من يتأمل الواقع العربي والإسلامي يجد أن الصورة ملبدة بالغيوم من كل جانب. الخلافات وعدم الالتزام بضبط النفس واحترام الآخر هي من أهم السمات التي تعترض مسيرة هذه الأمة التي تتجاوز أعدادها المليار ونصف المليار نسمة. تجاهل أمجاد هذه الأمة علي مدي التاريخ وأن عدم السعي لنبذ الخلافات وبذل أقصي الجهد لرأب الصدع أهم أسباب تخلف أبناء عالمنا العربي والإسلامي. ولاشك أن استلهام المسيرة الأولي لهذه الأمة علي يد سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده وقادة العالم الإسلامي أولي الرأي والحكمة هو السبيل للخروج من تلك الأزمات التي تواجه بلدان هذه الأمة في شتي بقاع الأرض. فقد كان احترام الآخر وأدب الحوار من قيم هذا الدين الحنيف لمعالجة المشاكل وبناء المجتمع علي أسس قوية لا تزعزها العواصف مهما تكن شدتها. ها هو رسول الله صلي الله عليه وسلم يضع اللبنات الأولي لنهضة هذه الأمة ولتظل نبراساً يهتدي به القادة والمصلحون الاجتماعيون. فحينما جاءه رجل مشترك يطالب ابن عبدالمطلب بدين له وتجاوز حدود اللياقة في هذه المطالبة بسداد المبالغ التي اقترضها منه رسول الله. مما أثار حفيظة عمر بن الخطاب فقام قاصداً وقف هذا الرجل عن هذا التصرف السيئ وذلك بما عرف عن ابن الخطاب من قسوة في مواجهة أي اختلال أو خروج علي الآداب العامة خاصة عند رسول الله. لكن رسول الله صلي الله عليه وسلم وقف بكرم أخلاقه وحسن تصرفه في مواجهة الأزمات والمشاكل التي تطرأ علي أرض الواقع. لقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم في منتهي الحكمة إذ وقف بكل قوة ضد تصرف عمر بن الخطاب ورفض ترويع أي إنسان مهما تكن عقيدته احتراماً لآدميته وإعلاء لقيم الإسلام التي تنشر العدل والأمن والطمأنينة بين الناس وتجعلها الأساس المتين في بناء العلاقات سواء بين المسلمين بعضهم البعض أو بين العالم الآخر. فقد قال صلي الله عليه وسلم لابن الخطاب: لا يا عمر.. يجب أن تأمره بحسن الطلب وتأمرني بحسن الأداء. بالله عليكم هل بين حكامنا في العالمين العربي والإسلامي من يستطيع أن يلتزم بهذا الأسلوب وتلك الحكمة التي حدد معالمها رسول الله صلي الله عليه وسلم وكانت من الدعائم الأساسية في رقي هذا المجتمع الإسلامي وحضارته التي كانت وستظل نبعاً يغترف منه العالم بشرقه وغربه. لكننا للأسف نلقي بها خلف ظهورنا. لم يكتف الرسول بهذه الكلمات التي حملت أسمي المبادئ في معانيها التي تقطر حكمة ونوراً. وإنما قال لابن الخطاب يجب أن تقدموا لهذا الرجل مقابلاً يساوي قيمة ترويعه. فأي إنسان مهما تجاوز في أوساط المجتمع المسلم لابد أن يكون حسن الخلق حجر الأساس لمواجهته دون ترويع أو إيذاء. والتساؤل الذي أسعي للتركيز عليه هو: هل التزمنا نحن بهذه القيم في حواراتنا التي تجري بيننا هذه الأيام؟ مع شديد الأسف الكل يأنس في نفسه أنه الأفضل بتولي إدارة الأمة سواء في مصر أو غيرها من البلدان متجاهلين الكفاءة التي حددت معالمها الآيات القرآنية وقام الرسول الكريم بتطبيقها دون تعسف أو تجاوز أو سباب أو التفاف عليها بأي صورة من الصور والأمثلة كثيرة ومتنوعة فقد كانت الكفاءة وقوة الرأي والحجة في مواجهة الأزمات إلي غير ذلك من الأمانة والضمير الحي اليقظ هو أهم المؤهلات في اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب. فعند اختيار الرسول لرجل يحمل راية المسلمين في معركة ضد المشركين أعلن أمام الجميع أنه سيسلم الراية غداً لرجل يحبه الله ورسوله وهو يحب الله ورسوله وبات المسلمون كل يتمني أن يكون هو الرجل الذي يقع عليه الاختيار وفي الصباح كان الإعلان يتضمن اختيار علي بن أبي طالب لهذه المهمة وقد نال اختيار الرسول تقدير الصحابة والمسلمين لأن علياً يستحق هذه المهمة لكفاءته وقوته في مواجهة الأعداء. وكذلك اختيار الرسول لابن أم مكتوم رغم أنه كان أعمي لتولي شئون المدينة في فترة غياب الرسول عنها وانشغال المسلمين بالمعارك التي تستهدف دعم بناء هذه الأمة. وهكذا كانت تصرفات الرسول صلي الله عليه وسلم تعتمد علي اختيار الأكفأ والأجدر دون التفات لآراء الغالبية الكاسحة. فها هو رسول صلي الله عليه وسلم حين أراد اختيار رجل يتولي شئون المسلمين في اليمن أخذ يتفحص الصحابة للوقوف علي رجل يتمتع بهذه الكفاءة لإدارة هذا الجزء من الأمة الإسلامية بحكمة وحسن تقدير. وحين وقع الاختيار علي معاذ ابن جبل استدعاه وعلي مرأي ومسمع من الجميع كان هذا الحوار: يا معاذ: بم تقض بين الناس إذا حدثت لديك مشكلة؟ قال بكتاب الله. قال الرسول: فإن لم تجد. معاذ قال: أنظر لسنة رسول الله قال صلي الله عليه وسلم: إن لم تجد؟ قال معاذ: اجتهد رأيي ولا أقصر مطلقاً. هنا انشرح صدر رسول الله وضرب معاذ في صدره إعجاباً وتقديراً قائلاً: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله. هكذا يكون الاختيار. إذ أن الاختيار لا يكون عن طريق الإنسان لنفسه كما نشاهد هذه الأيام وإنما الكفاءة وحسن السلوك علي مدي الأيام هي التي ترسخ المبادئ وتلك القيم من آيات القرآن الكريم التي نزل بها جبريل الأمين. فها هو سيدنا موسي صلوات الله وسلامه عليه حين تصرف مع بنات شعيب بأمانة وقوة كانت هاتان الصفتان هما الأساس في اختياره قرينا لإحدي بنات شعيب "قالت إحداهما يا أبت استأجره إنه خير من استأجرت القوي الأمين" انها المعياران في اختيار الأكفأ للقيادة سواء في مجال الأسرة أو الأمة فالطريق واحد. وقد كانت هذه المعالم واضحة في كل اختيارات رسولنا سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم كما كان قدوة لكل القادة الذين تولوا شئون هذه الأمة في مسيرتها. ونكتفي بذكر نموذج لمثل هذا التصرف لعله يضيء لنا الطريق ونحن نستعيد بناء مصرنا علي أساس من الكفاءة والأمانة وقوة الرأي والحجة في اوقات الخروج من الأزمات التي تواجهنا في شتي المجالات وحيث تحاصرنا بشدة كثرة الآراء وتشتت الرؤي والاجتهادات المتصارعة. هناك البعض يرشحون انسان لمهمة قيادة الأمة. فهل نستلهم هذه القيم وتلك المبادئ ونحن علي أعتاب اختيار رئيس لمصر.. يستطيع قيادة الأمة بعيداً عن الغلو والشطط والتطرف. فهل نستضيء بهذا التاريخ ونحن نبني واقعنا في هذه الأيام. إننا في أشد الحاجة للاستضاء بتلك القيم الخالدة. والله المستعان. دعاء اللهم ألهمنا الرشد والصواب في الفكر والقول والعمل. ونسألك اللطف في القضاء والقدر. اللهم أرزقنا الحلال وأبعدنا عن الحرام. اللهم يسر لنا الأمر وسهل الطريق. رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها عليّ وعلي والدي وأصلح لي في ذريتي. توفني مسلماً والحقني بالصالحين.