بدء التسجيل الإلكتروني بجامعة القاهرة الأهلية.. رابط مباشر    أسعار النفط تتكبد خسائر أسبوعية بضغط من زيادة المخزونات الأمريكية    ارتفاع الفول والدقيق.. أسعار السلع الأساسية بالأسواق اليوم (موقع رسمي)    رسميا، ارتفاع عدد سكان مصر إلى 108 ملايين نسمة في الداخل    "تقدم وليس صفقة".. أبرز ما حدث في قمة ألاسكا بين بوتين وترامب    أكسيوس: زيلينسكي يخطط للقاء ترامب في واشنطن    بالأرقام.. الزمالك يتفوق على المقاولون قبل لقاء الليلة    بيرسي تاو ينضم لنام دينه الفيتنامي    الانتهاء من إجراءات إخلاء سبيل مطرب المهرجانات أمين خطاب    السياحة توقع مع شركة الراجحي عقد خدمة الحج السياحي بالمشاعر المقدسة    جامعة السويس تستضيف مهرجان "طرب" الأول للموسيقى والغناء    أكسيوس: ترامب أبلغ زيلينسكي وقادة الناتو أن بوتين يفضل اتفاق شامل لإنهاء الحرب    فوز 4 من أبناء بني سويف في برلمان الطلائع على مستوى الجمهورية    18 قتيلا و24 مصابا فى حادث سقوط حافلة وسط العاصمة الجزائرية    وكيل لجنة الشئون العربية بمجلس النواب : البيان العربى رسالة سياسية قوية موجهة لإسرائيل بأن الدول العربية والإسلامية تمتلك إرادة جماعية    محاكمة 6 متهمين في خلية «بولاق أبو العلا» الإرهابية| بعد قليل    إنقاذ سائق وتباع بعد انقلاب سيارتهما أسفل كوبري أكتوبر| صور    بعد عطلة الجمعة.. مواعيد القطارات من محطة بنها إلى المحافظات السبت 16 أغسطس 2025    السيسي يوافق على ربط موازنة هيئة دعم وتطوير الجامعات لعام 2025-2026    خالد سليم يلتقي جمهور القلعة اليوم ضمن فعاليات الدورة 33 في هذا الموعد    وفاة والدة صبحي خليل وتشييع جثمانها بعد صلاة الظهر    حان وقت الدفاع عن حقوقك وأهدافك.. حظ برج القوس اليوم 16 أغسطس 2025    أمين الفتوى يوضح حكم من تسبب في موت كلاب بغير قصد وحقيقة طهارتها    رئيس هيئة الرعاية الصحية يعلن بدء التشغيل التجريبي لمستشفى السباعية المركزي بأسوان    مدير الرعاية الصحية بالأقصر يتفقد 5 مستشفيات بالمحافظة لمتابعة الخدمات    فيتامينات شائعة تسبب مشاكل صحية غير متوقعة.. احذرها    موعد مباراة ليفربول القادمة في الدوري الإنجليزي بعد فوزه على بورنموث    "رقم تاريخي".. ماذا قدم محمد صلاح مع ليفربول أمام بورنموث في افتتاح الدوري الإنجليزي؟    "بعد حفل زفافه".. 20 صورة وأبرز المعلومات عن أحمد الجندي بطل الخماسى الحديث    وزير الخارجية يحذر من خطورة أوهام إسرائيل الكبرى    90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 16 أغسطس 2025    وفقا للقانون.. تعرف على حالات تتسبب فى وقف ترقيات الموظفين    مصرع وإصابة 15 شخصًا في حادث تصادم ميكروباص بسيارة نقل بالوادي الجديد    وزارة الأوقاف تحدد 15 نقطة لاستغلال وقت الفراغ والإجازة الصيفية.. اعرفها    سيولة مرورية بالطرق السريعة بالقليوبية اليوم 16 أغسطس 2025    بدائل الثانوية العامة محاصرة بالشكاوى.. أزمات مدارس «ستيم» تثير مخاوف العباقرة    أسعار الفراخ اليوم السبت 16-8-2025 فى الأسواق بالمنوفية    حلا شيحة تفاجئ جمهورها ب إطلالة محتشمة في أحدث ظهور.. ماذا قالت؟    اليوم، انطلاق تصفيات مسابقة "دولة التلاوة" ووزير الأوقاف يقرر بثها على 4 قنوات    أول تعليق من مدرب فاركو بعد الخسارة أمام الأهلي    موعد إجازة المولد النبوي الشريف لعام 2025 في مصر    تنسيق الجامعات 2025، خطوات التقدم للالتحاق ببرامج الساعات المعتمدة بآداب القاهرة    إخلاء سبيل صاحب فيديو المتحف المصري الكبير    عمر طاهر عن الأديب الراحل صنع الله إبراهيم: لقاءاتي معه كانت دروسا خصوصية    بوتين يدعو كييف والقادة الأوروبيين إلى عدم عرقلة "التقدم الناشئ"    ترامب يغادر ألاسكا بعد قمته مع بوتين    «سر البشاميل الكريمي».. خطوات مضمونة لنجاحه من أول مرة (الخطوات والطريقة)    محمد معيط يشارك في عزاء وزير التموين الأسبق علي المصيلحي    «مرسال» يعلن إطلاق مبادرة الإستثمار الزراعي في كينيا    مفاجآت في قائمة الزمالك لمواجهة المقاولون العرب    السيطرة على حريق بمحطة كهرباء الحصايا بأسوان    عبيدة تطرح فيديو كليب أحدث أغانيها «ضحكتك بالدنيا»    غلق حمام السباحة بالتنمية الشبابية ببني سويف بعد غرق طفل صغير    تنسيق المرحلة الثالثة 2025 علمي علوم ورياضة.. كليات ومعاهد متاحة والحد الأدنى 2024    «لو بتكح كتير».. تحذير قد يكشف إصابتك بمرض رئوي خطير    وزير الأوقاف السابق: إذا سقطت مصر وقع الاستقرار.. وعلينا الدفاع عنها بأرواحنا (فيديو)    خطيب المسجد الحرام: الحر من آيات الله والاعتراض عليه اعتراض على قضاء الله وقدره    حكم من مات في يوم الجمعة أو ليلتها.. هل يعد من علامات حسن الخاتمة؟ الإفتاء تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شُيُوخُ الأَزْهَرِ حُلَفَاءُ الْعَسْكَرِ وَأَعْدَاءُ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ
نشر في الشعب يوم 17 - 08 - 2013

تقومُ الدّيكتاتوريّاتُ العسكريّةُ على الاستبدادِ، والقمعِ، والقهرِ. ليسَ يطيقُ الحاكمُ المستبدُ أنْ يُعارضَهُ أحدٌ، أو يحولَ حائلٌ بينه وبين استبداده. دستورُ العسكرِ يقول: «إمّا الطّاعة، وإمّا الإبادة». ومن هذا المنطلقِ لا يجدُ الدّيكتاتورُ أحدًا يتعاونُ معه، إلّا الحثالات والرّمم. فليسَ يقبلُ أيّ إنسانٍ يحترمُ نفسَهُ أن يخدمَ حاكمًا مستبدًا يعامله كدميةٍ أطفال، أو قطعة شطرنج، يحرّكها كما شاء، ومتى شاء. أتذكّر أنّ أحدَ سفراء مصر في سويسرا حكى لي مرّة أنّ الدّيبلوماسيّين المصريّين أرادوا مرّة التّمرّد على الرّئيس السّادات. فما كان منه إلّا أنّ تهكّم عليهم قائلًا: «أنتم كالسّبّاكينَ، آمركم فتأتمرون. فكيف تتجرؤون على التّمرّد عليّ؟»!! والواقعُ أنّ هذا هو حالُ كلّ من يخدمُ الدّيكتاتور، ويعمل للطّغاة. فالحاكم المستبدُ لا يريدُ مناقشات، ومحاورات، بل يحتاج إلى خدمٍ وعبيدٍ ينفذّون الأوامرَ، ويُظهرونَ الطّاعةَ. وَبَعْدُ.
كلّما تأمّلتُ الشّخصيّاتِ الّتي خدمتِ عسكرَ مصرَ أكثر من ستّين عامًا، تعجبّتُ من ندرةِ المحترمينَ منهم أو انعدامهم. ولا عجبَ في ذلكَ. فالطّغاةُ لا يريدونَ إلّا المطيعينَ، المنافقينَ، المهرولينَ، من أمثال محمّد حسنين هيكل مَعَ عبد النّاصر. أيُّ وزير يجرؤ على المعارضة، يتمّ فصله وطرده على الفورِ. والغريبُ أن استقالةَ الوزراء في عصر العسكر منذ 1952م كان شيئًا نادرًا جدًّا. والسّبب بسيط هو أنّ خدم الطّاغية حريصون على مصالحهم جدًّا، بقدر حرصهم على خدمة الطّاغية ومداهنته. ولعلّنا نتذكّر التّصريح الشّهير الّذي أدلى به أحد وزراء نقل الرّئيس المخلوع حسني مبارك، عندما طالبه النّاس بالاستقالةِ، بعد مأساة غرق إحدى السّفن المصريّة في مياه البحر الأحمر، فردّ قالًا: «لماذا أستقيل؟ أنا غير مسؤول عن هذه الحادثة. البحر هو المسؤول. إذن فلتطالبوا البحر بالاستقالة»!! وهذا قول يوحي ببلادة الحسّ، وانعدام الضّمير، وحبّ المنصبِ، والاستخفاف بعقول النّاسِ. وكلّها صفات خدمِ الطّغاة، ومنافقي السّلطة. وبعدُ.
قبلَ استعراضِ حالةِ شيخ الأزهر الحالي، بودّي وضع هذه الحالة في إطارها التّاريخيّ الصّحيحِ. فمنذ انقلاب سنة 1952م حرص العسكر على فرض هيمنتهم على الأزهر، وإقصاء أيّ صوت معارض لاستبدادهم. فشيخ الأزهر يقوم العسكر بتعيينه، لكي يؤيّد جرائمهم، ويصدر لهم الفتاوى الّتي تحرّم الحلال، وتحلّل الحرام. ولا عجبَ في ذلكَ. فديكتاتوريّة العسكر زرعتِ الخوفَ في قلوب المصريّينَ. فأصبحت خدمة السّلطان إحدى وسائل النّجاة من البطش، والخلاص من العذاب. وهكذا صار لدينا صورة قبيحة جدًّا للأزهر الشّريف. إذ لم يعد مسموحًا لأي عالم أزهريّ حقيقيّ أن يتبوّأ منصب شيخ الأزهر. والسّبب بسيط هو أنّ العلماء غير مرحّب بهم عند مجرمي عسكر مصر. فهم يُفضّلون الجهلة المطيعين المنافقين الانتهازيّين. كان الشّيخ طنطاوي، أحد شيوخ الأزهر في عصر الرّئيس المخلوع حسني مبارك، يستبسل في الدّفاعِ عن استبداد مبارك وسياسته. ولم يتورّع عن الكذبِ عندما أثارت مقابلته الرّئيس الإسرائيليّ شيمون بيريز استنكارَ جموع النّاس في مصر، حيث ادّعى أنّه صافحَ بيريز، دون أن يعلم مسبقًا أنّه رئيس دولة إسرائيل!! مرّة أخرى نلمسُ الاستخفاف بعقول النّاس، الّذي يعتبرُ أحد أسس الدّيكتاتوريّة العسكريّة. وبعد.
دعني، أيّها القارئ الكريم، أنقل إليكَ بعضَ ما كتبه الباحثُ زكريا سليمان بيومي عن علاقة عبد النّاصر بالأزهر في كتابه: «الإخوان المسلمون بين عبد النّاصر والسّادات من المنشية إلى المنصة 1952م-1981م»، حيثُ يقولُ: «استمرّ الأزهرُ ولأكثر من نصفِ قرنٍ يُعاني من محاولاتِ إصلاحٍ متعثّرةٍ، ولعلّ من أهمّ الأسبابِ الّتي أدّت إلى ضعف هذه المحاولاتِ الإصلاحيّةِ أنّ أصحابها كانوا مُصلحينَ فرديّينِ لا يمثّلونَ أيّةَ جماعةٍ - أو مجموعةٍ - منظّمة، حتّى أنّهم كانوا يُعارضونَ بعضهم البعضَ. ولذا سهُلَ على القوى التّقليديّةِ في الأزهرِ أن تقضي عليهم، بل وتنجح في اتّهامهم بالخروجِ على الإسلامِ. وقد أدّت هذه المحاولاتُ - أو ربّما عدم نجاحها - إلى ضعفِ دورِ الأزهرِ في الحياةِ الفكريّة في مصرَ، وبخاصّة بعد أن واجه الأزهرُ فكرًا ليبراليًّا جديدًا حاولَ أن يحدّ من سلطانه. وقد توسّع اللّيبراليّون في إنشاءِ مدارسَ حكوميّةٍ وجامعاتٍ، واهتمّوا بخريجيها وساعدوهم - من خلال سيطرتهم على السّلطةِ - في أن يشغلوا مناصبَ كانَ الأزهريّون يشغلونها من قبلُ. وحتّى حينَ عاد الدّين ليشغلَ دورًا هامًّا في الفكرِ المصريّ في الأربعينيّاتِ، وبعد أن انتابَ التّجربة اللّيبراليّة شيء من التّدهور، كانَ الإخوانُ المسلمونَ هم فرسان الميدانِ، وليس الأزهر، وظلّوا هكذا حتّى تواروا عنِ السّاحةِ بعد صدامهم مع النّظامِ السّياسيّ سنة 1954م. (عن بيانِ الشّيخ عبد الرّحمنِ تاج الّذي اعتبر الإخوان كالخوارجِ لا يُقبلُ في أمرهم توبة ولا شفاعة، انظر الأهرام، 17 نوفمبر 1954م. ونُشر في اليومِ التّالي بيان مماثل من هيئة (جماعة) كبار العلماء بالأزهر، الأهرام، 18 نوفمبر 1954م).
لذلكَ فإنّه في أعقابِ حادثِ المنشيةِ حينَ سلكَ عبد النّاصر سياسةً دينيّةً تقومُ على احتواءِ الأزهرِ كمؤسّسةٍ دينيّةٍ حكوميّةٍ، وكبديلٍ لجماعةِ الإخوانِ المسلمينَ، لقى ذلكَ ارتياحًا لدى كثير من مشايخ الأزهرِ الّذينَ وجدوها فرصةً يستعيدون بها دورهم كفرسان للسّاحةِ الدّينيّةِ من جديدٍ. كما قامَ عبد النّاصر بتكوين مؤسّسة دينيّةٍ أخرى هي المجلس الأعلى للشّؤون الإسلاميّةِ (1960م)، أوكلَ رئاستها لواحدٍ من ضبّاطِ النّظامِ هو محمّد توفيق عويضة. وضمّ إليه العديدَ من المنشقّينَ على الإخوانِ - طوعًا أو خوفًا - وبعض رجال الأزهر وخاصّة من الّذين سبقَ لهم أن قاموا بنشر العديد من المقالاتِ الّتي تهاجمُ أسلوبَ الجماعةِ، وتصفُ أعضاءها بأنّهم إخوان الشّياطين (صدرت مجلّة باسم «إخوان الشّياطين»، كتبَ فيها كثيرٌ من الكتّاب المسلمينَ، مثل ... حنفي عبد المتجلّي أحد مشايخ الأزهر. وكانَ الأزهرُ قد سارعَ بإصدارِ بيانِ استنكارٍ للجماعةِ وتأييدٍ للثّورةِ. وأعلنَ الشّيخُ محمّد الطّنيحي، مدير الوعظ والإرشاد بالأزهر، أنّه يبرأ من هذه الجماعةِ إلى يومِ الدّينِ، كما اتّهمهم أحدُ أساتذة الأزهرِ بأنّهم مارقونَ، وأنّها جماعة ضالّة تروّج للباطلِ، وتسعى إلى انقلابِ النّاسِ ممّا يبعدهم عن الهدى. انظر: جريدة الجمهوريّة، مقالات بعنوان: «نحو بعث جديد»، في 1، 2، 3، 7 سبتمبر سنة 1954م...). وأوفدَ هذا المجلسُ مجموعاتٍ من وعّاظَ الأزهرِ إلى كثيرٍ من بلادِ العالمِ الإسلاميّ، لتعليمِ اللّغة العربيّة، ولكي يكونوا اللّسانَ الدّينيَّ للنّظامِ السّياسيّ خارجَ مصرَ. وسارَ الأزهرُ - أخذًا بتعليماتِ عبد النّاصر ورفاقه - في طريقِ إعدادِ خطبةٍ مركزيّةٍ، وفقَ رؤيةٍ ناصريّةٍ، من خلال المساجدِ في خطب الجمعة، لاحتواءِ بقيةِ خلايا الإخوانِ، بطرحِ فلسفةٍ إسلاميّةٍ بديلةٍ استحوذت على رضا الطّبقةِ الوسطى الّتي تأثّرت بأساليبِ الحضارةِ الغربيّةِ، مع تعلّقها بالدّينِ، فضلًا عن أنّ هذه الطّبقةَ والطّبقةَ الدّنيا قَدِ انصاعتْ للنّظامِ السّياسيّ، في الغالبِ، متأثّرة بالإصلاحاتِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ بعدَ إلغاءِ الإقطاعِ وتطبيقِ قانونِ الإصلاحِ الزّراعيّ، ومجانيّة التّعليمِ، والحدّ من سطوةِ الطّبقةِ الرّأسماليّةِ، والقرارات العماليّةِ، وغير ذلك.
ولهذا نعمَ الأزهرُ خلالَ هذه الفترةِ باهتمامِ مجلسِ قيادةِ الثّورةِ، وذلكَ لجهده في محاولةِ إضفاء الشّرعيّةِ الدّينيّةِ على النّظامِ السّياسيّ والقيادة السّياسيّةِ، فتكرّرت زيارةُ أعضاءِ النّظامِ له، وأداء صلاة الجمعةِ فيه. وأدّى ذلكَ إلى تأخّرِ الإعلانِ عن خطّة مجلسِ الثّورةِ لإصلاحِ الأزهرِ، برغمِ الاقتناعِ الكاملِ - منذ البدايةِ - بضرورتها بقصد إحكامِ قبضةِ النّظامِ على هذه المؤسّسةِ الدّينيّةِ والتّيّارِ الدّينيّ برمّته. وما أَنِ استشعرَ مجلسُ قيادةِ الثّورةِ بتحقّق هذا الهدف إلى حدٍّ كبيرٍ، ووجود أعوانٍ له داخلَ هذه المؤسّسةِ، إلى جانبِ شعورِهِ بالقوّةِ، إلّا وأقدمَ سنةَ 1955م على إلغاءِ المحاكمِ الشّرعيّةِ - والمجالس الملّيّة القبطيّة - ليحلّ محلّها نظامًا للقضاء المدنيّ تابع للحكومةِ، استوعبَ هذه المحاكمِ إلى جانبِ محاكمِ الأقلّيّاتِ الدّينيّةِ، عملًا على تأكيدِ سيادةِ الدّولةِ على القضاءِ وتوحيدِ النّظامِ القانونيّ.
ولم يبدِ الأزهرُ أيَّ موقفٍ تجاهَ هذا الأمرِ، بل أعلنَ أحدُ كبارِ شيوخه، وهو الشّيخُ عبد الرّحمنِ التّاج، تأييده له. ولهذا لم يتردّد مجلسُ قيادةِ الثّورةِ في تأميمِ الأوقافِ الخيريّة سنة 1957م، والّتي كانتْ تُعتبرُ - إلى جانبِ الأوقافِ الأهليّةِ الّتي أٌمّمتْ سنة 1953م - الأساسَ الاقتصاديّ للأزهرِ. وهو أمر أسهمَ في مزيدٍ من إحكامِ سيطرةِ النّظامِ عليه، برغم اللّجوءِ إليه في أعقاب العدوانِ الثّلاثيّ على مصرَ سنة 1956م، كما لم يتردّد في الإعلانِ عن خطّته لتطويرِ الأزهرِ في العامِ نفسِهِ الّذي أعلنت فيه القرارات الاشتراكيّة سنةَ 1961م. وعلى الرّغمِ من ذلكَ فقد تركت هذه الخطوات ظلالًا من الشّكّ لدى بعضِ مشايخِ الأزهرِ تجاه نوايا النّظامِ السّياسيّ ناحية الأزهر، بدأت تُعبّر عن نفسها، إمّا من خلالِ رفضِ التّعاونِ مَعَ المسؤولينَ الحكوميّينَ الّذين تولّوا إدارةَ شؤونِ الأزهرِ، أو باستقالة بعضهم، وهو ما أستفاد منه النّظامُ السّياسيّ، حيثُ قام بإحلالِ غيرهم من الحاصلينَ على الدّكتوراةِ من أوروبّا، ... وكانَ هؤلاءِ بطبيعةِ الحالِ يتميّزونَ بنزعةٍ أكثر تحرّرًا، حلّوا محلّ المستقيلين من المشايخِ التّقليديّين. وقد استطاعَ هؤلاءِ أن يُهيؤوا الطّريقَ أمامَ الإعلانِ عن خطّةِ تطوير الأزهرِ.
وَقَدْ أسفرتْ خطّةُ تطويرِ الأزهرِ عن تعديلِ بعضِ المناهجِ الدّراسيّةِ في الكلّيّاتِ التّقليديّةِ الّتي تهتمّ بالدّراساتِ الدّينيّةِ، وإضافة أربعِ كلّيّاتٍ جديدةٍ هي الطّبّ، والزّراعة، والهندسة، والتّجارة، فضلًا عن تدعيمِ فرعٍ متكاملٍ للبناتِ، لكنّ الأهمّ من ذلكَ كَانَ تبعية الأزهر لرئاسةِ الجمهوريّةِ، وتعيين وزيرٍ حكوميٍّ لإدارةِ شؤونه، كانَ في بعضِ الأحيانِ من غيرِ مشايخِ الأزهرِ (مجلة الأزهر، يونيو 1970م. وقد تولّى شؤون الأزهر كلّ من كمال الدّينِ رفعت في المدّة من 11-2-1959م حتّى 22-10-1959م، أحمد عبد اللّه طعيمة من 22-10-1959م حتّى 17-10-1961م، حسين الشّافعي من 18-10-1961م حتّى 23-1-1962م، وهم جميعًا من ضبّاط الثّورة).
ولم يلتفتِ النّظامُ إلى الصّيحاتِ المعارضةِ لخطّةِ التّطويرِ من بعضِ مشايخِ الأزهرِ، حيثُ كانَ قد نجحَ في استقطابِ مجموعةٍ كبيرةٍ غيرهم أعلنت تأييدها على لسانِ شيخِ الأزهرِ. وتركَ النّظامُ السّياسيّ المجالَ لمجموعةٍ كبيرةٍ من كتّابِ الصّحافةِ لاتّهامِ الجناحِ المعارضِ بالرّجعيّةِ، ورفض التّطوّر والعجزِ عن فهمِ المعطيات الحضاريّةِ، وهو أمر يرفضه الإسلامُ. ولم يقفِ النّظامُ عندَ هذا الحدّ، بل راحَ يُحَجّمُ دورَ المعارضينَ، أو يطوّعُ بعضهم، ويُشجّعُ الّذين ساروا في ركبه، ويباركونَ خطواته. بل وصلَ الأمرُ بهذا الجناح إلى حدّ تبنّي رؤية النّظام في الانتشارِ العربيّ والإسلاميّ لآرائه خارجيًّا، والتّوفيق بينَ الرّؤى الإسلاميّة والرّؤى الاشتراكيّة الّتي سعى النّظامُ لتطبيقها داخليًّا. وصدرت لهذا الغرض العديد من الكتب والمؤلّفات الّتي تؤكّد حرصَ الإسلامِ على الاشتراكيّة والعدالةِ الاجتماعيّةِ بشكلٍ يقتربُ من مطروح النّظامِ أو يُطابقه. ووصفَ أحد أتباع هذا الجناح - وهو رئيس تحرير مجلّة الأزهر - عبد النّاصر بأنّه المهدي المنتظر الّذي أرسلته العنايةُ الإلهيّةُ، ليُخلّصَ النّاسَ من الفسادِ والطّغيانِ، وليقرّ عدالةً اجتماعيّةً تستندُ في أساسها على تعاليمِ الإسلامِ. واستخدم النّظامُ الكثيرَ منهم للدّعوةِ إلى هذا الاتّجاهِ عن طريقِ أجهزةِ الإعلامِ، ووفقَ خطّةٍ إعلاميّةٍ مكثّفةٍ ومدروسةٍ. كما استخدمهم في الهجومِ على الأنظمةِ العربيّةِ المعاديةِ، فوصفت مجلّة الأزهر الملوكَ والرّؤساءَ العربَ بأنّهم رجعيّونَ دنّسوا الإسلامَ بالذّهبِ الأمريكيّ، من أجلِ أن يُحافظوا على أملاكهم، وأنّهم بهذا اتّبعوا الشّيطانَ وتركوا اللّهَ.
ولم يعرِ النّظامُ الطّرقَ الصّوفيّةَ اهتمامًا كبيرًا حيثُ كان يُدركُ ضآلةَ تأثيرها. واكتفى بتحويلِ طريقةِ تعيينِ شيخها من الانتخابِ إلى التّعيينِ بقرارٍ جمهوريٍّ. وعلى الرّغمِ من ذلكَ سارعَ المجلسُ الصّوفيّ الأعلى بإعلانِ تأييده لثورةِ 1952م، مؤكّدًا أنّ الطّرقَ الصّوفيّة تنعم بازدهارٍ بسببِ تشجيع الثّورةِ وقائدها العظيم. كما نشرتْ مجلّتهم العديدَ من المقالاتِ الّتي امتدحتِ التّوجّهاتِ الاشتراكيّةَ للنّظامِ بوصفها أنّها اشتراكيّة مؤمنة، وليستْ اشتراكيّة ملحدةً، فاضلة لا فاجرة. ووصفت قائد النّظامِ الدّاعي للاشتراكيّة - وهو جمال عبد النّاصر - بأنّه بهذا يأمرُ بالمعروفِ، وينهي عن المنكر، ويُؤمنُ باللّهِ. وذكرت أنّ ما يقومُ به عبد النّاصر يتّفقُ مَعَ جوهرِ الرّسالةِ الإسلاميّةِ. ودعا شيخُ مشايخِ الطّرقِ الصّوفيّةِ على أثرِ عدوانِ سنة 1956م إلى الجهادِ وراءَ جمالِ عبد النّاصر، وأنّ الانتصارَ خلفه سيكونُ يومَ عيدٍ للإنسانيّةِ.
من هنا يمكنُ القولُ بأنّ النّظامَ قد أحكمَ قبضته على المؤسّساتِ الدّينيّةِ الّتي تُعبّرُ عَنِ التّيّارِ الإسلاميّ بكلّ روافده. وهو أمر يُفسّرُهُ عدم وجود أيّ صدًى لصدورِ الميثاق الوطنيّ، على الرّغم من تهجّم الميثاقِ على جوانبَ في التّاريخِ الإسلاميّ كاعتباره الوجودَ العثمانيّ غزوًا واحتلالًا - وهو أمر يُخالفُ اتّجاهَ مشايخِ الأزهرِ، وكذلك عدم توضيحه لدورِ الشّريعةِ أو حتّى لدينِ الدّولةِ. وكانَ هذا سببًا في صدورِ بعضِ المؤلّفاتِ خارجَ مصرَ تدينُ هذه التّبعيةَ ومحاولات التّبرير للاشتركيّة العربيّة والميثاق الوطنيّ وربطها بالقيمِ الإسلاميّةِ، وانتقصت هذه المؤلّفات من قدرِ كثيرٍ من كبارِ الكتّابِ الّذينَ لزموا الصّمتَ دونَ معارضةٍ، أو حتّى محاولةِ ترشيدٍ.
وظلّت علاقةُ الأزهرِ - ومجموعة من رجالِ الإخوانِ تعاونت معه - وطيدةً بعد النّاصر، ... وتولّوا هم إصدار الفتاوى للتّوفيقِ بينَ تجربته الاشتراكيّة والاتّجاه الإسلاميّ، أو إسباغ الصّفة الإسلاميّة على هذه التّجربة. كما أنّ عبد النّاصر لم يكن يُريدُ أن يُديرَ ظهره للاتّجاه الإسلاميّ برمّته لما له من تأثير جماهيريّ من جهة، وليكون أحد سبله في سياسته الرّامية إلى توحيد وتضامن دول العالم الإسلاميّ تجاه أهداف اجتماعيّة وسياسيّة من جهةٍ أخرى.
وَمَعَ أنّ أتباعَ الاتّجاهِ الإسلاميّ الموالينَ للنّظامِ قدِ ارتضوا منه هذا القدرَ، إلّا أنّ هذا الاتّجاه قد أضرّ بالتّجربةِ النّاصريّة إلى حدٍّ كبيرٍ. فقد كانَ الجمعُ بينَ الاتّجاهِ القوميّ ببعده المصريّ والعربيّ والاتّجاه الإسلاميّ من جهةٍ، وبينهما وبين المبادئ الماركسيّة من جهةٍ أخرى كفيلًا بخلقِ تناقضاتٍ لا تضمن سلامةَ التّجربةِ في طورها النّظريّ أو في مسيرتها التّطبيقيّة. وقد بدا هذا التّناقضُ في كثيرٍ من المواقفِ حيثُ لم يستطعِ التّوفيقَ بينَ الاتّجاهِ الوطنيّ وشعار الحرص على مصلحة الوطن وبينَ ما أصابَ الوطنَ والمواطنَ المصريَّ من خسارةٍ نجمت عن خطوات تجاه تحقيقِ القوميّةِ العربيّةِ في تجربةِ الوحدةِ الفاشلةِ مَعَ سوريا، أو التّورّط العسكريّ في اليمن، حيثُ كانَ قدر تحمّل المواطنِ المصريّ من هذه الخطوات - حتّى ولو كانت ضروريّة - لا يوازي قدر قناعته - أو إلمامه - بالفكرة العربيّة. كما لم يكن كثير من المحافظين من أتباع الاتّجاهِ الإسلاميّ - في مصر والعالم العربيّ - مستعدّين لأن يقبلوا فسلفةً إسلاميّةً في إطار قوميّ عربيّ ترفضه أسس هذه الفلسفة، واختلفوا بهذا مع عبد النّاصر في نظرته للإسلامِ كمجرّد تاريخ وتراث يمكن الاستفادة به في هذا الميدان. وقد أدّى هذا التّناقض إلى إعلانِ مجموعة من المسلمينَ المحافظين - على رأسها سيّد قطب - رفضها لبعض الأفكار الإساسيّة لنظامِ عبد النّاصر، واعتبروها فسادًا وجاهليّة، وأدّى هذا إلى وقوعِ صدام آخر بينَ عبد النّاصر والاتّجاه الإسلاميّ». وبعدُ.
عندما التقيتُ أحمدَ الطّيّب في أوروبّا قبلَ سنواتٍ طويلةٍ، كانَ مازالَ يعملُ مدرّسًا في جامعة الأزهر. لفت نظري نفاقه الشّديد، وضحالة فكره، وضعف تعليمه. فعندما قدّمته إلى صديقي سفير مصر في سويسرا الّذي كان ابن أحد شيوخ الأزهر الأسبقين، سارع إلى مدحه بطريقة مقزّزة. وكانَ لا يلتزم بآداب الحديث، فيقاطع من يتحدّث معه بأسلوب سوقيّ قبيح. وأتذكّر أيضًا أنّني راسلته بعد عودته إلى مصر. وعندما صارحته برأيي في ضعف مستواه، لم يتورّع عن توجيه السّباب والشّتائم لي. ومرّت الأيّام، وإذا به يتقرّب إلى رجال مبارك في جامعة الأزهر، من أمثال زقزوق، فأعانوه على اعتلاء المناصب الكبرى في جامعة الأزهر، ثمّ في الأوقاف، وأخيرًا في مشيخة الأزهر. والرّجل باختصار هو من خدم مبارك المخلصين جدًّا. وكان يتآمر على الثّورة المصريّة منذ البداية. ولم يكن مستغربًا أن يحضر خطبة العار الّتي ألقاها السّفّاح السّيسيّ عندما قام بانقلابه الدّمويّ في الثّالث من يوليو سنة 2013م. فولاء الطّيّب للسّلطة، وليس للشّعب، أو الإسلام. وحبّه للكرسي والمنصب أعظم بكثير من حبّه للإسلام وإخلاصه له. وكنتُ أتعجّبُ عندما اكتشف وجودَ علماء أزهريّين محترمينَ، على قدرٍ كبير من العلم والثّقافة، وأتساءل: لماذا دفنَ مبارك العلماءَ، وأعلى الجهلاءَ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.