لا أجد أي غضاضة أن أقول وبسرعة أنا آسف آنا غلطان .. أنا أخطأت في كذا وكذا وأعتذر عن هذا الموقف أن هذه وجهة النظر الخاطئة التي طرحتها .. لأن الحقيقة لا يحتكرها أحد بل وهناك متغيرات تطرأ علي كثير من الأمور في حياتنا اليوم تجعل الإلمام بجميع الأمور في كثير من المواضيع أمر صعب للغاية .. وأسأل هل وصلنا في مجتمعاتنا العربية خصوصاً والتي تندر فيها ثقافة الاعتذار إلي درجة الكمال ..؟ فلا نسمع اعتذارا لأفراد أو جماعات ومؤسسات عن أخطاء وقعت أو تجاوزات حدثت .. أبحث عن الاعتذار في اللغةً فأجده كلمة تَدُلُّ عَلَى الْعُذْرُ وَهُوَ محاولة الإِنْسَانِ إِصْلاَحَ مَا أنْكرهَ عَلَيْهِ الآخرون بِكَلاَمٍ أو بفعل أو بإشارة وأجده اصطلاحًا هو أن يظْهر الإِنْسَان النَدَمٍ وأن يتَحَرِّي شيئا مَا يَمْحُو به أَثَرَ ذَنْبِه. الاعتذار ورد في القرآن في مواطن كثيرة منها : يقول الله تعالى قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ التوبة 2- يقول الله تعالى في سورة التوبة في شأن الْخَوَالِفِ عن غزوة تبوك يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ 3- يقول الله تعالى في سورة غافر يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ 4- يقول الله تعالى في سورة المرسلات هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وأفضل خلق الله سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم يوم أن أنكشف المسلمين في غزوة أخد يلجأ إلي الله قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ، يَعْنِي أَصْحَابَهُ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ.. بل إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عاتبه الله في عبد الله بن أم مكتوم والذي نزلت فيه سورة "عبس". ففي موقف الرسول من ابن أم مكتوم بعد نزول الآية خير دليل على ضرورة مراجعة الإنسان لأفعاله مهما كان مركزه ومهما علا قدره لأن الاعتراف بالحق فضيلة. فقد روى الثوري ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى بن أم مكتوم بعد ذلك يبسط له رداءه ويقول: "مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، هل من حاجة؟". كما استخلفه على المدينة في غزوتين غزاهما الرسول ليدلل له على مكانته لديه.وموقف آخر يدل علي عظم قيمة الاعتذار حيث اجتمع الصحابة في مجلس لم يكن معهم الرسول صلى الله عليه وسلم فجلس خالد بن الوليد، وجلس ابن عوف، وبلال و أبو ذر، وكان أبو ذر فيه حدة وحرارة فتكلم الناس في موضوع ما، فتكلم أبو ذر بكلمة اقتراح: أنا أقترح في الجيش أن يفعل به كذا وكذا. قال بلال: لا هذا الاقتراح خطأ.فقال أبو ذر: حتى أنت يا بن السوداء تخطئني!!، فقام بلال غاضباً..وقال: والله لأرفعنك لرسول الله عليه السلام .. وأندفع ماضيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..وصل للرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يارسول الله .. أما سمعت أبا ذر ماذا يقول في ؟ قال عليه الصلاة والسلام: ماذا يقول فيك ؟؟قال بلال: يقول كذا وكذا .. فتغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم .. وأتى أبو ذر وقد سمع الخبر .. فاندفع مسرعا إلى المسجد .. فقال: يارسول الله .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته قال عليه الصلاة والسلام: يا أبا ذر أعيرته بأمه .. إنك امرؤ فيك جاهلية .!!فبكى أبو ذر .. وأتى الرسول عليه السلام وجلس..وقال يا رسول الله استغفر لي .. سل الله لي المغفرة ثم خرج باكيا من المسجد ..وأقبل بلال ماشيا .. فطرح أبو ذر رأسه في طريق بلال ووضع خده على التراب ..وقال: والله يابلال لا ارفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك ..أنت الكريم وأنا المهان ..!! فأخذ بلال يبكي .. وأقترب وقبل ذلك الخد ثم قاما وتعانقا وتباكيا.. نماذج راقية ومواقف عظيمة تدمع أعيننا عندما نروي تفاصيلها .. فلم يكن ظهر وانتشر بعد من يقول إن في التورية لمندوحة أو يستمرأ التعريض في غالبية كلامه ليهرب من الاعتذار في موقف أخطأ فيه وأساء لنفسه أو للآخرين .. وهنا أنقل واقعة ذات مغزي كبير ذكرها الأستاذ محمد سلماوي في مقالة له بعنوان ( لن أزور اليابان ) ذكر فيها انه كان في زيارة لليابان لإلقاء محاضرة وأثناء استقلاله لأسرع قطار في العالم المسمى ب”قطار الطلقة” ما بين طوكيو والعاصمة القديمة كيوتو وقف على رصيف القطار بصحبه صديقه الياباني أشار إليه مرافقه الياباني ان يقف في المكان المخصص على الرصيف لباب العربة وفي الموعد المحدد بالضبط وصل القطار وجاء باب العربة في المكان المحدد له مع فارق بضعة سنتيمترات من حيث يقف سلماوي. فقال مداعباً لصديقه الياباني كيف يقف القطار بعيداً بضع سنتيمترات وليس إمامي تماماً، كيف يسمح بتلك الفوضى؟لم يكن يتوقع ان الشاب الياباني لم يفهم تلك الدعابة فلقد كست وجهة الحمرة خجلاً واخذ يتأسف لما حدث مؤكداً أن هذا لا يحدث إلا نادراً، ووعد بأنه سيخطر المسئولين حتى لا يتكرر ذلك ثانية.في الرحلة التي دامت اقل من ثلاث ساعات ظل يجيء ويروح للتحدث مع العاملين الذين جاءوا واحداً وراء الآخر ليعتذروا لسلماوي عما حدث وحين وصلا الى كيوتو وجد مدير المحطة ينتظره بنفسه على الرصيف ليقدم له هو الآخر اعتذاره عما حدث في محطة طوكيو ومؤكداً ان ذلك لن يحدث ثانية. واختتم سلماوي هذا الموقف تأكيده لصديقه الياباني انها مزحة ولكن الصديق الياباني بدا مندهشاً من تبرير سلماوي أنها مزحة فرد عليه سلماوي لأنها تحدث في بلادنا دائماً ولا أحد يعتذر فرد عليه الصديق الياباني رداً مفحماً يدلل عن سبب تقدم هذه الدولة الصغيرة ..قائلاً ولكنها لا تحدث في اليابان ..؟ بالطبع لانريد من أحد في بلادنا أن يبادر بالانتحار مثلما يفعل الوزراء والمسئولين اليابانيين عندما يخطئون ولكنها نريد فقط اعتذار عن الأخطاء لأنه تصحيح للمسار وإعادة اعتبار للحق والحقيقة ..ومجال هام للمراجعة والبناء لأن البناء علي التبريرات الخاطئة والأعذار الوهمية دون الاعتراف والاعتذار عن الأخطاء بناء هش ضعيف لن يقوي علي رياح الحقيقة والموضوعية ولن يرحمه التاريخ المنصف الأصيل .. يا سادة الاعتذار باب كبير من أبواب التواضع .. الاعتذار يصفي القلوب والنفوس ودافعاً لفعل الخير وللعمل الواضح الشفاف ... اعتذروا يرحمكم الله ...