في رحاب الإسلام تمتع أهل مكة بنعم كثيرة وترسخت مبادئ وقيم لم يألفوها في ظل الجاهلية وعبادة الأصنام. وتنسم الجميع نسمات العدل والرحمة وتبادل الرأي والشوري في كل شئون حياتهم. وقد أرسي الإسلام القواعد التي تكفل قيام مجتمع متماسك تربط بين اعضائه الأخوة. فالمجتمع كإنسان واحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمي وصار للضعاف رأي وأصبحوا ينعمون بالحقوق التي كانت قاصرة علي أسيادهم والاغنياء الذين حرموا هؤلاء من هذه الحقوق كما لم يعيروا الضعفاء أي اهتمام. في نفس الوقت كانت تصرفات وسلوكيات سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم تؤكد ان الناس سواسية ولا فضل لإنسان علي آخر إلا بالعمل الصالح المفيد للفرد والمجتمع وقد عرف الناس المشورة والانتفاع بكل رأي لا فرق بين غني وفقير. وسادت قيم التواضع. فها هو رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوما لمحدثه عندما يشعر برهبة خلال لقائه الرسول. إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد من قريش. تواضعا واشارة الي انه بشر نشأ في مكة كأي فرد من أبنائها. كل ذلك يوحي ببناء رجال يتحملون مسئولية قيادة دولة مدعمة الأركان تنشر قيم الحق والعدل في الجزيرة العربية التي كانت الحروب لا تتوقف بين قبائلها والقوي يأكل الضعيف ويحتل مواقع العشب والري والنعيم بالخيرات حتي حرم منها طوائف كثيرة والبطش والقوة هي لغة التخاطب مع الآخر. وقد كانت المشورة هي التي حرص رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يغرسها في قلوب أتباعه. ولذلك أسرع الناس بالانضمام الي دعوة الحق. فبلال بن رباح العبد الضعيف أصبح له رأي وشأن مثل الذي كان يمتلكه.. الاثنان سواسية. وقد كان قول الله تعالي في سورة آل عمران دستورا لا يغيب عن خاطر أي مسلم "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل علي الله ان الله يحب المتوكلين" 159 آل عمران. في غزوة بدر وغيرها من المواقف تجلي ذلك بوضوح فعندما حطت جيوش المسلمين أمتعتها في أرض المعارك وقبل ان يستقر الجنود في مواقعهم تقدم أحد الصحابة من رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال له: هل هذا المكان الذي نزلنا به تم بناء علي أمر من وحي السماء أم هي الحرب والمشورة؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: انما هي الحرب والمشورة وهنا قال هذا الصحابي يا رسول الله هذا الموقع لا يصلح؟ فسأله رسول الله لماذا؟ قال الصحابي لأن هذا المكان يبعد عن الماء الذي لا يستغني عنه المحاربون بالاضافة الي فوائد أخري وبذلك ننعم بالمياه والاعداء يحرمون منها. وبعد استماع الرسول لقول الصحابي وجد ان الرأي صائب وفوائده متعددة. في التو واللحظة أصدر الرسول تعليماته لكل المشاركين في هذا الجيش بالانتقال الي الموقع الذي اختاره الصحابي. وبالفعل تحرك الجميع الي هناك وعرفوا صواب الرأي. لقد كان هذا المبدأ ملازما للرسول ولم يضق ذرعا بأن يخالف رأيه طالما أنه يحقق نفعاً وتندرج تحته مصالح تدعم بنيان المجتمع وقد كان صلي الله عليه وسلم يناقش كل صاحب رأي فقد جاءه شاب وقال بكل جرأة أرجو أن تبيح لي الزنا يارسول الله؟ لم يضق صدر رسول الله من طلب هذا الشاب وانما بكل رحابة الصدر قال للشاب: هل ترضاه لأمك؟ قال الشاب: لا. قال: هل ترضاه لأختك؟ قال الشاب: لا. وهنا قال له رسول الله صلي الله عليه وسلم كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم وأخواتهم. بعد هذا الحوار وتلك المصارحة أقلع الشاب عن هذه الأفكار وخرج من بين يدي رسول الله صلي الله عليه وسلم واقتنع برأي رسول الله. وغابت عن ذهنه تلك الأفكار الطائشة ولم يعد لها وجود في ذهنه. تلك بعض الجوانب المشرقة من تصرفات وسلوكيات الصادق الأمين صلي الله عليه وسلم. فجاء بناء الدولة الإسلامية علي أساس متين لا تزعزعه العواصف ولا تهز أركانه أي شدائد أو أمور عارضة وأي قضية كانت تطرح علي أرض الواقع ومهما تكن أهميتها فقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يستشير أصحابه ولم ينفرد برأي وانما كان يستمع لصاحب كل رأي ويناقش كل الأفكار وبعد مكاشفة وشفافية في المصارحة كانت تتبلور الصورة وتتضح الحقائق جلية. وينتقل المجتمع من الرؤي الضيقة التي كان يعيش في ظلالها أيام العهد الجاهلي. كما أنه لا مكان للإرهاب أو التطرف أو الغل أو الانفراد برأي. وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم رحيما متسامحا حتي مع أشد الأعداء خصومة.. فها هو كعب بن زهير قد هجا رسول الله بأبيات من الشعر لأنه كان ماهراً في هذا الفن الذي كان سائدا في تلك العصور وقد أهدر الرسول دمه هو ومن كان علي شاكلته. وقد أخذت الشفقة قلب "بجير" أخو كعب فبعث برسالة اليه: أخبره فيها بأن رسول الله قتل رجالا بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه. وأشار "بجير" الي ان من بقي من هؤلاء الشعراء قد هربوا في كل وجه. فإن كانت لك في نفسك حاجة فأسرع الي رسول الله فانه لا يقتل أحدا جاءه تائبا. بعد أن قرأ كعب بن زهير رسالة أخيه ضاقت به الأرض رغم رحابتها واشفق علي نفسه وأصيب بعض الأقرباء من كعب بالرجفة حينما وجدوه يرتجف من شدة الخوف واعتقدوا أنه مقتول. لكن كعبا تمالك أعصابه وخرج قاصدا المدينةالمنورة وأبدع قصيدته الشهيرة التي بدأها بقوله: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول ثم تتابعت أبيات القصيدة ومنها: مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم أذنب ولو كثرت في الأقاويل حين استمع الرسول الي تلك الكلمات المعبرة عما في صدر كعب عفا. ولم تأخذه شهوة الانتقام وانما كان الصفو والتسامح عند المقدرة هي القيم التي وضع لبناتها رسول الله صلي الله عليه وسلم فأصبحت مبادئ راسخة يتعلم منها المسلمون وغيرهم ويدركون ان الحياة لن تنعم بالأمن والاستقرار في مناخ الانتقام وتصفية الحسابات وانما ينمو الاستقرار وتترسخ قواعده في ظل الرحمة والتسامح. وبذلك تتقدم الأمم وتنهض وترتقي بتلك المبادئ. هذه المواقف المشرقة تضيء لنا الطريق في هذه الأيام قبولا من عدم قبول الرأي الآخر.. يجب ان يستمع بعضنا لبعض بكل الاناة وان تكون المصارحة وأخذ المشورة في أي قضية تتعلق بمستقبل الأمة هي الأساس. اعتقد اننا لو اقتدينا برسول الله صلي الله عليه وسلم فسوف ننتقل نقلات حضارية ونتخطي كل العوائق التي تعترض طريقنا بعد ثورة يناير. ان في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد. دعاء ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إنك أنت الوهاب. رب ارزقنا نعمة الرحمة والتسامح. ونعوذ بك من الكبر والحقد والحسد. ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ووساوس الشيطان وهواجس النفس البشرية.