يبدو أن الكاتب الصحفي يتدرج في منصبه في هذه الأيام فيبدأ من كاذب صحفي مبتدئ إلى أن يصل إلى المنصب المرموق (الكاذب الصحفي الشهير)، أو رئيس تحرير في صحيفة الأكاذيب التي يشار لها بالأحذية والقباقيب. فقد تذكرت الصحف الحكومية في سنوات الستينيات والتي كانت كلها على وتيرة واحدة في غالب الأحيان وتختلف فقط في العناوين الرئيسة وكان يتم التنسيق بين هذه الصحف في طباعة المانشيتات الرئيسة حتى لا تخرج بعنوان واحد بالمصادفة لأنها تقوم بتكرار نفس الأنباء وبنفس الصياغة. ولكن معظم الأخبار السياسية بالذات كان تتكرر بنفس الوتيرة وعلى نفس النسق – وربما أحيانا بنفس العبارات. كما أن مقالات الرأي كانت تحمل مضمونا واحدًا. وربما كان الاختلاف الوحيد في هذه الصحف في صفحات الرياضة والفن والوفيات. وهي الصفحات الأكثر صدقًا في هذه الصحف، ولذا فإنها كانت الأكثر قراءًة. بل أنني أتذكر أن التعليق الرياضي في جريدة الأهرام والتي كان يكتبها الأستاذ الكبير نجيب المستكاوي وبأسلوب أدبي رفيع هي الأجمل ولأكثر متعة، وكان يشع جمالاً يحبب إلى القراء البدء بصفحة الرياضة في الجريدة بحثا عن كتابة صادقة ومكتوب بأسلوب جميل. وكنت قد كففت عن شراء وقراءة كافة الصحف المصرية منذ وقت طويل، وحتى الصحف الخاصة التي كان يفترض فيها أنها تملك مساحة من الحرية غير المتاحة للصحف الحكومية، وكانت تتيح لنا قراءة بعض مقالات كبار الكتاب من ذوي الضمائر الحية. وبالأمس فقط أصبت بالغثيان والدوار والقرف وكل ما يمكن أن ينتاب الإنسان نتيجة مشاعر الإحباط والقرف وأنا أجلس بجانب صديق لي يحمل بعض الصحف وأعطاها لي لقراءتها ونحن نجلس على مقهى – فاعتذرت له بأنني لا أقرأ هذه الصحف ولا أشاهد الفضائيات المصرية فصحتي لم تعتد تحتمل هذا الكم الهائل من الأكاذيب الفجة التي تحملها هذه الصحف وتلك الفضائيات. فبادرني قائلاً: ولكن كيف تعرف الأخبار إذن؟ فقلت له: أقرا بعض الصحف المتاحة على الإنترنت بالغة الإنجليزية، وأتابع موقع التصفح الاجتماعي (الفيس بوك) وأتواصل من خلالها مع الناس فهي أكثر حيوية وصدقًا وتأتيك بصور موثقة تحمل درجة عالية من المصداقية كما تكشف لك أكاذيب الصحف والفضائيات المصرية بوضوح شديد. فإذا كان مقدم البرامج في الفضائيات مرغماً على الكذب لشراسة الرقابة العسكرية عليها، فما الذي يجبر الكاذب الصحفي (آسف أقصد الكاتب الصحفي) إلى أن يكذب، فهناك الكثير من الحيل التي يمكن أن يلجأ إليها الكاتب ليتحاشى الكذب على الأقل، إن لم يستطع أن ينطق بكلمة الحق، فيمكنه أن يتحاشى الكتابة عن الشئون السياسية ويكتب عن حالة الجو أو عن الفن (هذا إذا كان لدينا فن يمكن الكتابة عنه)، أو يكتب عن مشاكل اجتماعية أو اقتصادية عامة أو يكتب عن كرة القدم أو كرة السلة أو الكرة النسائية أو يمكنه أن يكتب عن التحطيب ودون أن يوجع قلوبنا بركام الأكاذيب التي تتنافي مع شرف الكلمة وأمانة القلم. ولا أدرى لماذا ينتابني شعور غامض بأنه يكتب ومسدس الرقيب العسكري مصوب إلى رأسه، والعرق الغزير يغرق وجهه وسائر بدنه، وحمرة الخجل تكسو وجهه (إذا ما كانت لديه هذه الخاصية النادرة في دنيا الصحافة). ومع إلحاح صديقي أمسكت بصحيفة الأخبار – وكانت المانشيتات الرئيسة كالآتي: أنزاح كابوس الإخوان الأمن ينهي اعتصام رابعة والنهضة وهروب البلتاجي والعريان وحجازي. إعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال. الجماعة تنتحر .. تحرق الكنائس والمدارس وأقسام الشرطة والمحاكم والممتلكات العامة والخاصة سقوط 43 شهيداً من رجال الشرطة بنيران قناصة الإخوان. ثم تضيف الجريدة في عنوان صغير يكاد ينزوي خجلا: البرادعي يستقيل: والإنقاذ وتمرد تعتبره هربًا.
ويأتي إعلان عودة حالة الطوارئ التي حكمتنا طوال ثلاثين عامًا من حكم الرئيس النائم (حسني مبارك) في خجل شديد وبعد ديباجة التبرير (انزاح كابوس الإخوان) – ثم التبرير مرة أخرى الجماعة تنتحر وتحرق؟؟ وكأن الدولة بكل أجهزتها القمعية الجبارة من (داخلية تضم أجهزة أمن الدولة – وشرطة – ومخابرات عامة ومخابرات حربية)، كانت نائمة في العسل واكتشفت الآن أن الإخوان هم من يحرقون، ولم تتوصل هذه الأجهزة الغبية إلى المجرم الذي كان يدمر ويحرق ويقتل المتظاهرين ومشجعي الكرة منذ بداية ثورة 25 يناير وحتى الآن. وإذا كان الإخوان المسلمون قادرين على الحرق فلماذا كان يتم حرق مقراتهم بانتظام وفي كافة المحافظات أيام حكم الرئيس مرسي؟ ولماذا كان يتم الهجوم على مكتب الإرشاد الذي رفضت وزارة الداخلية حمايته وحماية مقرات الإخوان أثناء المظاهرات المناوئة للرئيس مرسي وكان نفس هذا الوزير الفاشل هو وزير الداخلية. ثم تقول الجريدة في المانشيت الأصغر: سقوط 43 شهيدًا من رجال الشرطة بنيران قناصة الإخوان- ولا يذكرون كلمة واحدة عن سقوط ما يقرب من 6000 شهيد من المتظاهرين السلميين في كل محافظات مصر برصاص الشرطة والجيش حتى أمس الخميس. وإذا كان الإخوان قد أصبح لديهم قناصة- فلماذا تم قتل ما يقرب من 2000 متظاهر من العُزل في رابعة العدوية. لقد زارت وفود أجنبية وعالمية عديدة منطقة الاعتصام في رابعة العدوية وشهدت بسلمية المتظاهرين وعدم وجود أي نوع من الأسلحة فيها، أو وجود جثث مدفونة كما زعمت أجهزة الكذب الرسمية في مصر. فلماذا لم ترد قناصة الإخوان المزعومة على ضربات الشرطة والجيش عليها؟ وقد كان يتم تصوير منطقة الاعتصام في كل من ميدان النهضة ورابعة العدوية بالطائرات يوميًا وكأنها مواقع صواريخ أرضية لقوات معادية، وكانت مداخل ومخارج هذه المناطق تعج بحشود الشرطة السرية بالملابس المدنية ودبابات الجيش، فكيف دخلت إليهم هذه الأسلحة المزعومة؟ وتركت الصفحة الأولى في صحيفة الأكاذيب الرسمية، وانتقلت إلى الصفحة الأخيرة، لعلى أجد فيها ما يستحق القراءة أو لعلي أجد على النار هدى – فوجدت "جميل جورج" يقول في يوميات الأخبار وتحت عنوان نأسف رصيدكم نفذ: "إن كل إصلاح اجتماعي أو سياسي في شعب جاهل لا قيمة له ولا بقاء .. عليكم بالطموح" قرأت العبارة مرارًا وتكرارًا ولم أفهم المقصود بهذه العبارة الركيكة غير المتماسكة، وحاولت مرة أخرى بعد ارتداء الفهامة الإلكترونية، ولكن يبدو أن عقلي الذي يعود إلى أصول من الوجه القبلي عجز عن مجاراة العبقرية الكامنة في هذه الحكمة البليغة والموجزة. ولم أفهم من العبارة إلا كلمتي "الشعب الجاهل"، فمن هو هذا الشعب الجاهل؟ لا يمكن إلا أن يكون متحدثًا عن الشعب المصري الذي نحن منه- فإذا كان هذا الشعب جاهلا بالفعل – فمن السبب في بقاءه على هذا الجهل طوال هذه الفترة؟. تحاملت على نفسي لقراءة هذه المقالة العبقرية والتي تردد أكاذيب الإعلام المصري طوال الفترة الماضية عن جرائم الإخوان من الاستقواء بالأمريكان، وبتر أصابع الأطفال وقتل الضباط والجنود، والعثور على مقابر جماعية في رابعة العدوية، ولكنه للإنصاف لم يذكر أنهم يلتهمون لحوم البشر. وبالطبع لم أستطع استكمال المقالة لإصابتي بحالة قيء شديدة ثم بإغماءة طويلة. ثم استعدت الوعي وتماسكت وانتقلت إلى الصفحة الثانية: فض الاعتصام في عيون الفنانين والمثقفين وفيها يورد آراء: حسين فهمين وليلي علوي، وإلهام شاهين وهالة صدقي وميرفت أمين وعادل إمام ومديحة حمدي. وكأن هؤلاء هم من يمثلون الشريحة العريضة للشعب المصري المطحون والمغلوب على أمره. ثم بعد ذلك انتقلت إلى عمود الكاذب (آسف أقصد الكاتب والأديب) جمال الغيطاني الحافل بنفس أكاذيب نظام الانقلاب العسكري عن قيام الإخوان باختطاف الأطفال وبتر أصابعهم ودفن بعضهم أحياء، وأنهم يقومون بالقبض على أي إنسان يمر في الطريق ويتعرض لأبشع أنواع التعذيب؟؟ ولأنني ذهبت إلى ميدان رابعة أكثر من 10 مرات وتجولت داخلها لساعات طويلة، وأنا غير ملتح وغير منتم للإخوان، ولم أجد أي شيء في كل مرة أذهب فيها غير الأسرة المصرية المتدينة الجميلة (الأب والأم والأبناء)، ولم أجد مصاصي دماء، ولم أجد من يسألني لما أتيت عندما ذهبت، ولم يقل لي أحد لماذا تغادرنا عندما خرجت، فقط إجراءات التفتيش العادية للداخلين مع اعتذار في غاية التهذيب والأدب- فمن أين أستقى الغيطاني هذه المعلومات، وهل هو مجبر على سرد هذه الأكاذيب؟ ولم أحتمل أكثر من ذلك. فهل بعد ذلك أيها القارئ العزيز يمكن أن تحترم صحيفة كاذبة من أول صفحة فيها إلى صفحتها الأخيرة؟ ثم ألقيت بهذه الجريدة، والتقطت جريدة الشروق الخاصة، فوجدت العناوين الرئيسة تقول: بديع يطلق شرارة حرق مصر المرشد في سيارة دبلوماسية قطرية، والبلتاجي وحجازي تحت الحصار في رابعة.
ولأن الكذبة والمنافقون يكشفون بعضهم البعض، ففي جريدة الأخبار "هروب البلتاجي والعريان وحجازي" وهنا في جريدة الشروق هم تحت الحصار، ولإضافة بعض التوابل فإن المرشد في سيارة دبلوماسية قطرية، ولابد أن تكون هذه السيارة قطرية أو تركية، لأن منظمة حماس ليست لديها سيارات دبلوماسية. فهل بعد ذلك أيها القارئ العزيز يمكن أن تحترم صحيفة كاذبة في معظم صفحاتها؟ ويبدو أنهم لا يجيدون حتى صناعة الكذب الذي تخصصوا فيه، حيث يمكن لأي إنسان منصف ولديه القليل من حسن التفكير أن يتحقق من هذه الأباطيل التي يتم تلفيقها على عجل وبلا روية، ومن أجهزة أمنية تتسم بالغباء الشديد ولا تدرك أن مصداقيتها تتآكل شيئا فشيئا. وأقسم بالله العظيم بأنني لم أكن أميل إلى جماعة الإخوان المسلمين قبل ثورة 25 يناير، وذهبت إلى مظاهراتهم التي كانوا يقومون بتنظيمها بعد الثورة ومكثت فيها لساعات طويلة للتحقق من هذه الأكاذيب، واكتشفت الظلم الهائل الذي يلحق بهم بلا رحمة وبلا أسباب معقولة، إلا أنهم يقولون ربنا الله، وبعد أن وجدت هذا الكم الهائل من الأكاذيب الممنهجة والممجوجة والتي تكال لهم حتى أثناء حكم الرئيس مرسي بأساليب مخابراتية ونفسية مدروسة كما شعرت بالظلم الهائل الذي يلحق بهم من وسائل الإظلام الإعلام المصرية طوال الفترة التي تلت ثورة 25 يناير. ثم يبقى السؤال الخالد بلا إجابة شافية: هل قرأت مقالة الكاذب الصحفي الكبير فلاني الفلاني؟؟