محافظة بورسعيد.. مواقيت الصلوات الخمس اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    ارتفاع أسعار الذهب 20 جنيها مع بداية تعاملات اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    سعر الفراخ البيضاء بعد آخر زيادة.. أسعار الدواجن اليوم الاثنين 18-8-2025 للمستهلك صباحًا    موعد انتهاء الأوكازيون الصيفي 2025 في مصر.. آخر فرصة للتخفيضات قبل عودة الأسعار    رئيس وزراء فلسطين ووزير الخارجية بدر عبد العاطي يصلان معبر رفح.. بث مباشر    "بالورقة والقلم "... الفلسطينيون يعلمون أن مصر تقف بقوة مع قضيتهم ومظاهرة الإخوان أمام السفارة المصرية في تل أبيب فضيحة للتنظيم    4 شهداء بينهم طفلة بقصف إسرائيلى على غزة والنصيرات    إعلام عبري: تقديرات الجيش أن احتلال مدينة غزة سوف يستغرق 4 أشهر    إسرائيل تقر خطة احتلال مدينة غزة وتعرضها على وزير الدفاع غدا    مؤتمر بنزيمة: المواجهة بين اتحاد جدة والنصر وليست أنا ضد رونالدو    بعد تعافيه من الجراحة .. إمام عاشور يشارك فى تدريبات الأهلي اليوم فى التتش دون "التحامات قوية"    إيقاف محمد هاني الأبرز .. رابطة الأندية تعلن عقوبات الأسبوع الثانى بالدورى اليوم.    هل ستسقط أمطار في الصيف؟ بيان حالة الطقس اليوم الاثنين على أنحاء البلاد ودرجات الحرارة    رسميًا.. اعتماد نتيجة الشهادة الإعدادية 2025 الدور الثاني في المنوفية    وصول المتهم بالتعدى على الطفل ياسين لمحكمة جنايات دمنهور لاستئناف محاكمته    محافظ المنوفية يعتمد نتيجة الشهادة الإعدادية الدور الثانى بنسبة نجاح 87.75%    إصابة 14 شخصا فى تصادم سيارتى ميكروباص وربع نقل على طريق أسوان الصحراوى    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    تعرف على مواعيد حفلات مهرجان القلعة للموسيقى والغناء وأسعار التذاكر    دار الإفتاء توضح حكم شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    مؤشر نيكاي الياباني يسجل مستوى قياسي جديد    ارتفاع سعر اليورو اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 أمام الجنيه بالبنوك المصرية    رابط نتيجة وظائف البريد المصري لعام 2025    إخماد حريق داخل منزل فى البدرشين دون إصابات    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    انطلاق الموسم الخامس من مسابقة «مئذنة الأزهر للشعر العربي» وتخصيصه لدعم القضية الفلسطينية    نشأت الديهي: شباب مصر الوطني تصدى بكل شجاعة لمظاهرة الإخوان فى هولندا    نشأت الديهى: أنس حبيب طلب اللجوء لهولندا ب"الشذوذ الجنسي" وإلإخوان رخصوا قضية غزة    وفاة عميد كلية اللغة العربية الأسبق ب أزهر الشرقية    مجرد أساطير بلا أساس علمي.. متحدث الصحة عن خطف الأطفال وسرقة أعضائهم (فيديو)    طب قصر العيني تبحث استراتيجية زراعة الأعضاء وتضع توصيات شاملة    نصائح لحمايتك من ارتفاع درجات الحرارة داخل السيارة    كم سجل عيار 21 الآن؟ أسعار الذهب اليوم في بداية تعاملات الاثنين 18 أغسطس 2025    حكيم يشعل أجواء الساحل الشمالي الجمعة المقبلة بأجمل أغانيه    "2 إخوات أحدهما لاعب كرة".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة إمام عاشور نجم الأهلي    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    كل ما تريد معرفته عن مسابقة توظيف بريد الجزائر 2025.. الموعد والشروط وطريقة التسجيل    إساءات للذات الإلهية.. جامعة الأزهر فرع أسيوط ترد على شكوى أستاذة عن توقف راتبها    أرتفاع الحديد.. أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    ترامب يهاجم وسائل الإعلام الكاذبة بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    الرئيس اللبناني: واشنطن طرحت تعاونًا اقتصاديًا بين لبنان وسوريا    التحقيق في مقتل لاعبة جودو برصاص زوجها داخل شقتهما بالإسكندرية    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تهافت العلمانية
نشر في الشعب يوم 13 - 02 - 2014

إنه لمن أعسر الأمور بل من المستحيل أن تجادل شخصا دون أن يكون لكما مرجعية تتفقان عليها. والجدل بين الإسلاميين والعلمانيين هو ذلك الجدل المستحيل. فمرجعية الإسلاميين هي الإيمان بالله ورسوله وكتابه وسنة نبيه والالتزام بأوامر ونواهي الشرع الشريف، والمثال الرائع الذي يتطلعون إليه هو دولة الرسول والخلفاء الراشدين، فليس أروع ولا أعدل ولا أرحم ولا أعظم من هذه الحقبة في تاريخ البشر، وقصر مدتها (أربعون عاما) لا يقلل من قيمتها ويكفي أنها برهان على عدم استحالة رفع البشر إلى تلك القمة السامقة. وليس تاريخ المسلمين بعد هذه الفترة هو ما نصبو إليه ونسعى لإقامته رغم أنه في مجمله أعظم وأرحم من تاريخ أي دولة عرفها البشر. أما مرجعية العلمانيين فهي الغرب بدءا من الثورة الفرنسية وحتى اليوم، ما قال به مفكرو الغرب يعد وحيا مقدسا مهما كان به من عفن ودنس، وما شرعوه لأنفسهم هو التقدم والرقي، وما أباحوه من شهوات هو الحرية وحقوق الإنسان، أما الله فهو وهم وخيال، والقرآن أساطير الأولين والسنة كذب وتدليس، والشريعة قوانين العصور الوسطى البدوية. فكيف نجادل قوما كهؤلاء !!
لو جادلنا شخصا مسلما فيكفي أن نذكر له قول الله تعالى:
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً) – الأحزاب 36
(مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) – الأنعام 38
(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) – النساء 83
(قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) – البقرة 140
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ – الملك 14
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) – الجاثية 18
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) – آل عمران 132
(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) – الشورى 38
(إِنِ الحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ) - الأنعام 57
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) – المائدة 44
إلى آخر آيات الله تعالى البيانات التي أنزلها الله هدى ونور للعالمين، وآلاف الأحاديث التي تنظم العلاقة بين الناس بعضهم وبعض، بين الرجل والمرأة، ويبن الآباء والأبناء، وبين العمال وأصحاب الأعمال، وبين التجار والمستهلكين، وبين المسلمين وغير المسلمين، وبين المحاربين والمعاهدين والمسالمين.
ومن المستحيل أن نجادل عن كل اعتقاد وعن كل تشريع وعن كل خلق وعن كل فضيلة، وخاصة أن الطرف الآخر لا يؤمن بنفس المرجعية فما قيمة أن نقول لهم إن الله قال كذا وكذا وهم لا يؤمنون بالله أو يظنون أن هناك إله ما خلق العالم ثم تركه وشأنه، ولأنهم لا يستطيعون التصريح بذلك فهم يزعمون أن الله أنزل كتابا لا يصلح سوى لبدو الصحراء في العصور الوسطى وأن المجتمعات الحديثة أعظم من أن يشرع لها وينظمها دين نشأ في الصحراء. الممكن الوحيد مع هؤلاء هو أن نجادلهم في وجود الله وفي أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) هو رسول الله، فإن آمنوا فقد اهتدوا ونحن وإياهم على صراط مستقيم، وإن أبوا فنحن بريئون منهم إلى يوم القيامة. فإن قالوا نؤمن بالله ورسوله ونأبى أن نتبع ما جاء به، نقول لهم (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) – البقرة 85
والورقة الرابحة في يد هؤلاء هي التقدم المادي للغرب يخدعون بذلك سذج المسلمين مدلسين عليهم أن ذلك التقدم هو نتيجة تلك المبادئ العلمانية، زاعمين أن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين. وكيف يكون الإسلام هو سبب تخلف المسلمين وقد صنع من قبائل العرب الهمجية دولة عظيمة تمتد من الصين إلى حدود فرنسا وساد بهم العالم سياسيا وعسكريا وعلميا وحضاريا ما يربو على ألف عام. ولم يكن للعرب الأميين ذكر قبل الإسلام ولولا الإسلام لظلوا بدوا في صحرائهم حتى اليوم، بل إن تلك الحركة لتعد شذوذا غير عادي في تاريخ البشر.
والذي سيدهش أولئك العلمانيين أن تلك المبادئ العلمانية ليست هي سبب التقدم المادي للغرب بل هي معول هدم لتلك المدنية الوثنية. فالبشر لم يتوقفوا عن التقدم منذ عهود الغابة وحتى اليوم، فقدماء المصريين كانوا سادة الدنيا حضارة وعلما وتنظيما واختراعا واكتشافا، فبما كانوا يؤمنون؟ وهل كانت لديهم حرية شخصية وديمقراطية واقتصاد السوق؟ لقد كان الحكم ملكيا متألها والدين وثنية وكهانة وكل شيء ملك للفرعون والناس عبيد لديه، وهكذا كان الحال في ثاني أعظم حضارة قديمة وهي حضارة العراق من سومرية وبابلية وآشورية. ومصر والعراق هما المدرسة التي نهل منها اليونان، والحضارة اليونانية هي قبلة العلمانيين وكعبة الفلاسفة قديما وحديثا، وهذه الحضارة كانت وثنية حتى النخاع، فكانوا يعبدون أصناما نحتوها بأيديهم ويكرسون كاهنات للدعارة الدينية في المعابد، والتجارة عندهم محض سرقة وقرصنة. والكذب والغش والخيانة والخداع هي في عرفهم أخلاق حميدة تنم عن الذكاء والفطنة. والصداقة اليونانية الشهيرة هي تعبير مهذب عن الشذوذ الجنسي، وفيلسوف عظيم مثل سقراط كان له عشيق. والنظام الاجتماعي غاية في البشاعة فالعبودية هي الأساس الاقتصادي، ومعاملة العبيد لا يتخيلها أحد فمن حق السيد أن يقتل عبده دون سبب ومن حقه أن يفعل به ما يشاء من ضرب وبتر وجماع. والغريب أن هؤلاء العبيد كانوا يونانيين. وكانت الحروب مشتعلة بين الدويلات اليونانية لا يخمد لها أوار، فضلا عن التناحر الطبقي داخل كل دويلة مما صبغ تاريخ اليونان كله بالدم.
والديمقراطية الغربية المزعومة ابتدعها الاسبرطيون وليس الأثينيون، واسبرطة كما يعلم الجميع هي أبشع نظام استبدادي عرفه البشر وما زالت رمزا للدكتاتورية العسكرية. وقيام الديمقراطية بعد ذلك في أثينا كان بسبب قصة حب يوناني، ولننقل من ول ديورانت صاحب كتاب قصة الحضارة "كان أرستوجيتون وهو رجل كهل قد كسب حب الفتى هرمديوس وهو وقتئذ في ريعان الشباب ونضارته ولكن هباركس وهو أيضا ممن لا يستحون أن يحبوا الغلمان كان يسعى هو الآخر ليتحبب إلى هذا الشاب، فلما سمع أرستوجيتون بهذا اعتزم أن يقتل هباركس ويعمل في الوقت ذاته على حماية نفسه بقلب الحكومة الاستبدادية وانضم إليه في هذه المؤامرة هرمودنيوس وغيره من الأثينيين" (الجزء الأول من المجلد الثاني ، صفحة 226 ، تحت عنوان قيام الديمقراطية.
ورغم هذه المبادئ المنحطة كان التقدم المادي مطردا في الفنون والعمارة والملاحة والتجارة والثراء، ويظن الكثيرون أن الفلسفة اليونانية هي سبب هذه الحضارة ولا يدركون أنها أحد مظاهر الرفاهية والتبطل بل هي مؤشر على انتهاء قوة الدفع الحضارية وهى فضلا عن هذا أوهام يبطل بعضها بعضا. والحضارة الرومانية هي صنو الحضارة اليونانية حتى أن المصطلح المستعمل هو الحضارة اليونانية-الرومانية، ووحشية الرومان واتخاذهم الإمبراطور إله يعبد وتقام له المعابد وتحرق أمام صنمه البخور رغم ديكور الديمقراطية ومجلس الشيوخ. ونظام العبودية لديهم واستعمار وإذلال الشعوب الأخرى أمور لا تحتاج لبيان. وقد أطلت الوقوف عند الحضارة .. اقصد الجاهلية اليونانية لأنها أساس تلك الحضارة الجاهلية الحديثة ، وسبب تعرضي لتلك الحضارات الجاهلية هو للدلالة على أن البشر يرتقون ماديا باطراد مهما تكن نظم حكمهم استبدادية أو ديمقراطية .. ومهما تكن سخافة معتقداتهم الدينية .. ومهما تكن فظاعة نظمهم الاجتماعية .. ومهما يكن فساد نظمهم الاقتصادية.
البشر يتقدمون ماديا نتيجة تفاعل عوامل نفسية ومثيرات ذهنية وتحديات بيئية أو قومية ونتيجة تفاعلات ثقافية مع شعوب أخرى تفوقهم حضارة أو مساوية لهم ولكنها مختلفة. فعلى مدار التاريخ تبدأ الحضارة بشعب قوي خشن يؤمن بدين مهما تكن سذاجة هذا الدين، وبسبب فضائل القوة التي تتمتع بها تلك الشعوب البدائية وبسبب الرخاء وبريق الحضارة في المجتمعات التي بلغت الشيخوخة يغير هؤلاء على أولئك ويهزموهم بسهولة ويصبحون أسيادا للذين أوهنتهم الحضارة، وتتفاعل قوة وسذاجة الغالبين مع حضارة المغلوبين فتنتج نشاطا وتفتح للذهن آفاقا وللمغامرة أبوابا وينشأ جيل يجمع فضائل الشعبين ثم يزداد نتيجة ذلك ثراء ويفتن بملاذ الحضارة ويصبح لديه من المال والفراغ ما يجعله يتفلسف ويتفنن أو ينفق على من يتفلسف ويتفنن (وهذه هي الفترة التي تعد خطئا قمة الحضارة) ثم تنهكه الملاذ ويفقد إيمانه القديم ولا تعطه الفلسفة بديل تسكن إليه نفسه فيصبح لا أدريا متشائما واهنا فاقد العزم. ويسلم ميراثه الحضاري لشعب خشن فتي جديد.
فالحضارة هي آفة الحضارة وكما يقول ول ديورانت تولد الحضارة في مهاد الدين وتصاحبها الفلسفة إلى القبر. والبشر كما قلنا يتقدمون بأي نوع من المبادئ فروسيا والصين صارتا قوى عظمى بدون ديمقراطية ولا حقوق إنسان ولا اقتصاد السوق ولا حرية شخصية، واليابان كذلك صارت قوة عظمي تدحر الروس والصين والغرب في المعارك والتصنيع بإمبراطور إله وحكم عسكري غشوم (قبل الحرب العالمية الثانية)، وأوربا نفسها لا تشذ عن ذلك، فقد بلغت فرنسا في عهد لويس الرابع عشر أوجا حضاريا غير مسبوق رغم الاستبداد والإقطاع والكهنوت وسحق حقوق الإنسان.
وما الحضارة الغربية الحديثة سوى نتيجة تفاعل الشعوب الجرمانية الهمجية مع الدين المسيحي مع الحضارة الرومانية الشائخة ومع الحضارة الإسلامية عبر الأندلس وصقلية وعبر الحروب الصليبية. وستأخذ تلك الشعوب دورتها المعتادة وستفسدها الحضارة وسترثها شعوب أشد منها قوة معنوية ولديهم يقين ديني وأخلاق وشريعة. وبوادر ذلك واضحة للعيان ويعترف مفكروهم أن الحضارة الغربية في حالة انحدار وقد يدهشنا ذلك ونحن ننظر لهم من الخارج ونراهم يزدادون قوة مادية كل يوم، ومثال ذلك أننا نعتبر الدولة الإسلامية قد بلغت أوج قوتها في صدر الإسلام رغم صغر رقعتها وقلة تقدمها المادي، بينما نعتبر الدولة العباسية مرحلة انحدار رغم مساحتها الشاسعة وجيوشها الجرارة وحضارتها الرفيعة.
ونحن إذ نقرر أن التقدم المادي ليس مقرونا بتلك المبادئ العلمانية المزعومة لا ندعو إلى استبداد ولا دكتاتورية ولا تخلف ولا ندعو إلى إبطال العقل ولا ترك العلم ولا إهمال التقدم المادي في كافة المجالات. بل أن العقل والعلم والتقدم والقوة هي من صميم أوامر الإسلام. فالإسلام أيها السادة ليس به استبداد في الحكم ولا توريث للملك بل بيعة وشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) – الشورى 38 ، وعدالة حتى مع من الأعداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ - المائدة 8) ورحمة مع الضعفاء (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ - الأنبياء 107). والإسلام ليس فيه اضطهاد لغير المسلمين (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ - البقرة 256) (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ – يونس 99)، وليس فيه هضما لحقوق الأقليات (من آذى ذميا فقد آذى الله ورسوله- حديث شريف)، وليس في الإسلام فساد ولا رشوة ولا هتك أعراض ولا قوانين طوارئ، وليس في الإسلام طغيان الأغنياء ولا حرمان الفقراء، وليس في الإسلام طبقات اجتماعية ولا طائفية (الناس سواسية كأسنان المشط- حديث شريف) (المسلمون أكفاء يسعى بذمتهم أدناهم- حديث شريف)، ليس في الإسلام احتكارات تجارية وليس فيه مصادرة ولا تأميم ولا عبودية الناس للدولة.. ولن نحصى فضائل الإسلام ولو اجتهدنا في ذلك أبد الدهر، ويكفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما تركت خيرا قط إلا أمرتكم به وما تركت شرا قط إلا نهيتكم عنه) – حديث شريف.
والقرآن والسنة يضعان الخطوط الرئيسية والمبادئ الدستورية التي تمكن العلماء من تنظيم المجتمع طبقا لهذه المبادئ واستنباط حكم الله في أي مسألة تعرض للمسلمين (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً - النساء 83). وليس هذا المقال موجها إلى عتاة العلمانيين فهؤلاء لا يجدي معهم جدال ولا يصح لهم سوى قول الله تعالى (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ – الأنعام 91) بل أتجه بهذا المقال إلى المسلمين المخدوعين ببريق الشعارات وبريق المدنية الجاهلية المتهاوية وإلى هؤلاء أقول: أحذروا أن يفتنوكم عن دينكم (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) – النساء 89، صدق الله العظيم
. سنحاول تتبع أسباب ظهور العلمانية المستحدثة في أوربا. ونتعرف أولا على منشأ كلمة ديني وعلماني، فالعلماني هو أي رجل ليس ضمن رجال الكنيسة كما يعرف من أدى الخدمة العسكرية لدينا المصطلح الشائع (ملكي، ميري) أو كما نفرق الآن بين الشخص المدني والعسكري. لأن الكنيسة كانت هيئة مستقلة لها نظامها وتدرجها الهرمي وقانونها الخاص ولا يحاكم أي رجل ينتسب إلى الكنيسة إلا بواسطة الكنيسة وطبقا لقوانينها.
ولم تكن العصور الوسطى الأوربية دينية أو غير علمانية بمعنى أن رجال الدين يتولون الحكم أو يضعون القوانين بل كان الحكم في يد ملوك ونبلاء إقطاعيون وهم من يضع القوانين ويطبقها ويستمدون شرعيتهم من قواعد وراثة العرش لسلالاتهم الملكية ومن جيوشهم وجندهم المرتزقة ورغم ذلك كانت هيمنة الكنيسة على الحياة والمجتمع والعقل والروح هيمنة شاملة. ولهذا فليست العلمانية هي فصل الدين عن الدولة أو عن الحكم فحسب كما يزعم البعض بل تعني فصل الدين عن كافة مناحي الحياة وتركه ينزوي حتى الموت في صوامع مهجورة. ولو كانت العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة فحسب لكانت العصور الوسطى الأوربية عصورا علمانية وهو ما لم يقل به أحد من الأولين ولا الآخرين.
لقد دمرت الشعوب الجرمانية الهمجية الإمبراطورية الرومانية الشائخة في الغرب واستقرت على أطلالها وقضت قضاء تاما على مظاهر الحضارة وأعادت الوثنية إلى أوربا ولكن سرعان ما اعتنقت هذه الشعوب الديانة المسيحية بحماس شديد بعد أن كادت المسيحية تختفي من أوربا. وأخذت الحياة تتمحور حول الكنيسة وقد أبقت الكنيسة على بصيص من الحضارة وسط ذلك الظلام الدامس. ويخطئ من يتصور أن تلك العصور الوسطى الأوربية كانت جمودا تاما فالحقيقة أن هناك تطورات كبيرة وإن كانت بطيئة فقد أخذت العناصر الحضارية تمتزج وتتفاعل على مهل وأنتجت ما يمكن أن نسميه حضارة العصور الوسطى الأوربية التي تهيمن على جميع نواحيها الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسها البابا في روما.
ولكي نفهم ثورة العلمانية على الكنيسة والدين المسيحي سوف نضطر إلى الخوض في تاريخ المسيحية الأوربية. فقد ضم الرومان فلسطين إلى إمبراطوريتهم الوثنية ووضعوا تمثال الإمبراطور داخل هيكل سليمان وكان اليهود في انتظار مسيح ثائر مبيد يقودهم في ثورة جامحة ويعيد لهم استقلالهم وهيكلهم وشريعتهم ولكن جاءهم مسيح وديع .. رئيس السلام .. ابن الإنسان.. وبدلا من الثورة والقتال دعاهم إلى الخضوع للإحصاء العام ودفع الجزية إلى القيصر لأنه كان يرمي إلى ثورة روحية وأخلاقية أعظم من الثورة الدموية على الرومان، ولكن اليهود لم يتصورا كيف لا يعطف المسيح على أمانيهم القومية فكفروا به وحاولوا قتله. ولا شك أن المسيح عليه السلام جاء برسالة توحيد وحب ورحمة ولكن هذه الرسالة العظيمة حُرفت وتوحشت على أيدي الأوربيين فبدلا من (أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، صلوا من أجل الذين يضطهدونكم) أصبحت الكنيسة تضطهد وتحرق كل من خالفها وهم أحياء، وبدلا من التوحيد النقي الخالص ترسبت فيها كل وثنيات البحر المتوسط.
فالإلهة الأم التي تضم بين ذراعيها طفلا مقدسا لتعد من التراث الوثني المتأصل في شعوب البحر المتوسط فهي في مصر إيزيس وحورس، وفي بابل عشتار وتموز، وفي سوريا عشتروت وأدنيس، وفي فريجيا سيبل وأتيس، وفي قبرص أفرديت وأدنيس. وكان الإغريق يعتقدون أن الإله قد يتصل جنسيا مع امرأة من الآدميين فتلد بطلا، كما فعل زيوس مع أكمينا فولدت هرقل. وزيوس العظيم (هو رب الأرباب عند اليونان) يجد نفسه عاجزا عن مقاومة إغراء النساء ويذكر هزيود ثبتا طويلا بمحبوبات الإله وبما أنجبن منه من آلهة وأبطال، فالله في دين اليونان ليس إلا والدا.
وأما ديونيسس فقد كان اليونان يتخيلونه في صورة زجريوس أي "الطفل المقرن" الذي ولد لزيوس من أخته برسفوني وكان أحب أبناء زيوس إليه ويجلس إلى جواره على العرش في السماء، ولما حسدته هيرا (زوجة زيوس) على مكانته أغرت الجبابرة بقتله فأخفاه زيوس على هيئة ماعز ثم ثور ولكن الجبابرة اكتشفوه وقطعوا جسمه إربا وسلقوها في قدر ولكن الإلهة أثينا أنقذت قلبه وحملته إلى زيوس وأعطاه زيوس إلى سميلى فحملت به وولدت الإله مرة أخرى وسمي بعد مولده ديونيسس. وكان الحزن على موت ديونيسس والاحتفال ببعثه أساس طقوس واسعة الانتشار ففي الربيع تصعد النساء اليونانيات التلال ليقابلن الإله حين يولد من جديد ويصخن السمع لقصته وما لقيه من عذاب وموت وبعث، وكان محور هذا الاحتفال هو التضحية بماعز أو ثور أو رجل في بعض الأحيان ويمزقنه إربا إحياء لذكرى تمزيق ديونيسس ثم يشربن دمه ويأكلن لحمه ويتخذنه عشاءا ربانيا مقدسا معتقدات أن الإله سيدخل بهذه الطريقة إلى أجسامهن ويستحوذ على أرواحهن. وقد لخص الإسلام هذه الحقائق في آية واحدة (وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) – التوبة 3
وقد هيمنت المسيحية على عقول وقلوب الناس وورثت الكنيسة الكاثوليكية النظام البيروقراطي للإمبراطورية الرومانية الغابرة وكان النظام الهرمي لرجال الدين يسمح للبابا بالهيمنة على كل قرية في أوربا. وتزايد نفوذ الكنيسة وبلغ الذروة عام 800 م حين وضع البابا ليو الثالث التاج على رأس شارلمان ولم يعترف لشخص بعد ذلك بأنه إمبراطور إلا إذا مسحه أحد الباباوات، وبينما كانت إمبراطورية شارلمان تتدهور كان نفوذ البابوية وسلطانها يتزايدان. وأقام البابا نيقولاس (858-867) منطقه على قضيتين يقبلهما وقتئذ جميع المسيحيين: وهما أن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل بطرس أول رئيس لها، وأن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس واحدا بعد واحد في تسلسل متصل، واستنتج من هذا أن البابا هو ممثل الله على الأرض ويجب أن تكون له السيادة العليا على جميع المسيحيين حكاما ومحكومين في شئون الدين والأخلاق إن لم يكن في كل الشئون.
كان للأديرة والكنائس نصيبا من أموال العشور التي تجبى من الأبرشية وكانت الكنيسة تتلقى الهبات والوصايا من الملوك والنبلاء وتراكمت هذه الهدايا حتى صارت الكنيسة هي أكبر ملاك الأرض وأكبر السادة الإقطاعيين في أوربا، فقد كان دير فلدا مثلا يملك 15000 قصر صغير في الريف وكان دير سانت جول يملك ألفين من رقيق الأرض.
وشاع الفساد الخلقي بين رجال الدين وحتى بين الباباوات، فنجحت امرأة مثل مروزيا في اختيار عشيقها سرجيوس الثالث لكرسي البابوية (904- 911)، كما أفلحت ثيودورا في تنصيب البابا يوحنا العاشر (914- 928) وقد اتهم يوحنا هذا بأنه عشيق ثيودورا ولكنه أثبت كفاية في الشئون السياسية لأنه هو الذي عقد الحلف الذي رد زحف المسلمين عن روما عام 916م. وفي عام 954 أصبح اكتافيان حفيد مروزيا هو البابا يوحنا الثاني عشر وامتازت مدة ولايته بضروب من التهتك والدعارة في قصر لاتيران، وقد اتهمه الكرادلة بأنه حصل على الرشا نظير تنصيب الأساقفة وأنه عين غلاما في العاشرة من عمره أسقفا وأنه زنى بخليلة أبيه وضاجع أرملته وابنة أختها فقبض يوحنا على هؤلاء الكرادلة وبتر أعضائهم. وجلس بندكت (1032-1045) على عرش البابوية وهو في الثانية عشر من عمره ودنس منصبه بحياة الفحش إلى حد جعل الشعب يثور عليه ويخرجه من روما لكنه عاد مرة أخرى ولما أتعبه منصب البابا باعه إلى جريجوري السادس بألف رطل من الذهب.
هذه عينة من فساد الباباوات ولنا أن نتخيل فساد من دونهم من رجال الدين. وصكوك الغفران التي بدأت كوسيلة لتمويل الحروب الصليبية صارت وسيلة مريحة لجمع المال اللازم لبذخ الكنيسة ورجالها، فيرتكب الشخص ما شاء من آثام ثم يشتري الجنة بمال يدفعه للكنيسة. وفي القرن الثاني عشر انتشرت موجات من الهرطقة فمنهم من أنكر إلوهية المسيح ومنهم من حرم عبادة الصور الدينية تأثرا بالإسلام، ومنهم من كان صدى للديانات الفارسية مثل المنوية والمزدكية. ومنهم من كانت جريمته هي الوعظ دون أن يكون من كهنة الكنيسة. وتصدت الكنيسة لهذه الهرطقات بإحراق الناس وهم أحياء، مئات ألوف البشر أحرقوا أحياءا في شتى بقاع أوربا، عشرات الآلاف ماتوا تحت التعذيب في سراديب محاكم التفتيش لشكهم في إظهار الكاثوليكية وإبطان عقائد أخرى، وهذه المحاكم هي التي أبادت الشعب الأندلسي المسلم وهى التي أحرقت علماء النهضة أحياءا لأن الكنيسة وضعت مفهوم معين للكون والعلوم وعدت أي خروج على هذه المفاهيم هرطقة تستوجب الحرق.
وأدى فساد الباباوات ورجال الدين والمتاجرة بصكوك الغفران إلى الانشقاق البروتستانتي وهذا الانشقاق أدخل أوربا في صراع دموي لا يتصوره عقل ونقرأ في التاريخ عن حرب الثلاثين عاما وحرب السبعين عاما .. انقلبت أمم أوربا على بعضها لأن الملوك أرادوا التخلص من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية فشجعوا الانشقاق البروتستانتي، وإذا اعتلي العرش ملك بروتستانتي اضطهد رعاياه الكاثوليك وإذا اعتلي العرش بعده ملك كاثوليكي اضطهد رعاياه البروتستانت وكلمة اضطهاد هنا لا تعني المضايقة والحرمان من الحقوق بل تعني مجازر إبادة دموية. هذا فضلا عن الحروب المشار إليها التي اشتعلت بين الدول الكاثوليكية وتلك البروتستانتية والتي دامت كما قلنا عشرات السنين وكان إذا دخل الكاثوليك مدينة بروتستانتية قتلوا كل الرجال والأطفال واغتصبوا النساء ثم علقوهن علي المشانق أو أحرقوهن بالنيران. وارتكب البروتستانت بدورهم نفس الجرائم.
وللخلاص من هذا الكابوس المروع ولإدراك الملوك أنهم لن يستطيعوا إبادة كل رعاياهم المخالفين في المذهب ولا يستطيعون حملهم على تغيير مذهبهم وليأسهم من استقرار الأمور والاستمتاع بالحكم في ظل هذا الصراع الدموي فقد أعلنوا أنهم ملوك علمانيين رغم كاثوليكيتهم أو بروتستانتيتهم وسمحوا للمذاهب الأخرى بالعيش في سلام وهذا الصراع الدموي صحبة جدال قوي بين مئات الفرق والنحل المنبثقة عن البروتستانتية وأدي هذا في النهاية إلى تشكك الناس في كل تلك المذاهب وفي القرن السابع عشر قدم رجال مثل ديكارت وهوبز واسبينوزا ولوك الفلسفة بديلا عن الدين وفي القرن الثامن عشر جهر هلفتيوس وهولباك ولامترى بالإلحاد وكان فولتير مثار استهزاء واتهام بالتعصب لأنه آمن بوجود إله مجهول.
فما شأن الإسلام بهذا التاريخ الأوربي الأسود ولماذا يحمله العلمانيون ذوي الأسماء الإسلامية أوزار المسيحية الأوربية خلال العصور الوسطى؟! .. هل تحمل العقيدة الإسلامية وثنيات غابرة يصعب على العقل الإيمان بها؟! .. هل في الإسلام كنيسة ورجال دين وباباوات؟! .. هل في الإسلام محاكم تفتيش وصكوك غفران؟! .. هل أباد الإسلام أتباع الديانات الأخرى؟! .. هل أحرق الإسلام ألوف البشر أحياء لاختلافهم في فهم أمر من أمور الدين؟! .. هل وضع الإسلام السدود والقيود على العقل والتفكر والتدبر؟! .. هل وضع الإسلام حظرا على علوم الفلك والطب والكيمياء؟ .. بل إن اختلاف الفقهاء والمفسرين الذي يتخذه العلمانيون مثارا للسخرية والتهكم أحسبهم الآن يعرفون مدى حكمته وسماحته.. وإن آيات القرآن تنادي ألا يتفكرون .. ألا يعقلون .. ألا يتدبرون .. لقوم يعقلون .. لعلهم يعقلون .. ، وإن أول كلمة أنزلها الله على رسوله هي اقرأ .. ، ألم تأمر الآية تلو الآية بالسير في الأرض والنظر والتأمل (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ – العنكبوت 20) إن مثل هذه الآيات هي التي دفعت علماء المسلمين للانكباب على العلوم وإخراج الموسوعات الضخمة في علوم الطب والفلك والنبات والرياضيات والجغرافيا.
ثم ماذا قدمت العلمانية للأوربيين .. لقد استبدلت فساد الباباوات ورجال الدين بفساد وانحلال المجتمع عن بكرة أبيه وتقنين الزنا والشذوذ والزواج المثلي والإجهاض، واستبدلت وحشية الحروب الصليبية بوحشية الغزوات الاستعمارية، واستبدلت التناحر بين المذاهب الدينية بالتناحر بين المذاهب السياسية، واستبدلت مجازر ومحارق الهراطقة والمنشقين دينيا بمجازر ومحارق النازية والفاشية والشيوعية .. والليبرالية أيضا (هيروشيما – ناجازاكي – فيتنام) ، واستبدلت محاكم التفتيش بالجستابو وال CIA وجوانتانامو وأبو غريب، واستبدلت حكم الملوك الوراثي بدكتاتوريات عسكرية أو بأوهام ديمقراطية .. واستبدلت سيطرة رجال الدين على العقول والقلوب بسيطرة وسائل الإعلام التي يملكها اليهود واحتكارات السلاح والبترول، .. بضاعة قديمة في ثوب جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.