حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير التطوريين
نشر في الشعب يوم 24 - 05 - 2008


عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا
yehia_hashem@ hotmail .com


إذا كان ماركس لم يهتم بكتابات داروين إلا من حيث إفادته في موقفة العدائي من الدين والمثالية ، فإن إنجلز تأثر بداروين تأثراً عميقاً ، وبدأت علي يديه عملية تطعيم النظرية الماركسية ببعض التأثيرات الداروينية ، عن طريق إبراز التكنولوجيا كوسيلة يعتمد عليها الحيوان البشري للتكيف مع البيئة الطبيعة .
ثم كان كل من جوردن تشايلد وليزلي وايت من أكبر علماء الاجتماع المشايعين للاتجاهات القديمة اللذين يخرجان التطورية الكلاسيكية في كتاباتهما ببعض آراء سبنسر وماركس.
ولكن آراء تشايلد وليزلي وايت لا يمكن اعتبارها ممثلة للعلم الاجتماعي الحديث كما يقول جون جرين : فقد تعرضت هذه الآراء للنقد اللاذع من علماء الأنثربولوجيا ، وقد جاء معظم هذه الانتقادات من جوليان ستيوارد .
يقف جوليان ستيوارد موقف المعارضة من التطورية الكلاسيكية التي كانت تبحث عن القوانين العامة التي تحكم تطور الثقافة الإنسانية ككل ، وتحاول إعادة بناء التاريخ عن طريق افتراض سير الأحداث في خط واحد أو طريق واحد ، وتذهب في ذلك إلى تصور أن المجتمعات والثقافات لابد أن تمر بمراحل متتابعة محددة ومرسومة بدقة ، بحيث تكون كل مرحلة منها مترتبة علي ما سبقها من مراحل ، وتؤدي في الوقت ذاته إلي المرحلة التالية .
فلقد نبذ جوليان ستيوارد منذ البداية فكرة البحث عن تلك القوانين التي يزعم التطوريون الكلاسيكيون - ومعهم جوردون تشايلد ، وليزلي وايت - أنها تحكم التطور الثقافي والاجتماعي ككل ، كما نبذ الفكرة التي كانت سائدة من قبل من أن التطور الثقافي هو امتداد للتطور البيولوجي أو أنه يلازم " التقدم " .
ويؤمن جوليان ستيوارد بما يسميه " النسبية الثقافية " و " التفرد التاريخي " ومع ذلك فإنه يميل إلى ( أن التطورات الثقافية تخضع للقانون ، وأن التكيف مع البيئة الطبيعية عامل هام في التغير الاجتماعي ) .
وفي هذه النقطة يختلف ستيوارد مع الكثيرين من علماء الاجتماع والإنثروبولوجيا الذين يميلون إلي التهوين من شأن البيئة الطبيعية والدور الذي تلعبه الثقافة ، علي أساس أن البيئة الواحدة قد يوجد بها أنماط ثقافية مختلفة ( وأن النمط الثقافي بالتالي يتطور حسب عوامل وعناصر ديناميكية . داخلية تتحدي كل التوقعات العلمية ) .([1])
يقول الدكتور أحمد أبو زيد :
( إن كتابات العلماء المعاصرين تعتمد في المقام الأول علي الدراسات الميدانية ما أمكن ، وعلى الحقائق المؤكدة ، بعكس الحال في كتابات القرن الماضي التي كانت تعتمد علي ما أسماه دوجالد ستيوارت بالتاريخ الظني أو التخميني لمعرفة الصورة الأولى التي كانت عليها النظم الاجتماعية : لإعادة تركيب تاريخ المجتمعات البشرية وتصنيفها ، من حيث درجة رقيها وترتيب مراحل الحضارة التي مرت بها هذه المجتمعات حتى الآن ، وذلك حسب نظام عقلي دقيق يرسمون هم أنفسهم خطته ويحددونه تحديداً تعسفياً .
ولذا فكثيرا ما يصلون إلي نتائج غريبة ومتناقضة ، فبينما نجد - علي سبيل المثال - السير هنري مين يذهب إلي أن العائلة الأبوية هي الشكل الأول للنظام العائلي على الإطلاق ، نجد باخوفن يذهب إلى أن الإنسانية عرفت أولا - بعد مرحلة الإباحية المطلقة -نظام العائلة الذي يرتكز على الانتساب إلى الأم قبل أن تصل إلي العائلة الأبوية ،) ([2])

إن معارضة الغالبية العظمى من التطوريين المعاصرين للنظرية التطورية الكلاسيكية لا تتوقف عند حد عدم قبول المماثلة بين التطور البيولوجي والتطور الثقافي والاجتماعي ، وتأكيدهم لأهمية التفرد التاريخي والنسبية الثقافية ، وإنما تذهب ببعضهم إلى حد إنكار أن يكون التنافس والصراع من وسائل التقدم الاجتماعي على ما كان يذهب إليه هربرت سبنسر في نظريته عن البقاء للأصلح .
فكلمة الأصلح في رأيهم اصطلاح غير دقيق ومضلل ، ولا يفيد بالضرورة الامتياز والسمو في الخصائص والقوى والقدرات في كل الأحوال .
وهذا معناه أن العلماء المعاصرين - ويشاركهم في ذلك عدد من علماء البيولوجيا أنفسهم - يميلون إلي التشكك في الدور الذي يلعبه الانتخاب الطبيعي في التاريخ البشرى والتهوين من أهمية ذلك في التاريخ ) ([3])
إن ألفريد لويز كرويبر هو العالم المعاصر الذي بدد الأحلام في إقامة علم طبيعي للتطور التاريخي ، و أسدل ستارآ كثيفا على هذه الدعوة .
وتقوم آراء كرويبر على التمييز بين المدخلين التاريخي .. والعلمي لدراسة الظواهر الاجتماعية ، فالعلم إنما يعنى بالتجريد والبحث والدقة في القياس ، ويستعين في ذلك بإجراء التجارب الدقيقة . وذلك بعكس المنهج التاريخي الذي لا يسعه إلا أن يبين نواحي الشبه بين الظواهر الثقافية والكشف بالتالي عن الأنماط لا القوانين .
ومع أن كرويبر يرى أن كلا المنهجين يمكن تطبيقهما على كل الظواهر الموجودة في الكون بلا استثناء ، فإنه يقرر أن استخدام المنهج العلمي يحقق نجاحآ أكبر في دراسة الظواهر العضوية بينما يناسب المنهج التاريخي دراسة الظواهر الثقافية الاجتماعية والسيكولوجية .
وبهذا التمييز يهدم كرويبر كثيرآ من آمال العلماء التطوريين المحدثين .
ولا يهتم كرويبر في كتابه " صيغ النمو الثقافي " بالبحث في " لماذا " أى عن أسباب التغير الاجتماعي ، اعتقادا منه أن المهمة الأولى للأنثروبولوجى هي البحث عن " كيف " أى عن الطريقة التي تعمل بها الثقافات .
كما كان يرى أن التاريخ أوسع وأعمق وأكثر تنوعآ من أن يرد إلى مجرد عدد من العوامل المتتابعة . ([4])
يقول كرويبر: ( إن العمليات الحضارية الفعالة تكاد تكون مجهولة لدينا ، والعوامل التي تتحكم في بناء الحضارات لا تزال لغزآ بالنسبة لنا .. وليس في وسع المؤرخ حتى الآن سوى أن يبحث عن الأشياء ، ويصل ما بين الذي يبدو منها متباعدا جدآ ، ويوازن ويوحد ، لكنه في الحقيقة لا يفسر ، ولا هو من حقه أن يمسخ الظواهر شيئآ آخر . إن طريقته ليست هي العلم ، وإن كل الذي نستطيع أن نقوم به جميعا هو أن نتحقق من هذه الفجوة ، وأن يخلف فينا عمقها اللامتناهي انطباع المهابة والتواضع ، وأن نمضي في سبيلنا على حافتيها دون القيام بمحاولات كاذبة لسد الفجوة الأبدية ، أو التفاخر بلا حق بإقامة جسر بين حافتيها) ( [5] )
يقول الدكتور أحمد أبو زيد: في الاعتماد على نذر قليل من المعلومات والاكتفاء بالتأملات الافتراضية ... والأحكام الاعتقادية :
إن النظريات التي كان يصنعها هؤلاء العلماء [ التطوريون ] لم تكن تقوم على الحدس والتخمين فقط ......
وإنما كان يداخلها على ما يقول إيفانز برتشارد : كثير من العناصر التقويمية أيضا .. وكانت تفسيراتهم للنظم الاجتماعية لا تعدو أن تكون موازين ومعايير نظرية [ قبلية ] لقياس التقدم ، بحيث توضع أشكال النظم أو العقائد التي كانت موجودة في أوربا وأمريكا في القرن التاسع عشر في طرف ، وتوضع النظم والعقائد البدائية في الطرف المقابل .
وهكذا نجد أنه على الرغم من إيمانهم بأهمية المذهب التجريبي في دراسة النظم الاجتماعية ، فإن علماء القرن التاسع عشر لا يكادون يقلون عن الفلاسفة الأخلاقيين في القرن الثامن عشر اعتمادا على الجدل والتفكير النظري والمسلمات التحكمية ) ([6]) .
ويقول الدكتور هرمان رندال في بيان كيف قامت هذه النظريات على " تأملات استنتاجية " لاعلى منهج علمى تجريبي :
(إن المذاهب الاستنتاجية التأملية الكبيرة التي رتبت الوقائع بحيث تنسجم مع افتراضاتها كمذهب كونت وسبنسر انهارت أمام هجمات المحققين الباحثين ).
ويقول :
( إن علماء تطوريين بارزين كهربرت سبنسر ولستر . ف وورد الأمريكى بالرغم مما قد زينوا به صفحات مؤلفاتهم من الألفاظ البيولوجية .. بقوا إلى حد كبير من أصحاب المذهب الاستنتاجي - التأملي - المعتمدين على اليقينيات المسبقة ، إذ يبتدئون من بضع مقدمات مفترضة ، ويذهبون منها إلى بناء مذاهب واسعة ، وهذا واضح كل الوضوح في حالة سبنسر الذي عالج التطور وهو متأثر بالميول الموروثة من القرن الثامن عشر ، المنادية بالمذهب الميكانيكي في العلم ، وبمذهب حرية العمل في المجتمع .
لقد حاول سبنسر أن يقحم جميع الحقائق ضمن مجرى تطوري كوني منسجم واحد ينمو كل شيء فيه من حالة بسيطة غير متميزة إلى حالة عضوية بالغة الفردية
وحاول أن يثبت - على طريقة القرن الثامن عشر - أن ثقل الكون بكامله يكمن وراء النظرية الفردية في المجتمع .
وهكذا بالرغم من أهمية منزلته بإدخال فكرة التطور العامة في دراسة المؤسسات الاجتماعية ، فإنه أيضآ نقل الطريقة الاستنتاجية إلى مفاهيم التطور ، وقد استغرق تحرير العلوم الاجتماعية من هذا النقل المضلل والافتراض التوكيدي جيلا بكامله .
وقبل أن ينهي عمله الضخم بزمن طويل أصبحت صفحات كتابه صفراء وعديمة الجدوى ) ([7])
ويقول عن هربرت سبنسر ، وا . ب تايلور : إنهما عمما من بضع ملاحظات نظما بسيطة قاسية ، بموجبها تنمو المؤسسات التي تتفتح بذاتها بصورة آلية متبعة نفس الترتيب في كل أنحاء العالم ، وبناء على ذلك كان لابد للمجتمع في كل مكان أن يجتاز نفس المراحل المحدودة منذ الشيوعية البدائية والحرية الجنسية ، حتى الأشكال ( العليا) للحضارة الأوروبية الحالية .( وقد أدخلت الحقائق بمهارة في هذه القواعد ، دون أقل انتباه إلى الوسائل التي تجرى بها هذه التبدلات على اعتبار أنها كانت تتم " بالتطور " .
ونذكر من هؤلاء العلماء التطوريين التوكيديين ، لويس مورغان الذي وجد خطته بين الهنود الأيركوبيين ، وهم لسوء الحظ جماعة فريدة من نوعها .
و ج.ج فريزر الذي يحوى كتابه " الشجرة الذهبية " معلومات زاهية مغلوطة وصلت إليه بطريق غير مباشر.
بعد مرحلة البدء هذه دخل على الأنثروبولوجيا مرحلة أخرى تحطمت فيها نظرياته المحببة بفعل الحقائق الباردة . فاضطرت فكرة التطور الثابت السائر في خط واحد ، إلى التراجع إزاء الدراسة الممحصة ) .
ويقول :
( لقد كان من المستحيل تقريبا أن يتجنب الباحث انتخاب حقائقه التي يريدها على نور نظرية سبق أن اعتقد بها .
وما شيده بناة الأنظمة هدمه النقاد . ففى علوم الاقتصاد ، ونشأة الإنسان والاجتماع والسياسة ، بل في كل حقل أخذ كبار المفكرين يشعرون أن جميع النظريات لاتلبث أن تفند بزيادة المعلومات .
لكن هنالك شيئا واحدا بدا أنه وحده قد اكتسب بصورة نهائية : وذلك هو أن على الناس أن يجدوا الحقائق ، وأن يدعوا النظريات تتحمل نتيجتها ، تلك كانت حالة العلوم الاجتماعية العامة في مطلع القرن الحاضر )[ العشرين ].

ويبين الدكتور هرمان راندال النتائج السلبية الهدامة التي يؤدى اليها إيمان العلماء بهذه النظريات :
( كانوا دائما يبدءون من معرفة ناقصة عن المجتمع البشرى المعقد التركيب ، معتقدين دائما بأن من الممكن استكشاف بضعة مبادئ بسيطة وإنشاء علم كامل منها ، وكانوا ينتهون دائما إلى نظرية اجتماعية قادرة على تحطيم العقائد التقليدية ، ولكنها عاجزة عن أن تقيم بدلا عنها نظاما أكثر شمولا منها ، كان كل منهم يحمل فكرة علم الاجتماع عظيمة الأهمية ولكن أحدآ منهم لم يكن يملك لا الطريقة ولا الحقائق اللازمة لإنجاز مثل هذه المهمة . لهذا نرى العلوم الاجتماعية التي نشأت في القرن الثامن عشر بالرغم من كونها أدوات انتقادية عظيمة قد انتهت إلى نظم شاملة ومتحجره أثبتت عجزها عن أى حل ) ([8])

ويقول الدكتور أحمد أبو زيد في : التطور الأخير لعلم الاجتماع المعاصر
( أخذت المشكلات التطورية تتراجع بشدة وتتوارى من التفكير الاجتماعي والأنثروبولوجي المعاصر .
أو على الأقل تتخذ شكلا جديدا يختلف عما كانت عليه في القرن الماضي. كذلك فإن نظرية التقدم الاجتماعي عن طريق الانتخاب الطبيعي لم تعد تؤخذ بعين الاعتبار الآن .
وبدلا من محاولة إبراز النواحي البيولوجية ، في التطور البشري ومقابلتها بالتطور الاجتماعي والثقافي ، فإن العلماء المعاصرين يفضلون أن ينظروا إلى الإنسان على أنه حيوان ناقل للثقافة ، وبهذا فإنهم يميزون بين الانسان وبقية الحيوانات تمييزآ قاطعآ ، يكاد يماثل ما كان عليه الموقف قبل عصرداروين ......
وجانب كبير من مسئولية انحسار التطورية الكلاسيكية يقع على عاتق النزعة البنائية الوظيفية التي سيطرت على الدراسة الاجتماعية والأنثروبولوجية من القرن الحالي )
( ويمكن القول بوجه عام أن التطورية المعاصرة تختلف عن النظريات السابقة في ناحيتين أساسيتين :
تتعلق الأولى منهما بأشكال التكيف الثقافي ، إذ حلت فكرة التكيف الثقافي محل البحث عن الأصول الأولى ، ومحل مبدأ الصراع .
وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن عملية التكيف الثقافي لاتشمل البيئة الطبيعية فقط ، بل وكل عمليات التوافق مع النظم والأنساق الاجتماعية ، والاختراعات والاكتشافات والاستعارات الثقافية . كل هذا يؤلف المادة الخام للتغير التطوري في الثقافة )

( وتتعلق ثانيتهما بالتوفيق بين الاتجاهات والمبادئ التي كانت تعتبر متناقضة في الماضي ) .

هذا ويهتم العلماء المعاصرون الآن بدراسة بعض المشكلات التي لم تكن تجد كثيرا من العناية من جانب العلماء السابقين ولعل أول هذه الأمور :
ما الذي يتطور؟ هل هي الثقافة ككل التي كان علماء القرن التاسع عشر يتصورون أنها تمر خلال عدد من المراحل الكبرى ؟ أم أن الذي يتطور هو بعض الأنساق الاجتماعية المعينة بالذات ؟
( وإن كان الرأي الأخير لا ينفي تأثر الكل بهذه التغيرات الجزئية فهو على كل حال يتميز عن المنظور التطوري العام الذي يعتبر مقياسا للتقدم .

المشكلة هي : هل يتم التطور بطريقة لاشعورية ولاعقلانية ويخضع لعوامل لا يدركها الإنسان أو يتم حسب خطة مرسومة بشكل أو بآخر ؟
ومع القول بأن الخطة المرسومة لاتمنع من ظهور نتائج غير متوقعة ، فإن هذا لا يمكن اعتباره مساويا للانتخاب الطبيعي في البيولوجيا ، لأن عملية الانتخاب الثقافي تخضع في كثير من الاحيان لقدرة الإنسان على تحليل سلوكه وترتيب أموره وتدبيرها.

والمشكلة الثالثة هي : أين تكمن الدوافع التطورية ؟
هل توجد في وسائل الإنتاج أو في التكنولوجيا أو في صراع الطبقات ، أو في تقسيم العمل ، أو في قوة من قوى الكون يصعب إدراكها وتحديدها ؟
إن العلماء المعاصرين يميلون إلى عدم ربط التطور بأشكال الحياة الاقتصادية وحدها في جميع الحالات وهم يرون أنه : من السفه افتراض أن التطور يحدث دائما في كل الأحوال في قطاع معين بالذات من قطاعات الثقافة ).

والخلاصة هي أن معظم الأنثروبولوجيين الثقافيين لم يعودوا يحفلون بدراسة الثقافة الإنسانية كلها لإطلاق أحكام عامة عليها ، وهم يرون أنه ( يتعين على العلماء قبل أن يقدموا على مثل هذه الدراسة أن يدرسوا أولا عمليات التغير الثقافي التي تحدث بالفعل في ثقافات محددة معينة ، دراسة تفصيلية مركزة )
( ويظهر ذلك بشكل واضح في كتابات فرانزبواز الذي يعتبر بحق شيخ الأنثروبولوجيين في أمريكا فهو يعارض بشدة : الفكرة السائدة عن وجود صيغة واحدة ثابتة للتطور الثقافي ، تنطبق على الماضي مثلما تنطبق على المستقبل بالنسبة لكل المجتمعات وبغير استثناء ، وأن التطور يسير دائما من البسيط إلى المركب في مراحل معينة ومرسومة تحدد بالضرورة درجات التقدم التي أحرزها الجنس البشري كله ) ([9])
يقول الدكتور هرمان راندال : ( إنها لسخرية غريبة أن موقف علمي الحياة والنفس قد قوى الاتجاه اللاعقلي الذي أراد محاربته ‍‍‍‍!
ذلك لأنه اذا كانت الاعتقادات بالدرجة الأولى وسائل لمؤالفة المحيط ، فكيف يكون مصير الحقيقة ، بل مصير العلم ذاته ؟
لا يمكن أن يكونا سوى شكل خاص للمؤالفة البيولوجية ، تجلبه بسبب نجاح وظيفته فى تثبيت دعائم الحياة ، فالحقيقة بأى معنى آخر ، الحقيقة المطلقة التي نادى بها قدماء العقليين عديمة المعنى فى عالم متطور ، ألا يمكن حينئذ أن يكون صحيحا أى اعتقاد يؤدى إلى نتيجة ؟ هكذا بدا الباب مفتوحا بالنسبة للكثيرين من أجل أن يبرروا تبريرآ جديدآ إيمانهم المقدس )
انظر : تكوين العقل الحديث ج 2 ص 156
وها قد رجعنا من خلال العلم إلى دعم الأسطورة في حلقة مفرغة لا يمكن أن تعني التقدم من خلال التطور !! أليس كذلك ؟
فهل يبقىبعدذلك للتطورية الاجتماعية " سند يصلح لمصاولة الدين " الدين الذي هو عند الله الإسلام ؟
إن النتيجة التي نخرج بها من هذا المبحث هو أن التطور والتقدم كليهما لا يفسر لنا "الدين " بل ندعى - على العكس من ذلك - أن الدين هو وحده الذي يمكنه أن يقدم تفسيرآ للتطور والتقدم .
------------------------------------------------------------------------
([1]) عالم الفكر يناير فبراير مارس 1973 ص117 - 120 0
([2]) عالم الفكر يناير فبريا مارس 1973 ص122 0
([3]) عالم الفكر يناير فبراير مارس 1973 ص 122 - 125
([4]) عالم الفكر يناير فبراير مارس 1973 ص 122 - 125 0
([5]) تكوين العقل الحديث ج 2 ص 195 - 197
([6]) عالم الفكر يناير فبراير مارس ص 116
([7]) تكوين العقل الحديث ج 2 ص 167 ، 168 0
( [8]) تكوين العقل الحديث ج 2 ص 463
([9]) انظر بحث الدكتور أحمد ابوزيد فى مجلة عالم الفكر يناير فبراير مارس 1973 ص 120 : 129


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.