل الغربي، ممتطياً كتاب سلمان رشدي، يتمثل في الرد على الأصوات المسلمة التي كانت تطالب بإنزال أقصى العقوبات بالكاتب بإعتباره قد تخطى الحدود وإعتدى على أهم المقدسات الإسلامية في عالم يبحث عن التسامح والتعايش بين الأديان. ولكن الغرب عامة، وبريطانيا خاصة، لم تنزل عند رغبة الجاليات المسلمة الكبيرة في دواخلها ولم تمس سلمان رشدي ولا حتى تصدر أمراً بإعتقاله. على العكس ، ربما ساعدت السلطات البريطانية آنذاك رشدي على الحفاظ على حياته وابعاده عن أنظار المتربصين به والمتوعدين بسفك دمه. وكان القصد من هذا كله هو إدانة العقل الشرقي، المسلم خاصة. لقد تأبط العقل الغربي فكرة الإختلاف بين أخلاقيات الأديان والمجتمعات المحافظة من ناحية ، وبين أخلاقيات الفن ، من الناحية الثانية. وكانت هذه مناسبة ذهبية للبرهنة على أن الحكومات الغربية لا يمكن أن تمس أخلاقيات الفن والعالم الخاص بالفنان مهما تجاوز حدوده الإجتماعية أو الروحية. وبذلك تم تحويل سلمان رشدي إلى سلاح قوي لإدانة العالم الإسلامي الذي لا يميز بين أخلاقيات المجتمع وأخلاقيات الفن، حسب رأيهم. وقد تناسى البريطانيون ، خاصة ، كم من كاتب وشاعر بريطاني قد تعرضوا للإضطهاد وللحرمان من النشر بسبب آرائهم المضادة للدين أو افكارهم الإلحادية ، حيث حرمت كتابات الشاعرين شيلي Shelley وبايرون Byron في عصرهما وبقيت محدودة التداول بسبب مثل هذه الآراء ونظراً لمناهضتهما للمؤسسات البريطانية بأنواعها. حتى كتابات الكاردينال نيومن Newman كانت غير محببة وشبه محرمة نظراً لأن الرجل كان قد إعتنق الكاثوليكية بديلاً عن الإنكليكانية ، ناهيك عن مقاومة وتحريم كتابات من نوع مؤلفات لورنس D.H.Lawrence بإعتبارها منافية للأخلاق العامة في القرن العشرين. نعم ، هناك شيء من إزدواجية المعايير بقدر تعلق الأمر بتخطي سلمان رشدي للخطوط الحمراء التي يتحسس منها المسلمون. ولكن لماذا لم تمنح الملكة سلمان رشدي وسام الفروسية مذاك ، وأرجأت منحه أرفع الأوسمة إلى اليوم ، حيث تتفاعل الأصولية الدينية في العالم الإسلامي ، وحيث تستحيل هذه الأصولية إلى حركات وميليشيات تهدد العالم الغربي وبضمنه بريطانيا. هذا سؤال مهم يستحق الملاحظة. ربما يكون المقصود، كما يرى البعض، هو أنك يمكن أن تطلق العنان لأفكارك المضادة لدينك في الشرق كي تجد ملاذاً يحيمك من غضب المتشددين ، بل ويكرمك في العالم الغربي ، كما فعل رشدي. هذا إعتبار مهم ليس بقدر تعلق الأمر بالإسلام فقط ، وإنما بقدر تعلق الأمر بالأديان الشرقية القديمة والكبيرة كذلك ، إبتداءً بالكونفشيوسية وإنتهاءً بالبوذية: فالغرب يوفر لك الحماية والملاذ الآمن لحماية نفسك إذا أردت مهاجمة عقائد وتيقنات الأديان الكبيرة ، ولكن شريطة أن تمتلك الموهبة وأدوات الكتابة الرفيعة وأن تتمكن من صنعة التأليف. وبذلك تكون الأبواب مفتوحة لمن يريد الإقتداء برشدي داخل العالم الإسلامي ، لأنه يمكن أن يقول ما يريد ثم يلجأ إلى العالم الغربي الذي سيحفظ له حياته ، بل ويكافئه على ما قاله من آراء "شجاعة". ربما تكون هذه هي الخلاصة العصية التي لم يتمكن المتظاهرون في باكستان وفي سواها من الأقطار الإسلامية أن يتوصلوا إليها في جهدهم الإنفعالي لإدانة قرار الملكة.