أستميح القارئ عذرا في أن أعتصم بسخرية ربما لا أجيدها، ولكنها تبدو الآن الشيء الوحيد المتاح لعقل أفقدته الأحداث فاعليته، بداية من هذا التاريخ الفارق، أو الذي كان يفترض أن يكون فارقا (25يناير2011م)، عندما صنع المصريون المعجزة وأسقطوا مبارك في (18يوم) فأدهشوا العالم، وأرادوا أن يدهشوه أكثر، فأعادوه رأسا ومؤسسات، ووظفوا في سبيل هذا كل إمكانيات ومفردات واقعهم، من مؤسسة أمنية قامت الثورة أساسا ضد ممارساتها القمعية، وإعلام رسمي نجح القائمون عليه، وعلى رأسهم العقيد/ صفوت الشريف، على مدى سنوات، في جعله إعلام قوادة، وخدعونا وقالوا (ريادة)، ولو أردنا تهذيب اللفظ لما أمكن أن نجد لفظا آخر غير (الريالة الإعلامية)، التي تختصر فشلا وفسادا في التخطيط والممارسة للإعلام المصري الرسمي، وكذلك إعلام خاص وجه كل إمكانياته لتدعيم أركان دولة مالكيه، من الفسدة والخونة، وتجار الذمم والضمائر، وبالطبع ساندت الإعلام في استعادة النظام مؤسسات ثقافية، شاركت على مدى سنوات طويلة في تسميم الثقافة المصرية، وتسطيح العقول، والتعامل مع المثقفين كقطعان في حظيرة، وساد الواقع الثقافي طابع مهرجاني في أغلب الأحوال، ناهيك عن الفساد الذي استشرى في كل قطاعات الثقافة، لدرجة أن أصبح من يتصور أن يكونوا مقاومين للفساد إلى أذرع له، تستفيد وتدعم وتغذي هذا الفساد، وتتغذى منه، إن ما فعله الإعلام والمؤسسات الثقافية في مصر منذ سنوات، من تجريف للوعي، وخصاء للعقول، هو ما نرى نتائجه الآن في الشارع المصري، لدرجة أن الدفاع عن الحق هو ما يبدو غريبا مستهجنا. وساندت الداخلية والإعلام والثقافة في استعادة نظام مبارك مؤسسات حكومية حجم فسادها أكبر من أن يرصد، وجموع من الشعب نجحت كل هذه الظروف في جعلها تكفر بالثورة، وحتمية التغيير والتطهير، وتؤمن فقط بأن الرئيس المنتخب د/ محمد مرسي فعل ما لم يفعله مبارك من خطايا، وهي النتيجة التي سعت إليها قوى كثيرة، لتضرب كل استحقاقات الشعب وثورته في مقتل. وعن قضاء مصر سألوني، وأنا ككثيرين غيري أخاف الحديث عن القضاء سامحني الله وغفر لي أكثر مما أخاف القضاء والقدر، ذلك أن القضاء والقدر بيد الملك الحكم العدل، الذي يجمع في ذاته جمالا وجلالا يليقان به سبحانه وتعالى أما قضاء مصر الذي كان شامخا، فقد أصبح (شامخا على نفسه)، مع الاعتذار للأراجوز الأكبر (باسم يوسف)، الذي يملك حق الأداء الحصري للنكات والإفيهات الرخيصة المكشوفة، والذي يبدو هذا الوصف الذي تلهج به ألسنة البسطاء، وكأنه سير على دربه، تعالى لسان أي شريف عن هذا. إن هذه الظروف التي تمر بها مصر تجعل أية زاوية للرؤية قادرة على أن تكون كاشفة ومبينة، لا تخطئ فيها عين ولا قلب، عن رؤية الحق من الباطل، والخير من الشر، لذا فإن من يرون أننا في فتنة تجب فيها العزلة، هم في الحقيقة ناس معزولون عن إنسانيتهم، بكل ما يفترض أن تتضمنه كلمة الإنسانية من معاني ومقومات، أقلها أن تنتفض عروقنا إذا رأينا حرمة تنتهك، على إطلاق كلمة حرمة، سواء في دين أو وطن أو إنسانية، فما بالنا نرى مشاهد الدماء وقد أصبحت من العادي والمألوف والمكرور في حياتنا، وما بالنا نرى ناسا من بني جلدتنا يقتلون بدعم من تجار دين، قدموا لهم من فتاوى القتل ما أرادوا وزيادة، ومفوضين نفوض أمرنا لله فيهم، وفرحين مهللين لعرس دم يمتد في طول البلاد وعرضها، وأطنان من أكاذيب وضلالات أصبحنا نقتات عليها ليل نهار، ولكم كان د/ محمد بديع مجاملا عندما وسم بعض الإعلاميين بأنهم (سحرة فرعون)، الذين سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وجاؤوا بسحر عظيم، ذلك أن سحرة فرعون عندما رأوا الحق آمنوا به، والكثير من الإعلاميين الآن يرون الحق ويعرفونه، ويَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ الناسَ عنه. وفي هذه الأجواء وجدت النخبة ضالتها، هذه النخبة التي يتجلى فيها الفساد أكثر مما يتجلى في غيرها، فقد استفادت من الفساد وتوافقت واتسقت معه، لدرجة أن كثيرا من قوى المعارضة باتت معارضة بالأجر وحسب الطلب، في الظاهر، وفي الحقيقة ضلعا أساسيا في بناء فاسد، تأسس على شفا جرف هار، سينهار به إن عاجلا أو آجلا، وعندها سيعرف كل موضعه، ويقف على قيمته. ويبدو أن عظمة مصر وشعبها لها وجه آخر، وهو عظمة أخطائها وأخطاء شعبها أيضا، لقد تحملنا رئيسا عين نفسه رئيسا، في غطاء من استفتاءات مزورة مكذوبة، على مدى ثلاثين عاما، وتحملنا خَدَمَهُ وحُرَّاسَ نَعْلِهِ عَامًا ونصفَ العام، ليفعلوا كل ما من شأنه حمايته وحماية نظامه، ووضعنا كل العراقيل أما رئيس انتخبناه، هو أول رئيس من غير حَمَلَةِ (المِخْلاة)، مع التقدير الكامل لإخوتنا من حَمَلَتِهَا، ممن لم يتورطوا في قتلنا، وصولا إلى هذا الكابوس الذي نعيشه، نحاكم رئيسا منتخبا، لصالح قاتل اغتصب إرادة الأمة، وكل مجده قتل شرفاء بني وطنه، هذا المجد الذي ينازع فيه سادته في إسرائيل، وربما غلبهم بخيانته وعمالته، فلأول مرة يصبح قائدٌ مَا بطلا قوميا لأعدائه، متفوقا بهذا على سَيِّدِهِ وَوَلِيِّ نعمته، الذي كان كنزهم الاستراتيجي. بالتأكيد لم يكن د/ محمد مرسي موفقا في شيء، لا قولا ولا فعلا، بداية من استشهاده بآية في القرآن، فهذا تخلف ورجعية في نظر النخبة المستنيرة، مرورا ب (أهلى وعشيرتي)، التي تبدو كلمات قبيحة، يعاقب عليها القانون، وحتى آخر خطاباته، التي تبكي أي قلب مهموم بهذا الوطن، تأملوا هذه الكلمات " كانوا رجالا لا يقبلون الضيم، ولا ينزلون على رأي الفسدة ..." لماذا لم يبحث أحدنا عن موضعه بين هؤلاء الرجال؟ ونعمل شيئا يدفع مصر إلى الأمام؟ بدلا من أن نعيدها إلى نظام ثرنا عليه بكل شخوصه ومؤسساته الفاسدة؟ لماذا لم يعن بعضنا بعضا فيما اتفقنا عليه؟ ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه؟ لماذا لم نحكم عقولنا وضمائرنا لنعرف أن القاتل منذ (25يناير2011) حتى الآن قاتل واحد، يقتل بدم بارد، وبالطريقة ذاتها، سعيا لهدف واحد، ويفلت بالطريقة ذاتها، تفلته قوة الفساد، وفساد القوة، وقطعان من المغيبين والمُضَلَّلِينَ، وأبدا لن تفلته يد الله، الذي لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، والذي يمهل الظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. إن دوائر الاتهام كانت تبدأ ضيقة كل مرة، لحسن ظن غالبا ما يصادف غير أهله، فيبدو غفلة أوقعتنا فيما نحن فيه، ولكنها نفسية شعب، وصفه الجبرتي من عهود بأنه من أكثر الشعوب صبرا على الحكام، ونسأل عمنا الجبرتي: لماذا لم يصبر المصريون على د/مرسي؟ هل يشترطون للصبر على الحاكم أن يكون طاغية وعميلا وخائنا ولصا؟ هل يشترطون للصبر على الحاكم أن يعلي من مصلحة أعداء الوطن، على حساب مصالح الوطن؟ وأن يقتل ويعتقل ويسرق ويسرطن الشعب؟ ويحرق قطارات، ويغرق عبارات، ويفسد ذمما وضمائر تُسَبِّحُ باسمه وهو يفعل كل هذا، وتتغنى بأمجاده؟ في أعقاب (25يناير2011) لم يكن الجيش وقياداته في دائرة الاتهام، وكانت تتردد مقولات فارغة نحو: الجيش والشعب إيد واحدة، والجيش حمى الثورة، وأفقنا لنجد أن الجيش ليس (حما) الثورة، ولا حتى (حماتها)، لأن (الحماة) مهما كان فإن في قلبها بعض الرحمة، تصورنا أن خدم مبارك من قيادات المجلس العسكري يمكن أن يفعلوا لمصر شيئا، على غير إرادة سيدهم مبارك، الذي بدا أثر نعمته واضحا عليهم، أكثر بكثير من أثر نعمة مصر عليهم (وعلى اللي خلفوهم)، مصر التي نهبوها ووزعوا خيرها فيما بينهم، فأداروا البلاد بكل ما يضمن خروج نظام مبارك من جرائمه (كالشعرة من العجين)، وتفريغ الثورة من معناها، ليلعنها اللاعنون في صلواتهم، ويترحموا على مبارك وعصره، لقد تناسينا أن مبارك لم يترك شيئا نظيفا في مصر، وأن المؤسسة العسكرية المصرية العريقة، التي يُفْتَرَضُ أنْ تغذيَ أبناءها بقيم الشرف والوطنية والولاء لهذا الوطن، لم تحم سليمان خاطر وأيمن حسن وغيرهما، ممن صَدَّقُوا هذه الدروس، وآمنوا بها، قولا وعملا، لم يَحْمِهِمْ قادتهم، ولم يحموا شرف العسكرية المصرية، وانشغلوا بعمولات السلاح، وجمع الأراضي والقصور والملايين، في دولة مبارك. وعلى طريقة ضابط شرطة فاشل فاسد، لا يجد ما يبيض به وجهه من عمل يفترض أن يقوم به، يبحث عن ضحية (تشيل الليلة)، يدس له قطعة سلاح أو مخدرات، ليشتغل عليه هو وزملاؤه في قسم الشرطة، فقد وجدت قوى الثورة المضادة في الإخوان هذه الضحية، وهم ناس انشغلوا بتربية أنفسهم على قيم وأخلاقيات لم تجد لها نصيرا، في مجتمع رباه الإعلام على خلافها، إلا من رحم ربي وعصم، ونصل في هذا الواقع الكارثي إلى أن مبارك (يا حرام) لم يفعل في مصر إلا كل خير، وأن الإخوان مجرمون، قاموا بالثورة بمساعدة حماس وإيران وأمريكا، بعد أن كانوا في السابق (ملهمش علاقة بالثورة)، ونفذوا موقعة الجمل (وهذا بالضبط هو رأي الجمال والحمير)، وفتحوا السجون (واسألوا اللواء/ البطران)، ولا مانع من أن يكونوا هم من ارتكبوا مذابح محمد محمود، ومجلس الوزراء، وماسبيرو، وبورسعيد، وغيرها من المواقع الدموية، ونصل أيضا إلى أن د/مرسي خائن وعميل لأمريكا ولتنظيم القاعدة (في نفس واحد)، وديكتاتور وخروف ينفذ تعليمات المرشد (أيضا في نفس واحد)، ولا مانع من أن نصدق هذا، لنصل إلى أن الرجال الأشاوس من قادة الجيش ومخابراته، ممن يُجْهِزُونَ كُلَّ يوم على البقية الباقية من احترام الشعب لجيشه، إنما هم خونة أو على الأقل فاشلون لا يصح أن يؤتمنوا على مصر وجيشها، بدليل أنهم تركوا الإخوان يفعلون هذا في مصر، ويترشحون ويفوزون في انتخابات البرلمان والرئاسة، وهم على رأس إدارة البلاد، أو أن الرجال الأشاوس من قادة الجيش ومخابراته هم من خطط ونفذ كل هذا. وعلى طريقة إبراهيم عيسى (أبو حمالات) الذي رأى الإخوان في السابق فصيلا وطنيا، وجزءا مهما في المعادلة لا يمكن إقصاؤه، وبعد وكسة (30يونيو2913) رآهم خونة إرهابيين رباهم حسن البنا على الخيانة والإرهاب، فإنه إذا كان محقا في أحد القولين، فهو بالتأكيد (حمار) في الآخر، فليختر لنفسه ما يريد، ومن يراه محقا في القولين معا، فهو بالتأكيد أدنى منزلة من الحمار، وكذا الرجال الأشاوس من قادة الجيش ومخابراته، إذا كانوا وطنيين الآن، بعد أن حموا مصر من مؤامرات الإخوان، فماذا كانوا عندما تركوا الإخوان يفعلون هذا في مصر؟ ومن يراهم جنبوا مصر الآن احترابا أهليا، على حد تعبير مستشارهم الوسيم شكلا القبيح مضمونا، فماذا يسمون الدماء التي باتت واقعا يوميا في شوارع مصر وميادينها؟ وإذا كان الشعب لم يجد من يحنو عليه في عهد د/مرسي، ووجد الآن، فهل من مظاهر الحنو قتل وحرق وخنق وجرف المصريين في الشوارع أحياء وأمواتا، والتنكيل بهم على يد البلطجية من قوات الجيش والشرطة والأهالي الشرفاء؟ وكلهم في البلطجة سواء، وهل من مظاهر الحنو اعتقال أطهر من في مصر من رجال ونساء وأطفال؟ وهل من مظاهر الحنو هذا التعامل الهمجي الساقط مع حرائر مصر؟ ممن حذاء إحداهن أطهر وأنظف ألف مرة من قائد خائن عميل فاشل، يتخفى وراء نظارة سوداء رخيصة مثله، علها تحجب عنه نظرات يخشاها. إن الثورة المصرية التي تتعثر في ثوبها منذ لحظتها الأولى، وتبدو وكأنها حمل كاذب، لابد أن تؤتي ثمارها يوما، لندهش العالم بحق، فالمصريون الذين كانوا يقتتلون في عهد المماليك، بين عبدين مملوكين خَصِيَّيْنِ، وهم يعرفون أنهما كذلك، لم يعد لهم وجود في المشهد الراهن، وأحد من يدافع عنه المصريون الآن رجل بحق، يدافعون عنه لا لشيء، إلا لأن معه الحق، والله الذي من أسمائه الحق قادر على أن ينصره، وينصر به، المهم أن نجد لنا موقعا في هذه اللحظة الفارقة، إما بين العبيد الذين يسيرون دائما خلف من معه القوة، أو بين الأحرار الذين يؤيدون ويدافعون عمن معه الحق، فالحق قوة في ذاته، ولكن كثيرا من الناس لا يعلمون.