مخطىء من يتصور أن المصريين سينتظرون 60 عاماً أخرى ليطيحوا بدولة الاستبداد بعد انقلاب 3 يوليو،فالشعب الذي انتظر ستة عقود ليتخلص من كل صنوف الإذلال والإفقار والقمع السياسي ليخرج بثورته في 25 يناير لن ينتظر 60 عاما أخرى ليعايش واقعاً مرفوضاً الثورة التي جاءت عفوية وصريحة تغنى بها العالم أجمع،واعتبرها المؤرخون والباحثون نموذجاً مثالياً لهذا الشعب العريق يُحتذي بها فى كيفية تخلص الشعوب من حكامها السلطويين،كظاهرة سياسية بسماتها الاجتماعية والتنظيمية،فقد عبرت بصدق عن عمق ممزوج بالمراراة،ومشاعر الكرامة المهدورة لشعب صبر على ذلك طويلاً،وقد يكون مصطلح الكرامة هنا غير متعارف عليه في تعقيدات التغيير السياسي وحكم البلدان إلا أنه يبقى معبراً بصدق عن حزمة المظالم الاجتماعية والسياسية التي دفعت بالملايين إلى الشارع في 25 يناير للاطاحة بحكم مبارك الذي فاض منه الكيل وطفح،وكان من السهل في حقبة حكمه رصد المظالم والجور اللذين يتعرض لهما هذا الشعب العريق بشكل يومي. كل هذا يدعو للتأمل جيداً والبحث والتنقيب،فلا مجال لاستدعاء الماضي ونسخ دولة الستين عاماً بعد 3 يوليو فالتحول الذي طرأ وتراه فئة شعبية ثورة من صُنعها،بعدما وضحت رؤى الذين تصدروا المشهد عشية هذا اليوم بأن الدولة تحتاج لاستعادة ذاكرتها وبرمجتها بما يتسق ودولة ماقبل ثورة 25 يناير،وتصوير الوضع على أن هناك أخطاء شابت ثورة يناير ولابد من تصحيحها مؤكدين أن 3 يوليو امتداد للمد الشعبي ذاته،وهو ما ثبت عكسه بعد الإطاحة بأول رئيس منتخب شابت مدته أخطاء لا ينكرها أحد،لكنها لم تصل حد القمع وجلد المعارضين واعتبارهم شعباً آخر كما يتم تصنيف المصريين بعد الانقلاب،ومع مرور الوقت تزداد يد البطش وتضرب بقوة مستغلة موجة الإرهاب بالمساواة(الظالمة) بين المتظاهرين المطالبين بحقوقهم ومن يقتلون الجنود في سيناء،ليعطوا مبررا للسلطة بالتعامل بوحشية مع أبناء الشعب وهو ما يولد يومياً تعاطفاً مع من يتم قتلهم وقمعهم وتنضم إليهم فئات متناقضة الايدولوجيات والهدف واحد "لا للقمع"،لتجد السلطة نفسها في مأزق لا فكاك منه إلا بالبحث عن مخرج،فالسيناريو لن ينتهي بين يوم وليلة، وتستعيد البلد وقارها وأمنها الذي أصبح الآن (حلماً للانقلابيين ليثبتوا لمن فوضوهم بأنهم محقون فيما أقبلوا عليه اثم لم يحسبوا عواقبه)..ولهذا يبدو الأمر صعباً الآن يفوق في صعوبته ما قبل 3 يوليو،بل وتعقدت الأمور بشكل أكبر وأعمق،ساعد في تعقيدها السياسة العشوائية التي تتبعها المؤسسة الأمنية ،بالتعاطي مع ما يجري على أنه تمرد ونكران لهوية الدولة وشخصيتها وليس على أنها مطالب مشروعة،ويتوجب عليهم التعامل مع كل ذلك بالقتل والقمع،بدلاً من التعامل بشكل علمي دقيق يفرق بين من يستغل الموقف لتشتعل الأوضاع،وبين ملايين تطالب بتحسين وضعها المعيشي مطالبة بحريتها مدافعة عن كرامتها،ولن ينتظر هؤلاء مرة ثانية ليتم استعمارهم من حاكم شمولي آخر رسخ له دستور لجنة موسى،فقد أثبتت تجربة 60 عاماً أن الحكم الشمولي سبب مباشر فيما آلت إليه أوضاعهم المعيشية وغياب الكرامة الإنسانية عقود كثيرة عنهم.. فثورة 25 يناير ستبقى تجربة درس قاس لفئة استعبدت هذا الشعب دون رحمة ولا هوادة،ولم يدرس أحد الدوافع الحقيقية التي أدت لثورة شعبية لم يقودها قائد أو مناضل بل ولدت من رحم القهر والمعاناة والظلم،من رحم الشباب العاطل بالملايين لم يشعروا يوماً أن مستقبلهم في أمان، وسط العتمة السائدة التي لم تبزغ لها شمس في يوم من الأيام..من رحم العبارات والقطارات التي راح ضحيتها الآلاف دون محاسبة أو استخلاص للعبر على الأقل وما كانت تقابل به من استهزاء وسخرية،وطوابير الفقراء على المخابز لشراء أقل مما تحتاج من خبز يومها،وأمناء شرطة ومباحث أمن دولة يذلون الشعب ويقهرونه بسبب ومن دونه، كل هذا يعود وبعودته تعود معه ثورة هى الأقوى!. وأخيراً ..نقول لكل المراهنين على أن المصريين لن يثوروا ثانية ضد دولتهم سيخسر الرهان،فالشعب سيثور حتماً عاجلاً أم آجلاً ضد هؤلاء،فاللحظات الآنية بأن خريطة الطريق تسير في طريقها،والإعجاب الكاريزمي المتنامي بصنع زعيم ليتم وضعه في فاترينة زجاجية يتم التجهيز لها لن يستمر طويلاً فالخارطة لم ولن يتم رسمها بهذا الوضع والفاترينة الزجاجية سيتم تكسيرها بيد من يصنعونها الآن.