تحيرت كثيرا كي أجد كلمات تعبر عما بداخلي نحو تلك السيدة التي قضيت معها نحو تسعين دقيقة، كانت من أهم اللحظات في حياتي, فأنا الشابة التي اعتادت التهرب من الجلوس مع كبار السن لرتابة حديثهن وثرثرتهن التي لا معنى لها, ها أنا أجلس في صمت وانبهار أمام امرأة تعدت الستين ولكنها في واقع الأمر أصغر من كثير من شباب اليوم.. إنها عفاف طبالة, المخرجة ورئيسة قناة الدراما المصرية سابقا وكاتبة الأطفال, والتي وضعت حجر الأساس لإنقاذ أدب الأطفال خلال فترة قصيرة بعد أن كاد يوشك على الانقراض, فأعادت له الحياة بمفهوم جديد وروح مختلفة عما اعتدنا عليه في تلك النوعية من الكتب. لقائي مع الدكتورة عفاف طبالة جاء خلال الندوة التي أقامتها لها مدرسة الراهبات الألمانية وذلك ضمن فعاليات معرض الكتاب الذي تقيمه المدرسة سنويا في شهر نوفمبر وتشرف عليه السيدة «هيكل», الندوة نظمت لمناقشة كتاب البيت والنخلة الذي حصلت طبالة عنه على جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2011 , وخلال الندوة تبادلت طالبات المرحلة الإعدادية اللاتي قمن بإدارة الندوة مع المربية الفاضلة الحديث حول الكتاب الذي يدرس ككتاب حر في مادة اللغة العربية بالمدرسة. وخلال الندوة أكدت الدكتورة عفاف أن كتاب البيت والنخلة حاز على الجائزة بإجماع جميع الآراء, وأنه روجع ست مرات ولم يوجد به أي خطأ, لذلك يعتبر نموذجا للغة العربية السليمة والبسيطة, كما أعربت طبالة عن أملها في أن يقرر هذا الكتاب للقراءة في جميع المدارس المصرية . وفجرت طبالة مفاجأة من العيار الثقيل حين قالت إنها تعلمت اللغة العربية في مرحلة متأخرة من عمرها «أنا خريجة مدارس فرنساوي, واللغة العربية كانت بالنسبة لنا لغة درجة ثانية وكان التحدث بها جريمة نعاقب عليها في المدرسة ولكن بعد ثورة 23 يوليو التي أعلت الحس الوطني والاعتزاز بالعروبة, بدأ اهتمامنا بلغتنا الأم وافتخرنا بالتحدث بها». أما عن سر توجهها للكتابة بعد تخطيها لسن الستين, فقالت عفاف إن أحفادها هم من ألهموها ذلك, فقد وجدت فيها فرصة لتسجيل تراث الحكي بينها وبين أحفادها, فكانت تستغل سرد القصص لربط أحفادها بها عاطفيا خصوصا أنهم لا يعيشون في مصر ولقاءاتهم بها قليلة, كما أشارت إلى أن كل ما كتبته تقريبا كان بدايته ومنبته وبذرته تسجيل لجلسات طويلة من الحكي مع أحفادها مؤكدة أيضا أنها قامت بتطوير وتحديث تلك الحكايات لتخرج بالشكل الذي قدم لقارئيها. وتعتمد الدكتورة عفاف بشكل كبير على فكرة البناء في جميع كتبها لأنه على حد قولها هو المسئول عن الإيقاع والتماسك للرواية, حيث قالت «الكتابة ليست إلهاما ووحيا فقط, بل نتيجة تخطيط وجهود كبيرة, لذا يجب الحرص على التدقيق والصياغة, فلقد كنت حريصة عند الكتابة على خروج الجملة منغمة وبسيطة حتى تصل للقارئ بدون صعوبة, وأنا من النوع الذي ينحت الجمل حتى تصل إلى الشكل المعبر المثالي, فأنا أؤمن بأن الجمال يكمن في التفاصيل» وحول القيم التي تقدم في كتبها, قالت طبالة «عند الكتابة لا أفكر إطلاقا في إعلاء قيمة معينة, كل ما أفكر فيه أن أخرج بعمل فني جميل, وما سيتضمنه هذا العمل من قيم هى ما بداخلي, فكل إناء ينضح بما فيه, سواء كان جيدا أم سيئا». كما عابت على الكتاب اجترارهم للأعمال القديمة دون تطوير أو تحديث واستخدامهم للأسلوب المباشر في التعليم، مؤكدة أن طريقة التعليم غير المباشرة تترك أثرا أكبر داخل القارئ لأنها تتيح له فرصة استخلاص القيم والعبر والمعاني الجميلة بمفرده, وهذا ما أثبتته الكثير من الدراسات العلمية التي للأسف يتم تجاهلها عند كتابة هذه النوعية من الكتب. واعتبرت عفاف أنه لا يوجد فرق بين الإخراج والكتابة فكلاهما على حد وصفها عملية اتصال بالآخر, لإيصال ما بداخلك «وأنا لدي رصيد من الحكي من أنواع أخرى من خلال الأفلام الوثائقية والمقالات, ولم أندم أبدا على عملي كمخرجة, لقد كان هذا العمل مطلبي وغايتي منذ أن تقدمت للقوى العاملة عند بداية حياتي المهنية». وفي نهاية الندوة أكدت السيدة هيكل المديرة المصرية لمدرسة الراهبات الألمانية والمسئولة عن الناحية التربوية فيما يتعلق بمنهج اللغة العربية، أنها تهتم بتقوية الهوية المصرية عند الطالبات من خلال ندوات ثقافية ولقاءات مع كتاب وأدباء مصريين, حيث قالت « يعتبر معرض المدرسة للكتاب فرصة للتبادل الثقافي وخاصة الأدبي بين الطالبات وبين قامات أدبية مصرية, وهذا هو الغرض من استضافة الدكتورة عفاف طبالة التي تتميز أعمالها بتركيزها على المجتمع المصري, حيث تستلهم أدبها من تراث الحكي الشعبي وعلى الرغم من ذلك فأعمالها شديدة الحداثة لأنها مشغولة في أعمالها دائما بهموم الوطن والمصريين» . بطاقة تعارف ولدت الدكتورة عفاف طبالة عام 1941, وحصلت على ليسانس الآداب قسم اللغة الفرنسية من جامعة القاهرة، ومن نفس الجامعة حصلت على درجة الماجستير والدكتوراه في الإعلام. تولت تلك السيدة العديد من المناصب كان من أهمها الإشراف على قنوات النيل المصرية ورئاسة قناة النيل للدراما, كما حصلت على العديد من الجوائز المصرية والدولية كان آخرها جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2011 عن كتاب «البيت والنخلة» , وجاء في بيان الجائزة إن «هذا الكتاب يقدم خطاباً أدبياً متطوراً يخرج عن السائد في كتابة أدب الأطفال؛ إذ يحاول الكاتب ترك مساحة للقارئ في مرحلة المراهقة يعيد فيها النظر في كثير من الموجودات حوله، وقد نجح الكتاب بأسلوبه السردي القصصي في فتح آفاق من الخيال تسمح لقارئه بأن يتلمَس تفسيرات عقلية تكمل أحاسيسه الوجدانية والروحية.»